المثقفون والثورة: الإنتلجنسيا كظاهرة تاريخية

 خدمة كمبردج بوك ريفيو
يختلف المرء مع نديم البيطار من الصفحة الأولى في مقدمة هذا الكتاب, إذ يشير إلى أنه لم يجد مبرراً لأن يجري أي تعديل على هذا النص المنشور في طبعته الأولى عام 1987 الذي يعاد نشره في بيروت دون إضافة ولا تحرير. موضع الخلاف أن إشكالية المثقفين ودورهم وعلاقتهم بالتغيير السياسي والاجتماعي تظل إحدى الموضوعات الساخنة وذات الجاذبية الخاصة لمزيد من النقاش والبحث والتنظير.


إعلان


– اسم الكتاب: المثقفون والثورة: الإنتلجنسيا كظاهرة تاريخية
– المؤلف: 
نديم البيطار
-عدد الصفحات: 239
الطبعة: 
الأولى 2001
الناشر: دار بيسان- بيروت

إعلان

ومنذ نشر هذه الدراسة في شكلها الأول منذ أربعة عشر عاماً وحتى الآن فإن المئات من الأبحاث والنظريات والمقاربات قد صدرت وأعادت النظر في هذا المبحث وفق التطورات الثقافية والسياسية والعالمية, وفي ضوء التجارب الإنسانية في العقدين الأخيرين. ليس هذا فحسب, بل إن عدم مراجعة أطروحات الكتاب, المصوغ من وجهة نظر ثورية يسارية, على ضوء فشل التجارب الثورية في العالم, وخاصة انهيار الاتحاد السوفياتي بعد صدور الكتاب في نسخته الأولى يشير إلى نوع من الدوغمائية التي تصر على عدم تضمين تحولات كبرى، مثل اختفاء الكتلة الشرقية وانعكاسها على الفكر العالمي والنظريات التغييرية، ومن ضمنها دور المثقف في "التغيير الثوري" الذي ينشده المؤلف. وهذه النظرة تترسخ عندما يخبرنا المؤلف أن ما تنشغل به هذه الدراسة هو "إدراك دور الإنتلجنسيا العربية في صنع النضال العربي وتحديد مسؤوليتها عن هذا النضال" (ص 5).

وبرغم وجود هذا التقرير في المقدمة بما يوحي أن الفصول اللاحقة سوف تتعرض إلى هذه الإشكالية الكبرى, فإن الغائب الأكبر عن هذه الفصول هو المثقف العربي ودوره, إذ إن معظم النقاش يدور على المستوى النظري البحت.

إضافة إلى هذا الخلل المنهجي, أي عدم تحديث الكتاب, ثمة خلل أكبر متعلق بتعريف الإنتلجنسيا نفسها. فهنا وفي هذا الكتاب المخصص لبحث دور هذه الطبقة, التي يعتبرها المؤلف "أداة أولى للعمل الثوري" (ص 12), لا نجد انخراطاً مقنعاً لتحديد مفهوم هذه الشريحة وتعريف معقول ومسهب لها. بل إن المؤلف يكتفي بإرجاعنا إلى هامش في أسفل الصفحة (12) يخبرنا فيه أن "المجال لا يتسع هنا لأي تحديد أو تحليل مفصل عام لكلمة الإنتلجنسيا". ويكتفي بالقول بأن الكلمة روسية عنت وصف طبقة من المثقفين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مارست النقد الفكري للأوضاع القائمة، ورفضت النظام القائم آنذاك. كيف يمكن قبول هذا التبرير بأن المجال لا يتسع لتعريف المفردة الأهم في هذا البحث, وأين يمكن أن يتسع المجال إذن لمثل هذا التمرين المطلوب؟.

ولا ندري أيضاً مدى انطباق التعريف الروسي المبتسر على أي "إنتلجنسيا عربية", وما هي مكونات هذه الطبقة من المثقفين؟ وهل يندرج فيها القوميون والإسلاميون والليبراليون الذين ينقدون الأوضاع القائمة ويعارضونها أم أن تلك الإنتلجنسيا محصورة بطبقة اليسار الثوري -إن وجد- والتي يعنيها المؤلف بشكل مباشر أو غير مباشر؟.

وبسبب هذا الغموض الذي وسم الطبقة التي يتحدث عنها الكاتب, مضافاً إليه ندرة الاستشهادات بالكتابات العربية التي أنتجتها "الإنتلجنسيا العربية" فإن القارئ يشعر بأن البحث أقرب إلى التمرين الذهني التجريدي من أن يكون دراسة في السوسيولوجيا السياسية للعالم العربي، وإشكالية التغيير فيه، ودور اللاعبين سواء أكانوا طبقات أم فئات أم حكومات. فلا دراسات محمد عابد الجابري عن "المثقفون في الحضارة العربية", ولا نظيرتها عند غالي شكري حول "المثقفون والسلطة" ولا العدد الذي لا يحصى من المقاربات العربية حول هذا الموضوع يجد له موطئ قدم بالإشارة أو التعليق, مما يزيد من اغتراب الدراسة عن الواقع الذي تريد مناقشته.

إضافة إلى ذلك, فإن إهمال نقد إدوارد سعيد لـ "صور المثقف" أو مراجعات روجيه دوبريه الحديثة لموقع المثقف وعلاقته بالإعلام والسلطة يقلل من القيمة الراهنة لهذه الدراسة. ولا يعفي المؤلف هنا محاولة عقد المقارنات التشابهية بين دور الإنتلجنسيا في روسيا وبلدان الكتلة الشرقية، ودور نظيراتها في البلدان النامية في حقب الخمسينات والستينات. إذ ببساطة لم يعد لمثل هذا التشبيه معنى في القرن الحالي، حيث تتشتت تلك الإنتلجنسيا, بفرض أنها وجدت, وتنطحن مع دولاب الحياة الاجتماعية والسياسية خاصة مع غياب الراعي السوفياتي الأكبر. بل إن دور المثقف في العالم غير الاشتراكي صار موضع تساؤل كبير.

إعلان

ويشير جون كين -الأكاديمي البريطاني وأحد أهم مؤرخي المفكر الكبير توماس بين الذي يشيد نديم البيطار بثوريته وقطعه مع النمط السائد في التفكير باعتبار أن تلك هي مهمة المثقف- يشير كين إلى تراجع دور المثقف أمام سلطة الإعلام وثورة المعلومات.


يدعو المؤلف إلى أن يتوجه صراع الإنتلجنسيا العربية المركزي ضد التجزئة وتناقضها مع الوحدة, وإن لم تنجح في هذا الصراع فإنها تخون ليس فقط ذاتها ودورها كأنتلجنسيا, بل تخسر إنسانيتها نفسها
ويظل السؤال المركزي الذي لا نجد إجابة عنه في هذا الكتاب هو: ما هي الإمكانية الحقيقية لبروز دور تغييري مركزي للمثقفين العرب في ظل الأوضاع القائمة؟. وهل يستحقون حقا كل هذا النقد الشرس الموجه لهم، وتحميلهم المسؤولية الكبرى في حصول التخلف والتجزئة والتبعية للخارج كما نلمح سواء في مقدمة الكتاب أو خاتمته أو في التمهيد للكتاب القادم للمؤلف حول "سقوط الإنتلجنسيا العربية"؟
إعلان
 
طبعاً تزداد محاولة الإجابة على هذا السؤال صعوبة بسبب عدم تحديد من هم المثقفون الذين يقصدهم المؤلف, خاصة وأنه يضع لهؤلاء المثقفين برنامجاً أيديولوجياً وسياسياً محركه الأساسي الثورة والوحدة, وباعتبار أن أيا من المثققين يحيد عن هذا البرنامج فإنه خارج عن التاريخ والجغرافيا, بل وعن الإنسانية. فالمؤلف يدعو, مثلاً, إلى أن يتوجه "صراع الإنتلجنسيا العربية" المركزي ضد التجزئة وتناقضها مع الوحدة, وإن لم تنجح في هذا الصراع فإنها "تخون ليس فقط ذاتها ودورها كأنتلجنسيا, بل تخسر إنسانيتها نفسها" (ص 231). فهل هذا يعني أن مئات -إن لم يكن آلاف المثقفين العرب الذين يؤيدون "دولة التجزئة" كضرورة تاريخية مرحلية مثلاً, أو لا يؤمنون بمنطق الثورة ويقدمون عليه منطق التغيير التدريجي- هم خارجون عن "الأنتلجنسيا العربية" رغم أنهم ينتقدون الأوضاع التي يعيشونها ويعانون من نقمة الأنظمة ضدهم؟

يتابع المؤلف بعمق فريد في الفصول الأولى من الكتاب تطور طبقة الإنتلجنسيا في التقليد الثوري اليساري, السوفياتي أو الصيني أو الأوروبي الشرقي. وعندما يعالج موضوعات "جدلية التخلف الموضوعي الثوري" و"الإنتلجنسيا كحاملة للوعي" (ص 62) فإن القارئ يبحر معه في رحلة شيقة عبر السجالات الماركسية واللينينية والماوية حول أدوار الطبقات المختلفة في إحداث الوعي الثوري ومن ثم التغير, وكذا في طروحات ألكسيس دو توكفيل حول الثورة الفرنسية وافتراقاتها عن الثورة الأمريكية. لكن الجانب الناقص في هذا الجدل المثير هو الربط مع الواقع العربي وواقع "الإنتلجنسيا العربية" ومدى انطباق السياقات التاريخية الروسية أو الصينية أو حتى الأوروبية الغربية على العربية، وما النتائج التي يمكن الخلوص إليها, عملياً وليس نظرياً وتجريدياً, فيما يخص دور المثقفين العرب في التغيير في حقبة اوائل القرن الواحد والعشرين؟.

ومن حق القارىء أن يتساءل عن الحلقة المفقودة بين هذا النقاش والواقع العربي في ظل تأكيد المؤلف على أنه لا حاجة لتعديل أي شيء في الكتاب، وبالتالي بقاء صلته بالواقع كما كانت عليه, افتراضاً, سنة صدوره الأولى. وهذا التساؤل يأخذ أبعاده عند مقارنة فصول الكتاب المختلفة مع الهدف المعلن في المقدمة. فهناك نقاشات موسعة عن مقومات وأوضاع الأنتلجنسيا بما فيها التصورات المستقبلية (نسبة إلى سنة 1987 طبعاً), وعزلة الإنتلجنسيا عن الممارسة العملية, وظاهرة الاغتراب, وعقدة هاملت, وعقدة الشعور بالظلم, والقمع الفكري. ثم أيضاً هناك المعالجات الموسعة فيما يخص علاقة البروليتاريا بالأنتلجنسيا, متضمنة التجارب الماركسية والفوضوية والأبعاد الاقتصادية.

وكل هذا الجدل يدور في سياق النظريات والتطبيقات السوفياتية, أو الصينية, أو الأوروبية الشرقية، وفي إطار المجتمع (أو المجتمعات) الماركسية في حقبة الحرب الباردة. وبعد ذلك كله, ينحصر النقاش حول "الأنتلجنسيا العربية" في فصل الخاتمة, في بضعة صفحات مبتسرة (ص 229-237) لا توفي النقاش حده الأدنى. وبذلك يبدو البعد العربي, وهو الهدف الأساسي من الكتاب, مقحماً على هذه الدراسة التي هي بالتأكيد شيقة ومفيدة لو اقتصرت على الجدل النظري في إطار النقاش حول دور المثقفين الماركسيين في عملية التغيير في التجربة الاشتراكية.

المصدر : غير معروف

إعلان