أسباب غياب المسألة الأمازيغية عن موريتانيا
رغم كل ذلك لا يجد المتابع أي ذكر للأمازيغية أو فروعها لا ثقافيا ولا سياسيا في موريتانيا اليوم! فما أسباب عدم وجود الحقبة الأمازيغية في الذاكرة الموريتانية؟ هل هو غياب أم تغييب؟ وهل هناك إرث أمازيغي في موريتانيا؟ إن كان الجواب نعم فما هو؟ ولماذا لا يقدم للحياة العامة؟ وإن كان الجواب لا، فلماذا هو غائب وغير موجود؟
قدمت قبائل صنهاجة إلى موريتانيا ضمن هجرة البربر التي غادرت أفريقيا الشمالية خلال القرن الثالث المسيحي وتوجهت نحو الغرب، وبدأت احتلال الصحراء من الشمال.
ومنذ الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا وصلت سرايا الفاتحين إلى التخوم الصحراوية في عهد عقبة بن نافع ثم بشكل أعمق مع أحفاده ومع بعض الفاتحين القادمين من السوس.
وقد عُرفت قبائل صنهاجة في تلك العهود بقبائل الملثمين نسبة للثام الذي كانوا يلتزمونه، كما سميت بلادهم تبعا لذلك بلاد الملثمين.
وستنتشر أخبار هذه القبائل انتشارا قويا مع صعود دولة المرابطين من أعماق موريتانيا في القرن 5هـ /11م على يد الداعية عبد الله بن ياسين والقادة الصنهاجيين من قبيلة لمتونة: يحيى بن عمر وأخيه أبي بكر ويوسف بن تاشفين وأحفادهم.
وكان وجود اللغة العربية خاصا بالأسر المتعلمة لا سيما في المدن ذات الوظيفة التجارية مثل: أوداغست وكومبي صالح في عهد المرابطين، ثم في المدن التي ازدهرت بعدها كولاتة وتنبكتو.. لكن الهجرة الهلالية الشهيرة ستقذف إلى البلاد
الموريتانية بموجة من قبائل الأعراب ستغير هوية المنطقة إلى الأبد.
وقد أرغمت القبائل الصنهاجية المهزومة بعد صراعها مع قبائل بني حسان العربية على التفرغ للنشاطات التجارية والشؤون العلمية والدينية.
وأصبح المجتمع الموريتاني مكونا من طبقات أعلاها طبقة المحاربين وتسمى العرب أو حسّان وأغلبها من القبائل الحسانية المهاجرة التي احترفت الغزو والنهب.
لا يمكن فهم غياب المسألة الأمازيغية عن موريتانيا اليوم إلا بتقديم تفسير تاريخي وفكري للطريقة التي تم بها انتشار العربية وعادات الأعراب ونحلة عيشهم بين السكان المحليين.
" أسهمت قلة المرتفعات في البلاد الموريتانية في سرعة التعرب حيث كانت السيطرة العربية على البسائط والسهول أكثر" |
أ – التعرب
لا نعرف تحديدا التاريخ الذي أصبحت فيه اللغة العربية الدارجة المسماة الحسّانية تحكى في البلاد الموريتانية، لكن الراجح أن ذلك تم بشكل تقريبي مع القرن 8هـ/14م لكنه لم يصبح واضحا جليا إلا مع القرن 11هـ/17م بعد أن أكملت القبائل الحسانية سيطرتها على المنطقة.
ومن الباحثين من يرى أنها كانت حركة تعرب سريع وعميق. ونحن نستعمل كلمة التعرب لا التعريب إشارة إلى ما تتسم به هذه الحركة من عودة الفعل على فاعله كما يقول الصرفيون، أي أن القبائل العربية المسيطرة لم تبذل جهدا منظما لتعريب سائر مواطنيها، ولم تحمل معها معارف ولا دعوة، لأنها قبائل بدوية محاربة شأنها الحرب والغزو.
فقبائل الزوايا قد تعربت: أي عربت أنفسها، متأثرة في ذلك ولا شك بالوضع الاجتماعي والسياسي الناجم عن سيطرة بني حسان، لكن الجانب العقدي واللغوي من هذا التعرب لم يكن فيه أي دخل للإرادة السياسية الحاكمة. ويرى آخرون أن هذ التعرب كان نتيجة عاملين متداخلين:
-
سياسي راجع إلى أن التدين الممتاز والانتماء العربي أصبحا ضرورة من ضرورات الانعتاق الاجتماعي بعد السيطرة الحسّانية، فبالأول تكتسب الهيبة في قلوب الحاكمين وبالثاني تحصل القطيعة الكاملة مع الماضي البربري المهزوم.
-
ديني ويتمثل في دور المعارف الإسلامية في خلق نزوع إلى تمجيد العرب وإبراز الانتماء إليهم وكأنه فضيلة كبرى.
ويرى أصحاب هذا الطرح أن شدة وطأة العرب الحسّانيين وبطشهم بالسكان المحليين رغم المقاومة التي أبدوها مدة قرون، بث الرعب من العرب في النفسية الصنهاجية ورسخ حالة من "التقية" لضرورة التعامل مع السادة الجدد.
" انتقل الصنهاجيون بموريتانيا من تقليد الانتساب للأم إلى تقليد الانتساب للأب! بوقع المثاقفة مع العرب الوافدين " |
ويبدو أن اللغة العربية قد قامت بذلك الدور منذ القديم "صفقات التجار في أوداغست"، لكن انتشار الحسانية ودوره في تطوير العربية أدى إلى "الانتقال من الاقتصاد الشفاهي إلى الاقتصاد الكتابي". فصارت العربية لغة التجارة ولغة الفقه أي المعاملات والعبادات، ثم لم تلبث أن صارت لغة الشارع نفسه.
حاولت السيطرة على الجبال والهضاب.
والحق أن هناك عوامل مختلفة متساوقة أسهمت في صياغة المجال اللغوي والحضاري للمجموعة الموريتانية القديمة صياغة جديدة أحدثت قطيعة صارمة مع العصر الصنهاجي "البربري" ووفرت عناصر إدماج قوية ذاتية وخارجية في العهد العربي.
ولذلك أصبحت هناك وبشكل قوي مظاهر تبني التراث العربي الذي قامت عليه الحياة الثقافية في موريتانيا وأصبحت أنساب العرب وأيامهم وعلوم لغتهم ودواوين شعرائهم دعائم لثقافة الموريتانيين.
وكان وقع تلك المثاقفة قويا على شجرات الأنساب الصنهاجية حيث تعربت بسرعة وانتقل الصنهاجيون من تقليد الانتساب للأم إلى تقليد الانتساب للأب!
ومن هنا أصبحت أنساب أغلب القبائل الصنهاجية أنسابا عربية ترتفع إلى اليمانيين أو المضريين. ويذهب بعض الباحثين إلى أن تدرج الأنساب من الأنصارية إلى القرشية العامة إلى الشريفية في تقاليد البيضان المروية والمكتوبة، كان بالتساوق مع تطور العصبيات السياسية في المغرب الإسلامي وتردد أصداء ذلك الصراع في الصحراء.
هناك قبائل تصرح بأصلها المرابطي "اللمتوني" لكنها تأنف بل ترفض نسبتها للبربر، ولعل ذلك راجع لاعتبارها الأصل اللمتوني محيلا على الأصل الحميري، حيث كان قادة الدولة المرابطية من لمتونة يفتخرون بأصلهم اللمتوني الحميري!
ويؤكد النسابة عروبة صنهاجة وكتامة وأنهما دخلتا بلاد المغرب قبل الإسلام في عهود قديمة بعد انفجار سد مأرب، ويلحّون على حميرية القبيلتين. أما القبائل الموريتانية "الزاوية" الكثيرة فتأنف من النسب اللمتوني ذاته وتربط أجدادها برجال من العرب الخلص: قرشيين أو يمانيين.
ومنذ ميلاد الدولة الموريتانية الحديثة ازداد اهتمام تلك القبائل بتوكيد تلك الأنساب، وتضاعف الاهتمام مع المرحلة السياسية التعددية في العشرية الأخيرة من القرن الماضي تبعا
لتوظيف القبيلة في الصراع السياسي والمغانم المترتبة عن ذلك.
" ظل الطرح الاستعماري للأمازيغية في موريتانيا محصورا في الأدبيات التي كتبها الإداريون، ولم يتنزل إلى الواقع المعيش " |
لم يسع الاستعمار الفرنسي إلى خلق "حالة أمازيغية" في موريتانيا، بفعل أسباب موضوعية منها:
-
ارتباط العرف المحلي بالاختيارت الفقهية للمذهب المالكي، ولذا لم تكن هناك حالة فراغ تشريعي كتلك التي كانت قائمة في المغرب مثلا بين بربر الجبال وسكان المدن، ووفرت مناخا لتطبيق ما عرف "بالظهير البربري" بالمغرب وسعت من خلاله إلى تطبيق العرف المحلي بدل الشريعة الإسلامية في "القبائل ذات العوائد البربرية" مع توسيع نفوذ المحاكم الفرنسية -في المغرب- بحيث يصبح من اختصاصها "النظر في زجر الجنايات التي يقع ارتكابها في النواحي البربرية مهما كانت حالة مرتكبي الجناية".
-
قام الاستعمار الفرنسي في موريتانيا "بإصلاح" القضاء والتمييز بين القضاء الأهلي "الشريعة" والمدني "الفرنسي" سعيا لعلمنة المجتمع وليس لتكريس "ظهير بربري" آخر لانتفاء مقوماته.
لكن الباحثين الاستعماريين ظلوا يسعون إلى نشر تفسيرهم لتاريخ المنطقة لتكريس الفصل بين سكانها، فقد ذهبوا تحت تأثير وهم -مبدأ الصراع الأزلي بين "العرب" و"البربر"- إلى فكرة الربط بين "الزوايا" وصنهاجة وأضافوا إليها روايات حول الحروب بين الطرفين ليخلصوا إلى نتيجة مؤداها أن "الزوايا" هم البربر المسالمون المنتجون في مواجهة العرب الكسالى "المخربين". لكن الطرح الاستعماري حول الأمازيغية في موريتانيا بقي
محصورا في الأدبيات التي كتبها الإداريون ولم يتنزل للواقع المعيش.
منذ الاستقلال ازداد الحرص على الانتساب العربي في الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20م مع المد القومي الناصري والبعثي، وتم السعي في الأدبيات القومية المحلية لتذويب بؤر التوتر "التاريخية" بين العرب والزوايا، بل جرى الحديث عن عروبة الأرقاء السابقين وعن الأصل العربي لبعض الفئات الزنجية كقبائل الفولاّن: "الفولبه"!
وقد ظلت الثنائية عرب/زنوج هي التي تحكم "المسألة الثقافية" في موريتانيا الراهنة، ولم يحدث أن تم الحديث عن ثنائية عرب/بربر لا سياسيا ولا ثقافيا.
ومن هنا لم يكن موضوع الأمازيغية لغة أو أصولا مطروحا لا في الدستور ولا في الحياة الرسمية ولا حتى لدى الأحزاب. ولذلك فدستور 20 يوليو/ تموز 1991 حسم تحديد اللغة الرسمية بالعربية واللغات الوطنية، ولم يطرح الاعتراف بالصنهاجية.
كما أنه ليس هناك حزب يتحدث في دستوره ولا برامجه أو نشراته عن الأمازيغية من قريب أو بعيد، لأن الجماهير المحلية ليس بينها من يقدم نفسه كمعني بالموضوع.
وهكذا بقي النقاش حول الأمازيغية في موريتانيا شأن قلة من المثقفين غالب اهتمامهم بالموضوع أكاديمي بحت، وإن كان بعضهم يسعي من جديد لإعادة طرحه ولو من باب النقاش النخبوي. لكن المعنيين بهذا الطرح ما زالوا قلة كما أن مشاركة بعضهم في الكونغرس الأمازيغي السنوي بقيت رمزية، بل إنهم حرصوا على عدم ذكر أسمائهم في كشوف المؤتمرين، مما يدل على تحرج محلي أكثر منه خارجي!
غير أن ذلك لا يمنع من طرح الأمازيغية مستقبلا في موريتانيا لاسيما إذا ازدادت الليبرالية السياسية تجذرا، خاصة إذا صح أن هناك نشأة لتيار آخر ينزع نحو تمجيد الأصول الحسّانية وينادي بإحلال عرب الأمس مكانتهم التي يستحقونها في رأيه.
وفي كل الأحوال فالمسألة الثقافية الموريتانية ستكون أكثر تعقيدا وستنحو منحى طائفيا أكثر من أي شيء آخر.
_______________
باحث موريتاني