ملغى

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
الدرس المهم الذي يتضمنه هذا الكتاب هو دور النخب السياسية في تحديد مستقبلات بلدانها, وآليات إتخاذ القرارات المصيرية وأهمية عنصر العامل الشخصي في اللحظات التاريخية والذي قد يؤدي إلى إنقاذ أو هلاك بلد ما.

غلاف الكتاب

-اسم الكتاب: النخبة السياسية البريطانية والاتحاد السوفيتي
1937-1939
–المؤلف: لويز غريس شو
-ترجمة: بسام مقداد
-عدد الصفحات: 224
-الطبعة: الأولى 2003
الناشر: فرانك كاسلينز, لندن

أوروبيا, وفي إطار السياسة الدولية في القرن العشرين، ثمة كثير من الأدبيات الغربية, وخاصة البريطانية, الخاصة بحقبة الحرب العالمية الأولى والثانية تحمل النخبة الحاكمة البريطانية مسؤولية تقاعس السياسة البريطانية إزاء بروز القوى الفاشية الأوروبية وخاصة ألمانيا وإيطاليا.

ومن الكتب الهامة تاريخيا في سياق مثل هذا النقاش كتاب "الرجال المذنبون" الذي صدر باكرا جدا في عام 1940 وكانت نتيجته أن انطلق نقاش حاد حول جوانب الخطأ والصواب في تلك السياسة, ولا يزال النقاش يثور حادا مرة وهادئا مرة أخرى إلى يومنا هذا.

كانت نقطة الانطلاق هي توجيه اللوم إلى تشامبرلين, رئيس الوزراء البريطاني آنذاك, وحكومته لإخفاقهم في إعداد بريطانيا للحرب. لكن الاستيعاب التاريخي للسياسة الخارجية البريطانية في فترة الحرب وما سبقها دفع بالتدريج صوب رؤية أكثر توازنا تؤكد على القيود الهيكلية التي كانت تحد من مساحة المناورة البريطانية إلى جانب ما شهدته تلك الحقبة من إقرار واسع النطاق بأحقية المطالب الألمانية.

الكتاب الذي بين يدينا هو آخر الاسهامات التي ظهرت لحد الآن في ذلك النقاش الطويل. وفيه تسعى المؤرخة الأوكسفوردية لويز غريس شو إلى العودة بالجدال إلى نظرية "الرجال المذنبون." فبدلا من القبول بما يقال عن مسؤولية تشامبرلين ورفاقه عن إهمال الوضع التسلحي البريطاني, تتبع شو خطا هجوميا آخر يرى أن تشامبرلين وحكومته قد سمحوا لمواقفهم الازدرائية المسبقة من الاتحاد السوفيتي بأن تعميهم عن الحاجة الاستراتيجية التي كانت تدعو إلى عقد تحالف مع ستالين.

ولنبدأ من البداية حيث كان الوضع الدولي في أواخر ثلاثينات القرن الماضي مفعما بالأخطار والمشاكل. وقد انطبق ذلك بشكل خاص على بريطانيا العظمى.

فالامبراطورية التي امتدت ممتلكاتها على امتداد العالم باتت تواجه في ظهور الديكتاتوريات الفاشية تهديدا مباشرا ضد مصالحها ومناطق نفوذها إضافة إلى التهديد الذي صار يواجه بقاءها كقوة امبريالية.

كانت اليابان تهدد سنغافورة, وإيطاليا تهدد جبل طارق والمضايق, في حين كان شبح الهيمنة الألمانية يخيم على أوروبا. إزاء هذا الوضع العصيب, شعر ساسة الامبراطورية بأن عليهم تحقيق توازن من نوع ما يتيح لهم مواجهة أحد التهديدات على جبهة من الجبهات وتهدئة الأمر على الجبهة الأخرى.

وبناء على ذلك, سعت الحكومة البريطانية المحافظة آنذاك إلى "ترضية" البعض والتعامل مع البعض الآخر. ومن هنا فقد تُركت اليابان لشأنها معظم الوقت, مع إبقائها تحت عين الحذر. ووضعت الخطة تلو الأخرى لبناء قاعدة بحرية جديدة في سنغافورة, لكنها ما لبثت أن أهملت جميعا.

وفي الوقت نفسه بُذلت مساع حثيثة لكسب ود إيطاليا. وسعى وزير الخارجية آنذاك انتوني ايدن ومن بعده اللورد هاليفاكس الذي أعقبه في منصبه بعد استقالته عام 1938 إلى التوصل إلى اتفاق مع موسوليني.

وتمت الموافقة على تلبية مطالب القوميين الاشتراكيين في ألمانيا التي وصفت بأنها "مشروعة" والتي تدعو إلى ضم المناطق التي تقطنها أغلبية متحدثة بالألمانية على أمل أن يمكن ذلك الاغلبية "المعتدلة" داخل الرايخ الثالث من كبح المتطرفين وردعهم عن المزيد من التوسع عن طريق القوة.

واستثنت بريطانيا كلا من الاتحاد السوفيتي وفرنسا من المفاوضات. كان الأمل معقودا على أن تؤدي هذه المساعي إلى سلام عالمي يعيد تهيئة الظروف اللازمة لاستعادة حركة التجارة والرخاء.

شخصنة السياسة


كان رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين ينظر إلى الاتحاد السوفيتي على أنه دولة من الدرجة الثانية, ومن هنا فهو لم يبذل جهدا حيويا في السعي لكسبها

بعد أن استبعد تشامبرلين روسيا السوفيتية من اتفاقية ميونيخ عام 1938, اضطر إثر قيام الألمان باحتلال براغ في مارس/ آذار 1939 إلى أن يسعى لخطب ود روسيا.

أقبل الطرفان على المفاوضات بفتور, وعندما لم يتمكنا من التوصل إلى اتفاق, اختار ستالين عقد معاهدة عدم اعتداء مع ألمانيا في شهر أغسطس/ آب 1939. وهنا تجادل الدكتورة شو بأن تحالفا مع السوفييت كان من شأنه أن يكون بالغ الأهمية بالنسبة لبريطانيا, لكن الفرصة ضاعت ليس بسبب أية عوائق رسمية, إنما بسب العداء الشخصي الذي يكنه للسوفييت كل من تشامبرلين, وهاليفاكس, وأغلبية أعضاء الحكومة البريطانية.

وهي تؤكد هنا إمكانية تجاوز تلك القناعات الفردية المسبقة أو تجاهلها وتورد عددا من الأمثلة عن مسؤولين آخرين مثل السير روبرت فانسيترات من وزارة الخارجية والسياسيين المعارضين في حينه مثل السير وينستون تشرتشل الذين كانوا يناصبون الاتحاد السوفيتي العداء على أرضية أيديولوجية لكنهم, رغم ذلك, استطاعوا تقييم الوضع الدولي على نحو أفضل وأكثر موضوعية وخلصوا إلى الاعتقاد بضرورة إبرام تحالف مع ستالين.

إنها وجهة نظر جديدة وجديرة بكل اهتمام, كما أنها تقود إلى فهم أفضل للكثير من الأمور التي ظلت عالقة لحد الآن. كان تشامبرلين ينظر إلى الاتحاد السوفيتي على أنه دولة من الدرجة الثانية, ومن هنا فهو لم يبذل جهدا حيويا في السعي لكسبها. بل إنه كان يبخل على ستالين حتى بالمجاملات الدبلوماسية التي كان يقدمها لدول ورؤساء أدنى شأنا.

رغب تشامبرلين من كل قلبه بأن تفشل المهمة التي اضطلع بها الأدميرال دراكس في روسيا, ورفض إرسال أي مسؤول ذي شأن للتفاوض مع السوفييت. وعندما اتضح أن مجلس وزرائه يريد محاولات أكثر جدية لكسب روسيا, عمد تشامبرلين إلى تهميش دور الحكومة في اتخاذ القرارات التي تخص وزارة الخارجية.

وبعد أن قدم كبير الموظفين توصية بعقد تحالف أنجلو سوفيتي قام تشامبرلين بحجب التوصية المذكورة. وتسوق الدكتور شو أدلتها بمهارة حتى أنها لا تترك أمامنا متسعا للشك حول خضوع نيفيل تشامبرلين لتأثير المشاعر المعادية للسوفييت التي كانت تستعر في صدره.

بين الأيديولوجيا والسياسة


لا تطلق التهديدات إلا إذا كنت قادرا على تحمل نتائجها

إلا أن ثمة مبالغة كبرى في الحجم الحقيقي الذي لعبته تلك المشاعر الشخصية, كما أن أثرها على الأحداث اللاحقة يبدو مضخما جدا . نعم, كان تشامبرلين شديد العداء للاتحاد السوفيتي, والمؤلفة تظهر أثر ذلك ببراعة لافتة للنظر.

لكن مستوى انتشار العداء الأيديولوجي للسوفييت بين النخب السياسية البريطانية ليس كما تصوره المؤلفة, ومن أجل هذا نجدها تلجأ إلى وسائل مشكوك في قيمتها البحثية من أجل دعم وجهة نظرها.

تستقي المؤلفة قرائنها من الواقع الفعلي, وترفض التسليم بأن امتناع أي لاعب مهم عن الدعوة العلنية الى تحالف مع الاتحاد السوفيتي يمكن ان يعود إلى أي دافع آخر غير الموقف المعادي المسبق.

فعندما اعلن هاليفاكس أن بامكان روسيا أن تبث الرعب في قلب ألمانيا وإيطاليا لو أنها قامت بضمان سلامة بولندا تمتنع المؤلفة عن اعتبار ذلك تقييما واقعيا لما هو ممكن, وتصر على اعتبار التصريح دليلا على إخفاق هاليفاكس "في تجاوز مواقفه المعادية المسبقة."

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن المؤلفة قد أشارت في مقدمة الكتاب إلى وجود عدد من العوامل المختلفة التي تعيق قيام تحالف أنجلو سوفيتي. فأغلبية الوزراء كانوا يعتقدون بأن بريطانيا أضعف من أن تتحمل أعباء الحرب, كما أنهم كانوا يخشون من أن تؤدي مثل هذه السياسة إلى شل الاقتصاد.

إن ما تطرحه المؤلفة حول احتمالات نجاح المناورة والخداع يتعارض مع المبادىء التي التزمت بها السياسة الخارجية البريطانية على مدى مئتي عام وهي: "لا تطلق التهديدات إلا إذا كنت قادرا على تحمل نتائجها."

كما أن حجة المؤلفة تظهر عجزا عن فهم طبيعة النظام النازي. إن وجود شخص متعطش للقتال مثل هتلر على سدة الحكم في المانيا, وما كان يكرره بمرارة من أسف على انه خسر فرصة شن الحرب عام 1938 نتيجة "خديعة" لن يغفرها, يجعل أي تحالف يمكن أن يفهم على أنه موجه ضد الألمان سببا كافيا لاندلاع الحرب بين بريطانيا وألمانيا.

وأخيرا تنتهي المؤلفة إلى الخطأ في فهم تشامبرلين نفسه. صحيح أنه كان شديد التحامل على السوفييت, وأنه عمل عن قصد على تخريب المفاوضات معهم, لكن دافعه الاول إلى ذلك لم يكن الرغبة في تجاهل السوفيت بقدر ما كان الحرص على تأمين السلام.

وتؤكد البحوث التي تنشر في الآونة الأخيرة أن تشامبرلين لم يكن يصر بشدة على إعلان الحرب عام 1940, وأنه ظل حتى تلك المرحلة المتأخرة يأمل في إمكانية التوصل إلى تسوية عن طريق إرضاء المطالب الألمانية المشروعة والعودة إلى التجارة الحرة.

وهكذا, وبالرغم من معاداته للاتحاد السوفيتي, فإن مصدر قلقه الاول انصب على إمكانية أن يؤدي تحالف أنجلو سوفيتي إلى إقناع العناصر "المعتدلة" داخل النظام النازي بأنهم قد أصبحوا مطوقين مرة أخرى.


ما يصعب متابعته هو دقة الدور الذي تلعبه نخبة ما في تحديد مصائر البلد الذي تقوده, سواء في صوابية عقد التحالفات والذكاء في إستكناه الفروقات الملتبسة في اتخاذ القرارات

كما أن هناك نقطة اخرى فاتت المؤلفة، ف في تجنبها للمعالجة السيرية, أهملت دراسة شخصيات اللاعبين المهمين ولم تعر اهتماما يذكر للاعتبارات التي كانت تحركهم. وبدلا من عنايتها بهذا الجانب, نجدها تقدم قائمة طويلة بالتقييدات التي تشل السياسة الخارجية البريطانية, وتنطلق منها إلى رفض حاد لوجود أية محاولة من قبل أولئك اللاعبين لممارسة أي تأثير من أي نوع.

وفي سعيها لاثبات وجهة نظرها, نجدها تقدم أمثلة عن ساسة مثل وينستون تشرتشل الذي كانت له القدرة على تجاوز "تحامله المسبق." وتنطلق من ذلك إلى القول بأنه كان من الأجدر بالوزراء أنفسهم أن يحذوا حذو هؤلاء الساسة ويقومون بما قاموا به.

إن مثل هذا المنطق يبدو مضحكا بدون شك. فالوزراء البريطانيون لم يكونوا ضد الحصول على المزيد من الأمن, لكنهم برفضهم التحالف الأنجلو سوفيتي كانوا يقفون ضد فقرات يمكن أن تجلب عليهم المزيد من عدم الاستقرار. من بين تلك الفقرات مبدأ حمل اسم "العدوان غير المباشر" على الاتحاد السوفيتي من قبل جيرانه, وهو مبدأ يصل إلى حد تخويل ستالين مهاجمة أية دولة يعتبرها معادية له. أما الدخول في جدل يقول بأن بريطانيا كانت عاجزة في جميع الأحوال عن منع وقوع ذلك, وأن ذلك هو ما حدث بالضبط عام 1947, فلا يمكن إلا أن يعتبر تهربا من الموضوع. في نهاية الكتاب, وبعد أن أخفقت المؤلفة في إثبات إدانة أي من الوزراء المعنيين بتهمة العداء الأيديولوجي, نجدها تلجأ إلى تكرار التأكيدات بمبالغة واضحة.

ومن هنا يمكن اعتبار الفصلين الأخيرين من الكتاب فائضين عن الحاجة. وكمثال على المبالغة التي ضمها هذان الفصلان, نجد المؤلفة تورد رسالة كان تشامبرلين قد كتبها لأخته يقول فيها أنه "لا يثق بدوافعهم (يعني السوفييت)." لكن المؤلفة تسارع إلى القول بأن تشامبرلين قد كشف بهذه الكلمات عن "شكوكه الأيديولوجية."

في النهاية, قد يصعب تحديد الغاية التي سعت إليها المؤلفة من هذا الكتاب. ففي شدة تلهفها لإدانة الحكومة البريطانية بالتحامل المسبق المعادي للسوفيت, تسعى غرين شو أولا إلى التأكيد بأن اتباع مسار سياسي مغاير كان يمكن أن يمنع وقوع الحرب. بعد ذلك تسارع إلى الإعلان بأن التحالف مع روسيا "كان سيترك أثرا كبيرا على تجربة بريطانيا في الحرب." لكن ما يصعب متابعته هو دقة الدور الذي تلعبه نخبة ما في تحديد مصائر البلد الذي تقوده, سواء في صوابية عقد التحالفات والذكاء في إستكناه الفروقات الملتبسة في اتخاذ القرارات.

المصدر : غير معروف