تعريف بحركة القوميين العرب

نشأت "الحركة" كرد فعل سياسي ونفسي على نكبة فلسطين 1948 التي سلطت الأضواء على العجز والتفكك العربي، وكمحاولة للسعي للقوة والتنظيم والتوحيد وللانقلاب الجذري على الأوضاع القائمة واسترداد الحقوق العربية التي عجزت الأحزاب عن انتزاعها (7). رأت "الحركة" أن النضال الشعبي العقائدي المنظم يمر بمرحلتين: الأولى تقييم الإطار السليم للمجتمع العربي من خلال نضال سياسي ثوري يهدف لتحرير الأمة وتوحيدها والقضاء على إسرائيل، مما يمهد للمرحلة الثانية ذات المضمون الاشتراكي الديمقراطي للمجتمع القومي الموحد (8).

ربطت "الحركة" بين الوحدة والتحرر، ورأت أن الوحدة يجب أن تتم بغض النظر عن مضمونها السياسي، فالمهم ضرورتها للقضاء على إسرائيل (9). ودعت لوحدة بين الأردن وسوريا والسعودية مع مصر بعد العدوان الثلاثي عليها 1956 (10)، ثم أسقطت الأردن والسعودية من كتلة الدول المتحررة لتطالب باتحاد سوريا مع مصر فقط (11)، إذ أصبحت ترى أن التحرر أساس للوحدة، كما شاركت في لبنان والأردن في المعركة ضد الأحلاف الغربية. وكان الهاجس الأساسي "للحركة" هو استرداد فلسطين، فطرحت مواقف مميزة من القضية الفلسطينية، إذ رأت أن التفريق بين اليهودية والصهيونية خرافة (12)، وأن العلاقة مع اليهود صراع وجود تاريخي بدأ منذ مئات السنين ولن يتوقف إلا بالقضاء على أحد الطرفين (13). كما حرضت ضد الصلح مع إسرائيل وكافة مشاريع التوطين، فلا بد من سحق الدولة الصهيونية وقذف اليهود خارج فلسطين أو إفنائهم فيها (14).

لم ترفض "الحركة" الاشتراكية، بل أجلت تحقيقها فيما بعد إنجاز المرحلة السياسية، لكنها أنكرت الصراع الطبقي الذي تؤدي إثارته لتفتيت وحدة الأمة وإلهائها عن معركتها. ورأت أن العدالة الاجتماعية تعتمد على ركيزتين، الاشتراكية بتحقيقها العدالة الاقتصادية، والديمقراطية بتحقيقها العدالة السياسية. فاشتراكية القومية العربية تنبع من الوعي القومي السليم (15) الذي يفسر مظاهر الحياة بالاستناد إلى عوامل مادية ومعنوية.

دعمت "الحركة" قيام وحدة مصر وسوريا كبداية لتحقيق وحدة العرب وتحررهم وقوتهم على طريق استرجاع فلسطين وبناء مجتمع أفضل، لذلك وافقت على شرط قيام الوحدة وهو حل الأحزاب. إلا أنها لم توقف تنظيمها السري في سوريا ومصر الذي تحول لرفد عملها في الأردن ولبنان والعراق والجنوب العربي. إذ أطلقت الوحدة سلسلة من التغييرات في المشرق العربي أهمها إسقاط النظام الملكي العراقي الذي لم يكن "للحركة" دور فيه لكنه فتح أمامها الفرصة للتحول لقوة فاعلة في الأحداث التالية، كما شاركت في الانتفاضة المسلحة في لبنان 1958 ضد انضمامه لمشروع أيزنهاور.

المضمون الاشتراكي النسبي للوحدة أثر في تعديل فكر "الحركة"، إذ لم يعد من الممكن الدفاع عن الأفكار القديمة التي تتجاهل الاشتراكية في المرحلة الأولى المفترضة. فقامت بمراجعة في العام 1959، وألغت فكرة الفصل بين المرحلتين السياسية والاجتماعية واعتبرتهما متشابكتين، ورفضت التطابق بين اليهودية كدين والصهيونية كحركة استعمار استيطاني. وقد ولد اقتراح التغييرات توتراً في صفوف "الحركة" القيادية، إلا أنه جرى تبنيها للمحافظة على وحدتها (16).

اعتمدت "الحركة" أساليب عديدة للعمل السياسي والنضالي، إلا أنها ميزت بين العمل السياسي بما يعنيه من مساومات واتفاقات حل وسط، وبين النضال العقائدي الصلب والملتزم والأخلاقي (17)، وهو ما أبعدها عن أدوار سياسية كبيرة رغم فعاليتها النضالية. وكانت "الحركة" قريبة من أسلوب استخدام العنف الفردي أحياناً كما حصل في رمي المتفجرات في الأردن 1957، أو العنف الشعبي في انتفاضة لبنان وفي الدعوة لحركة مسلحة في الجنوب والخليج للتخلص من الاستعمار البريطاني، إذ ركزت على تكوين تنظيم شعبي سياسي له ذراع ضاربة مسلحة.

مرحلة الستينيات:


نشأت "الحركة" كرد فعل سياسي ونفسي على نكبة فلسطين 1948 التي سلطت الأضواء على العجز والتفكك العربي، وكمحاولة للسعي للقوة والتنظيم والتوحيد وللانقلاب الجذري على الأوضاع القائمة واسترداد الحقوق العربية التي عجزت الأحزاب عن انتزاعها

قرارات تأميم الصناعات الأساسية في الجمهورية العربية المتحدة يوليو/ تموز1961 والانفصال السوري الذي اعتبرته "الحركة" كارثياً، وضعاها أمام بداية تطور فكري وتنظيمي حاسم، رافقه بروز تيار سمى نفسه "يساراً" يعمل للالتزام بالاشتراكية العربية، قام بمراجعة لفكر "الحركة" مما أثار أزمة داخل صفوفها القيادية ظلت مجهولة بالنسبة لمجموع الأعضاء، إلى أن طرحت في مجموعة مقالات في مجلة "الحرية". اعترفت "الحركة" بالصراع الطبقي الذي أدى لفسخ دولة الوحدة، وأن الاشتراكية لا تقوم من غير اشتراكيين يحولون الجماهير بالوعي والتنظيم من قوى مبعثرة إلى قوى فاعلة (18)، في أحزاب متعددة ضمن الخط الاشتراكي القومي مع حجب الحرية عن الأحزاب المعادية لهذا الخط (19).

إلا أنه إثر فشل مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق عام 1963، دعا عبد الناصر لحركة عربية واحدة كحل لتوزع التيار القومي الاشتراكي على أطراف مختلفة، فتبنى التيار "اليساري" في "الحركة" هذا الحل ورأى أن أزمة الثورة العربية ترجع لتعدد تنظيماتها. على أن القضايا الفكرية المطروحة بصدد الاشتراكية والحركة الثورية الواحدة لم تأخذ حقها من النقاش في صفوف الأعضاء، ولم تلق قبولاً لدى قسم من القيادات المؤسسة، مما أدى لتواجه تيارين في مؤتمر 1964 بعد أن طالب "اليسار" بحل "الحركة" والالتحام بالناصرية، ودافع التيار الآخر عن بقائها وتحالفها مع الناصرية. ولتفادي الانشقاق رفعت جلسات المؤتمر دون اتفاق.

جوهر التقرير الصادر عن المؤتمر التالي إقراره باحتواء الناصرية على قيادة وقاعدة العمل الوحدوي الاشتراكي في مصر والمشرق بحيث أصبح الالتحام بها والسير نحو الحركة العربية الواحدة، سبيل التيار القومي القديم لتجديد إسهامه الثوري (20). وبذلك حسم الصراع مؤقتاً لصالح التيار "اليساري" الذي تراجع بعد فترة قصيرة عن أطروحة الالتحام بعد أن تكشفت له طبيعة التيار الناصري الذي تقوده حسب رأيه أجهزة بيروقراطية يمينية.

"الحركة" كانت من أكثر الأحزاب تأثراً بهزيمة يونيو/ حزيران 1967 إذ اعتبرت النكسة سقوطاً لقيادة البرجوازية الصغيرة ولنهجها النظري والسياسي والاقتصادي، فمتابعة الثورة تتطلب انتقالاً لقيادة الطبقات الكادحة الأكثر جذرية (21). وحددت ثلاثة أمور لمواجهة الهزيمة، الالتزام بالماركسية وقيادة البروليتاريا لحركة التحرر الوطني وحروب شعبية. في هذه المرحلة رأت "الحركة" أن العنف المسلح هو الحل لكل القضايا المصيرية العربية، وهو الطريق لمجابهة الإمبريالية والثورة المضادة. مارست "الحركة" العنف المسلح في فلسطين منذ 1966 واليمن الجنوبي 1963 وفي ظفار ضد سلطنة مسقط وعمان المرتبطة بمعاهدات حماية بريطانية 1965، وشاركت في القتال للدفاع عن الجمهورية ضد القوات الملكية في اليمن.

اكتشفت "الحركة" في البروليتاريا والماركسية، العصا السحرية التي تتصدى للهزيمة وتحقق الانتصارات. لكن فيما عدا بعض القياديين من صفوف "اليسار" كانت الماركسية المتبناة جملا عامة منتقاة من كتب، صلتها ضعيفة بالواقع ليسار يرغب في تمثيل بروليتاريا عربية غير موجودة. فالمراهقة الفكرية اليسارية اختلطت بالصراع الداخلي على الأدوار الأساسية في قيادة "الحركة" مع غياب آلية داخلية تعالج الخلافات.

انتهى الصراع بإعلان "اليسار" في فبراير/ شباط 1969 حل "الحركة" وتشكيل فصائل ماركسية مستقلة، وفيما عدا الجبهتين الفلسطينيتين والجبهة القومية في الجنوب، خرج "اليسار واليمين" بفصائل هامشية فقدت الاتصال فيما بينها. لكننا نرى أن المنظمات الخارجة ليست مرحلة ثالثة في "الحركة"، إذ شكلت قطيعة كاملة مع المراحل القومية والاشتراكية، وهي ليست امتداداً أو تطويراً لهما، بعد تصفية "الحركة" اسماً وشكلاً.

للتعليق والتعقيب اضغط هنا

المصدر : الجزيرة