شعار قسم مدونات

الكوفية العراقية.. رمز لنضال الشعب الفلسطيني

blogs- الكوفية
للملابس حكايات في حياة الشعوب، وهي حكايات لها مدلولاتها الرمزية ورسوخا عميقا في الفكر الجمعي للشعوب، وتعبر هذه الحكايات حدود الجغرافيا ومنطق التأريخ لتشكّل في بعضها جزءاً من الهوية الوطنية، فلا يمكن تصور عربي دون دشداشته، ولا كرديا دون شرواله، ولا روسيا دون فروة الرأس التقليدية.. والكوفية العراقية المسماة شعبيا بـ"الشماغ" على سبيل المثال، عبرت الجغرافيا متحدية تضاريسها المعقدة والصعبة، ليصبح جزءاً من الهوية الفولكلورية للشعب الفلسطيني ورمزا لنضاله، وجزءا من حكايات نضاله ضد الاحتلال الصهيوني منذ ثلاثينيات القرن الماضي. 

الشماغ كلمة سومرية (أش ماخ) وتعني غطاء الرأس، لبسه سكان الأهوار، ورسموا عليه شبكة الصيد وأمواج الماء، وقد استخدمت محاكاة لشبكات صيد السمك أو إلى سنبلة القمح والحنطة. ولم تعرف العرب الشماغ (الاسم السومري) أو الكوفية (الاسم الكوفي) إلا بوقت متأخر لا يتجاوز الـ 200 عام فقط.. وأقدم صورة موجودة لتمثال الملك العراقي (كوديا) في متحف اللوفر بفرنسا، وهو يرتدي شماغا ملفوفا على الرأس، وهنالك مخطوطة لحديث بين عشتار وتموز عندما كانا يتحدثان قبل رحلة لتموز فطلبت عشتار منه أن يرتدي الشماغ ليقيه حرارة الشمس.

قام مصممان إسرائيليان بتصميم الكوفية بألوان علم الاحتلال وتغيير زخرفتها إلى النجمة السداسية في محاولة للاستيلاء على التراث الشعبي الفلسطيني الممتد عميقا بجذره العراقي.

تعود قصة تداول الكوفية العراقية في فلسطين إلى القرن العشرين، تحديدا في الثلاثينيات منه عام 1936، حيث نشبت عدة ثورات واضرابات ضد الانتداب الإنجليزي، والذي كانت فلسطين تقع تحت سطوة انتدابه، حيث كان هدفه إنشاء وطن قومي لليهود وعزلها عن محيطها العربي وإفراغها من أهلها، وفي ذلك الوقت لم يكن لفلسطين جيش نظامي حيث قام بهذه الثورات والاحتجاجات عدد من الفلسطينيين، وشكلوا خلايا صغيرة في الجبال مهمتها مقاومة هذا الانتداب، وأطلق على هذه المجاميع لقب (فدائيون) وكان الأهالي هم من يلقبونهم بهذا الاسم.

كان الفدائيون يرتدون الكوفية العراقية المرقطة بالأسود والأبيض لتوفرها بكثرة في الأسواق الفلسطينية، حيث كانوا يغطون وجوههم ورؤوسهم بها بشكل كامل ولا تخرج منها إلا عيونهم، وهذا الشيء دفع بالإنجليز إلى قتل أو اعتقال كل من يرتدي هذه الكوفية، وهنا وقف الشعب الفلسطيني وقفة فدائي واحد وقام بارتداء هذه الكوفية للتغطية على الفدائيين وإبعاد أنظار الإنجليز وإيهامهم عنهم، بل حتى النساء الفلسطينيات قمن بارتدائها، مشاركة للرجال في هذه المهمة التي لا تقل أهمية عن عمل الفدائيين أنفسهم، ونجحت هذه المهمة، وفعلا فشل الاحتلال الانجليزي بأن يصل للفدائيين وتعززت بعدها مكانة الكوفية العراقية في نفوس الفلسطينين بشكل كبير جدا، حيث صارت الكوفية رمزا للفدائي الفلسطيني وكل من يرتديها يشعر بالفخر والشجاعة.

وتوافقت آراء الباحثين، على أن الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 كانت هي السبب في نشر "الكوفية العراقية" والتي عرفت بأسماء أخرى كـ "الحطّة" و"السلك" حيث لم يكن يرتديها في ذلك الوقت سوى الفلاحين، والبدو، والثوار، الذين كانوا يستخدمونها في إخفاء ملامحهم، كي لا تتعرف عليهم السلطات البريطانية، التي كانت تقبض على كل من يرتدي الكوفية، ظناً منها أنه ثائر متخفٍ، مما دفع قيادة الثورة في ذلك الوقت إلى إصدار نداء إلى أبناء المدن للإقبال على ارتدائها.

تحولت هذه الكوفية من رمز نضالي محلي إلى رمز دولي، فتجاوزت كل الحدود الجغرافية وأصبحت رمزا للنضال الوطني والاجتماعي عند شعوب العالم وكل أحراره.

ازدادت الكوفية ارتباطا بالقضية الفلسطينية، وهذه المرة عالميا، عندما ظهرت المناضلة الفلسطينية ليلي خالد وهي ترتديها وبجانبها غنائم تعود للاحتلال الصهيوني، وكذلك دخول الرئيس ياسر عرفات وهو يرتديها للأمم المتحدة، ممثلا عن دولة فلسطين، بعدها أصبحت الكوفية العراقية رمزا للاعتراض والوقوف ضد الظلم في شتى بقاع العالم، ومنها الدول الأوربية ودول أميركا الجنوبية.. وأصبحت الكوفية العراقية جزءًا مهما من شخصية قائد النضال الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ولا يمكن تصور "الختيار" هكذا يلقبه الفلسطينيون، دون الكوفية العراقية التي كان يتأنق بلبسها في كل لقاءاته الرسمية تعبيراً عن روح الثورة وامتدادها العربي. 

وكعادة الاحتلال الإسرائيلي سرقة كل ما هو فلسطيني، حاول أيضاً سرقة الكوفية العراقية – الفلسطينية، فقام مصممان إسرائيليان بتصميم الكوفية بألوان علم الاحتلال وتغيير زخرفتها إلى النجمة السداسية في محاولة للاستيلاء على التراث الشعبي الفلسطيني الممتد عميقا بجذره العراقي.. ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي كانت الكوفية العراقية – الفلسطينية قد اقترنت بكفاح الشعب الفلسطيني وأصبحت واحدة من رموزه في ساحات النضال.

تحولت هذه الكوفية من رمز نضالي محلي إلى رمز دولي، فتجاوزت كل الحدود الجغرافية وأصبحت رمزا للنضال الوطني والاجتماعي عند شعوب العالم وكل أحراره، فنلاحظ الكوفية حاضرة دائما في كل المظاهرات المناهضة لاضطهاد الشعوب ورمزا لنضالها.. والكوفية العراقية – الفلسطينية باتت في أوروبا رمزا لطلب العدالة، وعلما رمزيا في مواجهة السياسات المناهضة لتطلعات الشعوب للحرية والانعتاق ورمزا من رموز كسر القيود والتمرد على الظلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.