شعار قسم مدونات

لماذا لم تصل إلينا علوم الفراعنة؟

blogs - egypt
كانت مصر الفرعونية حافلة بالتطورات والتقلبات، وربما لم يدرِ أولئك الذين عاشوا وقتها، وشيدوا حضارة، أن تستمر آثارها شاهدة عليهم إلى يومنا هذا، بعد حوالي 7 آلاف عام، وليس هذا فحسب، بل لازالت بعضها محط أنظار العالم ودهشته، ومصدر لإثارة التساؤولات عمّا كان الحال عليه في تلك الفترة من الزمان.

إن المقصود هنا، ليس التاريخ السياسي فحسب، بل فتح صفحات أخرى من التاريخ تشمل العلم. وصل الفراعنة لمرحلة متقدمة جداً من العلم، والشواهد على ذلك كثيرة، كالتحنيط، مروراً بالمعابد، والأهرامات، وغيرهم.. غير أن حلقة الوصل الوحيدة بيننا وبين الفراعنة، هو حجر رشيد، لفهم ما تم تدوينه على الجدران والبرقيات، بعدما قام العالم الفرنسي شامبليون بفك رموزه، ومن هنا بدأت التراجم، وبدأ العالم يفهم ما كان مكتوب على جدرات المعابد. ويأخذنا الحديث لتساؤل مُهم، فإذا كان ما وصل إلينا من معلومات عن الحياة السياسية، والحكم، والتقسيم المُجتمعي، والحروب، وغيرها، فلماذا لم يتم تدوين العلوم؟

وجود العمليات الحسابية، ورسومات نقل الحجر بالاستعانة بألواح دائرية من الخشب، لتقلل الاحتكاك، تدل على أنه لم يكن هناك حُرمة أو حرج من تدوين العلم.

بدايةً.. الناظر للحضارة الفرعونية، يجدها أشبه بالجثة الهامدة، حتى أحياها شمبليون، بعكس حضارات أخرى ظلت علومها تُداول جيل بعد جيل، كالحضارة اليونانية، وظلت العلوم قائمة ولم تُمحى، بالرغم من التقلبّات السياسية والاجتماعية، والتغير في اللغة أحياناً. وإن وجود نصوص موازية في حجر رشيد للغة الفرعونية، تعني أن حركة ترجمة كانت موجودة، واختفي ذكرها فجأة، دون سبب واضح، وإن كانت بعض العلوم من المُرجح أن تكون حُفظت شفاهياً، وتداول أسرارها الكهنة وكبار رجال الدين فقط، كالتحنيط الذي يُمكن أن يعتمد على حفظ مكوناته وطريقة تحضيره، بالإضافة أنه من الوارد عدم تدوينه؛ لكي يبقي سراً خاصاً بالحُكام فقط، فهناك علوم أخرى تستدعي تدوين قواعدها.

علي سبيل المثال، الهندسة المعمارية في مصر الفرعونية، وصلت ذروة ازدهارها وتقدمها، بطريقة يصعب تصديق أن تكون قواعدها نُقلت شفاهياً، ومن الاحتمالات الضعيفة جداً، إن لم تكن مستحيلة، أن تُنقذ كل هذه الآثار المعمارية، على سبيل الصدفة، بدقة عالية، فالشمس التي تتعامد على معبد أبوسمبل مرة واحدة فقط في العام؛ تحتاج إلى معرفة كبيرة بعلم الفلك، ناهيك عن غموض الطريقة التي اتبعوها في البناء، وتصنيع عمدان المعابد وتشكيلها والنقش عليها.

كذلك لم يتم ذكر أي شئ بخصوص الأهرامات من الناحية الهندسية، وحتى مع انتشار تشييدها بمختلف الأحجام، لم يتم حتى التلميح عن طريقة البناء، وإن كان من المُحتمل تحريم تدوين العلم آنذاك، فإن وجود العمليات الحسابية، ووجود رسومات تشير إلى نقل الحجر بالإستعانة بألواح من الخشب، دائرية لتقلل الاحتكاك وتساعد على الحركة، وسقي الرمال بالماء، ترد ذلك الاحتمال وتُبطل حجته. فمن الواضح أنه لم يكن هناك حُرمة أو حرج من تدوين العلم من حيث المبدأ، وهنا يتغير السؤال إلى سؤال أهم: لماذا لم تصل إلينا باقي علوم الفراعنة؟

مع غموض الاختفاء للحضارة، تواجهنا مشكلة في التنبؤ بحقيقة ما حدث، وتطرح بعض الاحتمالات نفسها:

أولاً، ربما تم تدوين العلوم فعلاً، ولكن تم إخفاؤها قبل السقوط؛ حتى لا تستفيد حضارة أخرى منها. ولكن تقابلنا صعوبة التفكير في هذا الأمر، فإذا انتشر الفساد في الدولة، فأمور كهذه تحتاج إلى تواجد حس وطني، من الصعب أن يوجد في مثل هذه الظروف، كما أنه لو تم فعلاً ذلك، فلماذا لم تتم الاستعانة بالمهندسين المصريين من قبل الغازيين الجُدد بعد ما رأوه من عمران وتشييد؟ وإذا افترضنا أن الإسكندر الأكبر هو من ضرب مصر الفرعونية الضربة القاضية، فلماذا لم يُفكر في نقل بعض العمالة إلى بلاده والاستفادة من خبراتهم، أم أنه كان مُستعجلاً فتوحاته فلم يفكر في مثل هذه الأمور؟ هذا إن غضضنا الطرف عن الغموض والأساطير التي تُلاحق حياة الإسكندر الأكبر نفسه.

ثانياً، لو لم ينتشر الفساد وأيقن القائمون في مصر أن أيامهم أصبحت معدودة، فأول ما يأتي في الذكر بغريزة الإنسان الطبيعية، هو تدوين كل شيء لحفظ التُراث للأجيال القادمة، كالتدوين في يومنا هذا، وحفظه خوفاً من النسيان أو التزوير، وحضارة كالفرعونية بالتأكيد لن تُهمل الجانب العلمي، وربما تم تدوين التحنيط معها خوفاً من النسيان أو الاختفاء، فلم يكن من المعروف مصير من يقيم في البلاط، كما أنه لو تم فعلاً التدوين، فأين حُفظ؟ ومن عُنيّ بمثل هذه المُهمة؟


ثالثاً،
 الاحتمال الأخطر، هو أن يكون تم العثور على بعض العلوم وسرقتها لصالح حضارات أخرى، تبعت أو جاورت الفراعنة في زمنها، وانتهت ومعها العلم، واختفت معها أسرار الفراعنةأ وربما عُثر عليها أثناء الحملة الفرنسية أو بعدها، ولكن الشاهد هنا أن حدوث شيء كهذا، تعني سرقة بلد وأجيال بأكملها لا تُقدر بثمن. وليس بالضرورة أن تكون العملية مقصودة وممنهجة، قد تكون تمّت عن طريق الصدفة وبيع شيء منها بأسعار زهيدة، في فترة من فترات الجهل والفقر التي شهدتها مصر في مختلف فترات عصورها، وتشهد الصور لباعة غير عابئين وهم يبيعون آثار البلد وتاريخها للسائحين بأسعار زهيدة بحثاً عن لقمة العيش.

رابعاً، الدولة الفرعونية كانت مترامية الأطراف، وإن صدقنا الادّعاء بأن السودان هي المَهد الأول للفراعنة، والمنبع الرئيسي، فإن ذلك سيفتح باباً جديداً من التساؤلات والاحتمالات، لا يسعنا المقام هنا لطرحه أو حصره، ولكن يظل الاحتمال قائماً بأن تكون العلوم لازالت في أحضان إفريقيا. 


مازالت مصر الفرعونية كما هي، مازال الغموض جزءاً لا يتجزّأ من شخصيتها، يُضفي لها بريقها اللامع ومكانتها الكبيرة.

خامساً، هل مرّ على الفراعنة قوماً كالتتار؟ يحرقون الكُتب والعلم، ويهدمون ما طالت أيديهم من الحضارة، كحرق مكتبة بغداد وإغراق باقي كُتبها في النهر ليعبر الجيش، وكحرق الأوروبيون لكُتب الأندلس في الفقه والأدب والدين، وغيرها من التي لم تكن مهمة من وجهة نظرهم؟ ولكن حدوث ذلك يعني حدث جلل، لا يمكن ألا يصل صداه للحضارات والدول المجاورة، وربما أكل الفراعنة أنفسهم ودمروا بيوتهم بأيديهم، فكانوا هم التتار لأنفسهم، ولكن يظل ذلك بعيداً، كما أن الشواهد الباقية من الحضارة تُبعد ذلك الاحتمال، ولكنه يظل مطروحاً.


أخيراً، أن تكون تلك العلوم لم يتم اكتشافها بعد، فحضارة 7 آلاف عام مازالت تحتفظ بكثير من أسرارها، إن لم يكن معظمها، وتأبي أن تفصح عنها، ومع النظر إلى تجارة الآثار -غير الشرعية- وسماع أخبار عن التنقيب وبيعها بالسوق السوداء، يدل على أن هناك الكثير الذي لايزال يقبع تحت التراب.

في النهاية تبقى مصر الفرعونية كما هي، مُحتفظة بمكانتها الخاصة، ويظل الغموض جزءاً لا يتجزّأ من شخصيتها، يُضفي لها بريقها اللامع ومكانتها الكبيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.