شعار قسم مدونات

لماذا لا تنتهي نزاعاتنا الإقليمية بانخفاض سعر النفط؟

blogs - kiri
هناك اعتقاد، يكاد يكون ثابت، في أدبيات دراسات الصراع والسلام بأن هناك علاقة وثيقة بين تدفق ريع النفط إلى الدول المنتجة للنفط ونشوب النزاعات الدولية (والإقليمية). في كتابه المعنون "العدوان النفطي: عندما يتسبب النفط في الحرب"، يدرس جيف كولجان آليات وقنوات تأثير الريع النفطي على سلوك الدولة وبشكل خاص سياستها الخارجية. مستخدماً لأدوات كمية، يقارن المؤلف بين التأثيرات المختلفة لريع النفط على سلوك مختلف حكومات البلدان النفطية.

وجد كولجان أن البلدان النفطية (التي يشكل الريع النفطي على الأقل ١٠ بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي) تنخرط في نزاعات عسكرية مع الدول الأخرى بنسبة ٥٠ بالمائة أعلى من نظيراتها غير النفطية. وتنخرط الدول النفطية ذات الحكومات الثورية أكثر من نظيراتها الثورية غير النفطية في نزاعات مسلحة على المستوى الإقليمي والدولي.
 

في إقليمنا، تتجه العديد من الدول النفطية جدياً إلى التنويع الاقتصادي عندما ينخفض سعر النفط لأسباب مختلفة.

ولكن يؤكد كولجان في قسم آخر من الكتاب أن التأثيرات السلبية للريع النفطي تظهر عندما تدفق إلى دولاً تحكمها انحيازات عدوانية. وبناء على مقولات كولجان، تشكل الانحيازات السياسية والاجتماعية للدوائر الحاكمة تأثير كبيراً سلوك الدولة النفطية.

وهنا قد نسقط في جدل "البيضة أم الفرخة؟" عند قراءة آليات التفاعل بين الانحيازات السياسية والاجتماعية من جهة ومداخيل الريع النفطي (أو الدافع الاقتصادي) من جهة أخرى. ولكن إذا كان لريع النفط التأثير الأكبر في خلق وإشعال السلوك العدائي، فأنماط السلوك تكتسب استقالاليتها بعيداً عن مسبباتها مع الوقت، إذا كانت اقتصادية. وهناك أطروحات مختلفة حول جدلية السلوك والمحرك المادي في مدارس حقل العلاقات الدولية وفروع العلوم الاجتماعية الأخرى.

قصدت من هذه المقدمة (المملة بعض الشئ) أن أوضح أنه ليست هناك علاقة ترابطية ووثيقة بين الاقتصاد النفطي للدولة وبين سلوكها بالضرورة. فقد تتغير تركيبة اقتصاد نفطي – لدولة ثورية أو غير ثورية – من خلال سياسات للتنويع الاقتصادي إلى اقتصاد غير نفطي ولكن قد تستمر الميول العدائية للدوائر الحاكمة فيها لأنها تحولت إلى نمط سلوكي. ففي إقليمنا، تتجه العديد من الدول النفطية جدياً إلى التنويع الاقتصادي عندما ينخفض سعر النفط لأسباب مختلفة.

ربما أهم هذه الأسباب هي أن تصبح الإمدادات المالية لمشاريعها الإقليمية أقل عرضة لتقلبات أسواق الطاقة. ولكن قد تبدو هذه المقولة تبسيطية عند الأخذ في الأعتبار أن تحقيق سياسات ناجحة للتنويع الاقتصادي لا يمكن تحقيقها دون تدفقات استثمارية من الخارج تبحث عن استقرار جيوسياسي. ولذلك، يبدو أن رهان الكثير من الدول هو على إمكانية تحقيق بيئة مستقرة داخلياً ومعزولة عن عوامل الاضطراب الخارجي مع تحمل تكاليف المغامرات الإقليمية التي تنعكس بظلالها على ارتفاع مخاطر الأستثمار.

مع بدء انخفاض سعر النفط في النصف الثاني من عام ٢٠١٤ واستمراره في بدء ٢٠١٥، كان هناك اعتقاداً بأن وتيره الصراع الإقليمي في المنطقة العربية ستنخفض في النهاية مع الضغوط المالية الكبيرة التي سيتركها سعر النفط المنخفض على ميزانيات الاطراف المنخرطة في الصراع السوري وإنفاقاتها العسكرية. ولكن ثبتت الأشهر التالية أن وتيرة الصراع زادت ولم تقل. في مقال كتبته في صفحة الاقتصاد بموقع الجزيرة.نت بعنوان "الانخراط الإيراني في سوريا وكلفته الاقتصادية" في أبريل/نيسان ٢٠١٥ كنت قد تناولت في المقال – كما هو واضح من العنوان – الكلفة الاقتصادية الثقيلة للحرب بالنسبة لطهران وعبء الاستمرار.

فالاتفاق الروسي – الأمريكي الأخير الذي يهدف لتحقيق انتقال سياسي يعكس دوافع تتجاوز الأبعاد الاقتصادية للصراع إلى أبعاد أكثر تعقيداً على الصعيد الإقليمي والدولي.

ربما كانت العقوبات على القطاع النفطي ثقيلة وخانقة، ولكن لم يكن قرار استمرار الحرب من عدمها اقتصادية إلى حد كبير فيما يبدو، بقدر ما هي مرتبطة بالتأطيرات الإجتماعية التي يشكلها صناع القرار للأحداث والتي يقيمون المخاطر والتكاليف بناء عليها.

حتى وإن شعر أطراف الصراع في سوريا بارتفاع الكلفة الاقتصادية وثقلها، فإن الحرب يمكن لها أن تستمر طويلاً، فلا يوجد طرف راغب في أن يظهر في موقف ضعف، فالصورة الذاتية للدول ((self-image داخلياً وصورتها الخارجية للأطراف الأخرى (prestige) يلعبان دوران كبيران في تشكيل السياسات الخارجية للدول. ولذلك، يمكن للحرب أن تستمر طويلاً اعتماداً على الكثير من العوامل بعيداً عن سعر النفط المنخفض الذي بدأت اقتصاديات الدول المنخرطة للصراع تتكيف معه.

فالاتفاق الروسي – الأمريكي الأخير الذي يهدف لتحقيق انتقال سياسي يعكس دوافع تتجاوز الأبعاد الاقتصادية للصراع إلى أبعاد أكثر تعقيداً على الصعيد الإقليمي والدولي يشكل الجانب الاقتصادي للصراع بأبعاده المختلفة جزءاً منها. ولكن هل يصبح هذا الاتفاق الأخير أم أنه سيصبح كسابقيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.