تناقضات الصين

The Communist Party of China's new Politburo Standing Committee, the nation's top decision-making body (L-R) Han Zheng, Wang Huning, Li Zhanshu, Chinese President Xi Jinping, Premier Li Keqiang, Wang Yang, Zhao Leji meet the press at the Great Hall of the People in Beijing on October 25, 2017.China on October 25 unveiled its new ruling council with President Xi Jinping firmly at the helm after stamping his authority on the country by engraving his name on the Communist Party's constitution. / AFP PHOTO / WANG ZHAO (Photo credit should read WANG ZHAO/AFP/Getty Images)

تُعَد مؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني -التي تنعقد كل خمس سنوات- من الأحداث النادرة، حيث تجتمع الطقوس والعقيدة مع التأمل الباطني والإستراتيجية. ولم يكن المؤتمر الوطني التاسع عشر -الذي بدأ في 18 أكتوبر/تشرين الأول الجاري- استثناءً.

ورغم التشويق والإثارة بشأن التغييرات المحتملة في قيادات الحزب، والتي تحدث عادة في نهاية الاجتماع؛ فإن التقرير السياسي -الذي قدمه الرئيس الصيني شي جين بينغ  في يوم الافتتاح- كان حدثا بالغ الأثر. والواقع أن هذا التقرير ينبئنا عن الحزب بقدر ما ينبئنا عن "شي" نفسه.

وكما تؤكد أليس ميلر -وهي من رواد علوم الصين في معهد هوفر بستانفورد- فقد جرت صياغة التقرير بعناية شديدة على مدار عام كامل، من أجل نقل إجماع الهيئة الأعلى في الحزب، أي اللجنة المركزية التي تتألف من 205 أعضاء.

وتشكل ثلاثة استنتاجات من خطاب شي أهمية خاصة؛ فبادئ ذي بدء، ارتفعت الأسس الأيديولوجية لفِكر شي جين بينغ إلى نفس المستوى الرفيع الذي بلغه "فِكر ماو تسي تونغ"، مما يرفع "شي" فعليا فوق الرؤساء الثلاثة الذين سبقوه (هيو جين تاو، وجيانغ تسه مين، بل وحتى المبجل دنغ شياو بينغ).

الحزب الشيوعي الحاكم عمل -في ظل قيادة "شي"- على تنقيح تناقضه الأساسي للمرة الأولى منذ 1981. فرغم تأطير التناقض سابقا على أنه مقايضة بين احتياجات الناس و"الإنتاج الاجتماعي الرجعي" في الصين؛ يُنظَر إليه الآن باعتباره توترا بين "التنمية غير المتوازنة وغير الكافية" و"احتياجات الناس المتزايدة من أجل حياة أفضل"

تحدث كثيرون عن توطيد "شي" لسلطته منذ تعيينه أمينا عاما في نوفمبر/تشرين الثاني 2012. ولكن هذا الارتفاع يجعل الأمر رسميا؛ فبعد خمس سنوات فقط في المنصب، وصفت قيادات الحزب "شي" بأنه واحد من أعظم شخصيتين تاريخيتين في الصين الحديثة.

ثانيا، يتحدث التقرير السياسي بثقة كبيرة عن الصين التي دخلت الآن "عصرا جديدا". ولكن تأكيدا للقول الصيني المأثور "المحطة الأخيرة في أي رحلة ليست سوى نقطة عند منتصف الطريق"؛ رسم "شي" مستقبلا أكثر طموحا.

تركز الصين الآن على هدفين: استكمال مهمة بناء ما يسمى المجتمع المزدهر باعتدال بحلول عام 2035، وترسيخ مكانة الصين باعتبارها قوة عظمى بحلول عام 2050.

وعلى النقيض من ممارسات تحديد الأهداف في الصين في الماضي؛ لا توجد أهداف كمية مرتبطة بهذين الهدفين التوأم (اللذين يتفقان تقريبا مع تأسيس الحزب عام 1921 وإنشاء جمهورية الصين الشعبية في 1949). وهما يصبان في الاحتفال بالتجديد الوطني الذي طال انتظاره، والذي أسماه شي "حلم الصين".

ربما تكون النقطة الثالثة هي الأكثر إثارة للاهتمام؛ فقد صيغ هذا في هيئة "تناقض أساسي" في الصين، أي المفهوم الماركسي الذي يشكل قبولا لمشكلة أساسية تتطلب الحل. والواقع أن التناقض الأساسي هنا يضع -رغم غموضه- الإطار لمناقشة ثرية للمخاطر والفرص، والإستراتيجية والتكتيكات، والإصلاح والحكم، وكل هذا سيشكل آفاق الصين في المستقبل المنظور.

والنبأ الكبير هنا هو أن الحزب عمل -في ظل قيادة "شي"- على تنقيح تناقضه الأساسي للمرة الأولى منذ 1981. فرغم تأطير التناقض سابقا على أنه مقايضة بين احتياجات الناس و"الإنتاج الاجتماعي الرجعي" في الصين؛ يُنظَر إليه الآن باعتباره توترا بين "التنمية غير المتوازنة وغير الكافية" و"احتياجات الناس المتزايدة من أجل حياة أفضل".

لم تظهر إعادة عرض التناقض الأساسي على هذا النحو من لا شيء. فهو يشير بوضوح إلى تغيير بعيد المدى في المنظور الوطني، من منظور الدولة النامية الفقيرة إلى منظور مجتمع متزايد الازدهار، يركز على التحول إلى قوة عظمى.

وهو يتفق أيضا مع انتقاد رئيس مجلس الدولة السابق وين جيا باو، الذي حذر في مارس/آذار 2007 من اقتصاد صيني يتحول على نحو متزايد إلى اقتصاد "غير مستقر، وغير متوازن، وغير منسق، وفي نهاية المطاف اقتصاد غير مستدام".

وعلى مدار السنوات العشر المنصرمة؛ استهدفت خطتان خمسيتان (الخطة الخمسية الثانية عشرة التي بدأ تنفيذها عام 2011، والثالثة عشرة التي بدأ تنفيذها عام 2016) فضلا عن مجموعة كبرى من الإصلاحات التي تبنتها الجلسة الثالثة المكتملة في عام 2013؛ حل اختلالات التوازن المستمرة والمقلقة في الصين.

ولا يبدل تقرير "شي" السياسي القوة الدافعة الرئيسية وراء هذه الجهود. والأمر المهم الحقيقي هنا هو أن إعادة التوازن أصبحت الآن مكرسة في الأسس الأيديولوجية للحزب، فهي ركيزة أساسية لفِكر شي جين بينغ.

كما يثير تركيز التقرير السياسي على التناقض الأساسي في الصين تساؤلاتٍ مهمة بشأن أمر ربما لا يزال مفقودا في إستراتيجية الحزب الطويلة الأمد؛ فعلى الجبهة الاقتصادية تبرز بشكل خاص ثلاثة "تناقضات ثانوية".

بوسعنا أن نتبين التوتر الثانوي الأخير في التباين بين المسار والوجهة في الصين؛ فرغم كل أشكال تهنئة الذات في تقرير "شي" السياسي، هناك سبب وجيه يحملنا على الاعتقاد بأن الاقتصاد الصيني يمر بالمراحل المبكرة من التحول البنيوي الذي طال التبشير به وانتظاره. فمع النمو السريع الذي يسجله قطاع الخدمات في الاقتصاد الصيني فإنه لا يزال وليدا، إذ لا يمثل سوى 52% من الناتج المحلي الإجمالي 

فأولا، هناك التوتر المستمر بين الدور الذي تلعبه الدولة والدور الذي تلعبه الأسواق في توجيه عملية تخصيص الموارد. وكان هذا التناقض صارخا بين إصلاحات الجلسة الثالثة المكتملة في عام 2013، والتي ركزت على تركيبة غير متناسقة ظاهريا بين "الدور الحاسم" للسوق والدعم الثابت لملكية الدولة.

ظل الحزب فترة طويلة يعتقد أن هاتين السمتين للحياة الاقتصادية متوافقتان، أي ما يسمى الاقتصاد المختلط الذي يتمتع بخصائص صينية. ويشيد تقرير "شي" السياسي بنموذج الملكية المختلطة، كما يطمح إلى اقتصاد تقوده شركات كبرى تتمتع ببراعة تنافسية لا مثيل لها على مستوى العالَم.

ولكنه يتطرق إلى القضية الشائكة بشأن إصلاح الشركات المملوكة للدولة، والذي ربما يكون مطلوبا لحل هذا التناقض وتجنب مشكلة "الزومبي" اليابانية المتمثلة في أعباء الديون المزمنة.

ثانيا، هناك التوتر بين العرض والطلب؛ فبما يتسق مع تصريحات أخرى صادرة مؤخرا عن مسؤولين صينيين كبار، لا يترك التقرير السياسي أي مجال للشك في أن الإصلاحات البنيوية لجانب العرض تُعَد الآن الأولوية العليا لصناع السياسات الاقتصادية.

وهناك تأكيد على الإنتاجية، والإبداع، وتقليم القدرة الفائضة، وتسلق سلسلة القيمة في التصنيع والخدمات؛ باعتبار كل هذا لبنات أساسية في هذا الجهد.

وفي الوقت نفسه، لا يؤكد التقرير على الإنفاق الاستهلاكي والخدمات، وهو ما يحتل الآن مرتبة متدنية على قائمة أولويات الاقتصاد الحديث. بيد أن التركيز على العرض دون إيلاء قدر مساوٍ من الاهتمام لأسس الطلب الكلي؛ أمر محيّر وانقطاع ربما يكون مثيرا للقلق.

وبوسعنا أن نتبين التوتر الثانوي الأخير في التباين بين المسار والوجهة؛ فرغم كل أشكال تهنئة الذات في تقرير "شي" السياسي، هناك سبب وجيه يحملنا على الاعتقاد بأن الاقتصاد الصيني يمر بالمراحل المبكرة من التحول البنيوي الذي طال التبشير به وانتظاره.

فمع النمو السريع الذي يسجله قطاع الخدمات في الاقتصاد الصيني فإنه لا يزال وليدا، إذ لا يمثل سوى 52% من الناتج المحلي الإجمالي. ولا يزال الاستهلاك الأسري -الذي ينمو بسرعة أيضا- أقل من 40% من الناتج المحلي الإجمالي.

ربما تكون الصين الآن على الطريق إلى معتاد جديد أو عصر جديد؛ ولكن المقصد النهائي يظل على مسافة بعيدة على الطريق، ولا تزال تناقضات عديدة تحتاج إلى الحل أثناء الرحلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.