شعار قسم مدونات

المطبخ العربي في كندا.. مهمة ثقافية

المطاعم العربية حاضرة في كل الشوارع الكبيرة بكندا وتحظى بإقبال كبير من الزبائن (غيتي إيميجز)

للمطبخ العربي وجود قوي في المجتمع الكندي، وخاصة في المدن الكبرى ذات الحضور الأكثر للجاليات العربية كتورونتو ومونتريال، فالمجتمع الكندي في جوهره مرحب بالثقافات المختلفة، وهو ما يحفز الجاليات الآتية من مختلف مناطق العالم على جعل ثقافاتها جزءا من الموزاييك الثقافي الكندي، إذ يعد المطبخ إحدى الطرق لخلق هذا الاندماج المجتمعي، وهذا تحديدا ما فعلته الجاليات العربية عند قدومها لكندا.

ستجد المطاعم العربية حاضرة في كل الشوارع الكبيرة، وتحظى بإقبال كبير من الزبائن. في مدينة أوتاوا عاصمة كندا، لا تكاد تعرف كنديا لم يتناول الشاورما. فلقد اشتهرت هذه المدينة بكثرة عدد مطاعم الشاورما فيها. يقول موقع "ويكي ترافل" -وهو موقع سياحي معروف- إن من المحتمل أن يكون لأوتاوا أكبر عدد من محلات الشاورما والفلافل في العالم، بعد العالم العربي والشرق الأوسط طبعا، فلك أن تتصور رواج الأكلات العربية في هذه المدينة، والأرباح التي تجنيها هذه المطاعم.

وإن كان لتأسيس المطاعم غاية رئيسية وهي جني المال، فإن لهذه المطاعم وظيفة أخرى وهي خلق بيئة ثقافية متميزة. يأتي أبناء جالية ما لمطاعم أكلاتهم، لكي يعيشوا بيئة تذكرهم بوطنهم الأم، يأتون ليأكلوا أطباقا تشبه ما كانت أمهاتهم تطبخه لهم، ويستمعون لموسيقى تقليدية تعزف بصوت خافت في الخلفية، حينما يتحدثون، ويتناقشون في شتى أمورهم، بصوت عال غالبا. سترى هذا المشهد في أغلب المطاعم العربية في كندا.

للمطاعم العربية في كندا تاريخ طويل بدأ منذ أول موجة من المهاجرين القادمين من العالم العربي إلى أميركا الشمالية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، خاصة من سوريا ولبنان. عند مجيئهم، عمل هؤلاء المهاجرون في المصانع، وأسسوا متاجر متواضعة، و قليل منهم من قرر الرجوع إلى الوطن الأم، فمعظم هذه العائلات ما زالت باقية في كندا، إذ ستجد كثيرا من الكنديين ذوي أصول مشرقية.

وفي الستينيات من القرن العشرين، وبعد استقلال دول شمال أفريقيا عن فرنسا، قرر عدد من الجزائريين والمغاربة والتونسيين الهجرة إلى كندا، وإلى مقاطعة "كيبك" الناطقة بالفرنسية بالتحديد. وفي السبعينيات، هاجر كثير من اللبنانيين إلى كندا على إثر الحرب الأهلية التي ضربت البلاد في تلك الفترة.

وبعد موجات متعددة من الهجرة، أسس العرب مجتمعاتهم الصغيرة في كندا مرتكزين على ثقافتهم الغنية، وطبخهم الشهي.

آخر هاته الموجات، وربما أكبرها هي نزوح ما يقرب من 40 ألف لاجئ سوري ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 2015 ويناير/كانون الثاني 2017 إلى كندا، وفق موقع التلفزيون الكندي "سي تي في". يعد هذا القرار جريئا جدا من طرف الحكومة الكندية، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان توافد المهاجرين المتواصل من كل بقاع العالم، وما يحدثه ذلك من صدمة ثقافية بين مكونات المجتمع الكندي المتعدد الأعراق، حيث أثارت هذه المسألة بعض النزعات العنصرية، وعدم تقبل الآخر، وبروز ظاهرة الإسلاموفوبيا. وإن كانت هذه الظواهر أقل حدة في كندا، مقارنة بأوروبا والولايات المتحدة.

الآن وبعد بضع سنين من تلك الموجة، لا يزال موضوع اللاجئين ينال اهتماما كبيرا في السياسة الكندية، حيث يسطع بريقه كلما اقتربت الانتخابات، فدرالية كانت أم محلية.

مثل ما فعل السوريون في بداية القرن العشرين من خلال انصهارهم في المجتمع الكندي، ها هم اللاجئون السوريون اليوم يسيرون على نفس خطى أسلافهم، يعملون بجد في كل المجالات من أجل استقرارهم في كندا. ومن أهم المجالات، مجال المأكولات والمطاعم، حيث انتشرت المطاعم السورية في الآونة الأخيرة بشكل سريع، قابله طلب كبير من الكنديين عليها، وإقبال ملحوظ على المأكولات الشامية.

ففي كل زاوية من زوايا المدن الكبرى هناك محل للفطائر أو للفلافل أو للشاورما، حيث تحظى بشعبية كبيرة لكونها الأسرع تحضيرا والأكثر وفرة والأقل سعرا، إضافة إلى طعمها اللذيذ. ويكون الإقبال عليها ملحوظا، خاصة في المدن الكبيرة المعروفة بسرعة الحياة فيها، مثل مدينة تورونتو.

إن لم تكن من هواة الأكل السريع، فستجد هناك كثيرا من المطاعم التي تحضر الأطباق المنوعة، والتي تعكس التنوع الغني للثقافة العربية. أما عن الأسعار فهناك أطياف من المطاعم العربية، منها البسيط، ومنها الراقي جدا.

كل المطاعم تتباهى بلذة أطباقها وتنوعها. المغاربيون يحتفون بأنواع الكسكسي والطواجين، والمصريون يتفاخرون بالمحشي والكشري، أما المشارقة فيمجدون المشاوي ومقبلاتهم المتنوعة، ليزيدهم هذا التنوع غنى، ويحثهم على التعرف على الآخر واللقاء به، وتسويق ثقافتهم لديه. فالأكل ليس تغذية فحسب، وإنما يعد فنا وثقافة أيضا، فالسائح سيتعرف كثيرا على تاريخ الشعوب وثقافتهم حين يتذوق مأكولاتهم. سيعرف مكوناتها الأساسية وثقافتهم الزراعية، وحين يلتقي الناس من مختلف المجتمعات والدول على طاولة واحدة، يتعرفون على ثقافة مجتمعاتهم ومرجعياتها، إذ يعد الطعام رافدا من روافد التنوع البشري.

ولطالما كانت المطاعم ركيزة رئيسية للجاليات في غربتها، ففي مثل هذه المطاعم تجد جزءا من وطنها الأم. أما بالنسبة للبلد المضيف، فتعتبر مثل هذه المطاعم بوابة للوافد الآخر، وفرصة للتعرف على ثقافته، كما تشكل المعاملات والخدمات بين الزبون والمطعم جسرا يقرب بين ثقافتين مختلفتين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.