شعار قسم مدونات

فضل الأزهر الشريف على الفكر الديموقراطي والحياة الحزبية

blogs الأزهر

سئلت أكثر من مرة عن السبب الجوهري في نجاح التجربة الديموقراطية في مصر والبلاد الشرقية (أو الإسلامية) المتأثرة بها نجاحاً فاق ما تحقق في فترات متوازية في مناطق أخرى من العالم (من دون تخصيص)، وكانت إجابتي بكل وضوح هي أن قيادة الأزهر للحركة العلمية والفكرية في مصر والبلاد المرتبطة بمصر هي التي قدمت أفضل الدعم والمساعدة والتأسيس للفكر الديموقراطي والحياة الحزبية على حد سواء، والسبب في هذا بكلّ وضوح أن الأزهر عرف التعددية من خلال حفاظه على فكرة المذاهب الفقهية الأربعة، وهي فكرة عالية القيمة في ميدان الحياة الديموقراطية والحزبية لأنها تنفي الشمولية بطريقة جذرية، ولا تقتصر على منافاتها فحسب.

  

وفضلاً عن هذا فإن الفكرة المذهبية كانت قد راكمت تراثها الفكري على مدى أجيال تفوق الثلاثين جيلاً (إذا اعتبرنا الراجح وهو أن متوسط الجيل ثلث قرن، وأن عمر الأزهر عشرة قرون) وقد وصل هذا التراث الفكري في متون وشروح وحواشي وتعليقات وتقارير وتميزت المتون بمناقضلة دقيقة استبقت أو استصفت لكل مذهب من المذاهب أفضل المتون إحاطة واستغراقا للمسائل الجوهرية والتقريبية والتفريقية والخلافية كما أسست أساليب متميزة في التنظير والتعقيد والتقنين والاستثناء والأخذ بالمحترزات واعتبار التحفظات.

  

أستحضر هنا جملة عبقرية صاغها مؤرخ موسوعي عظيم هو الصفدي (من علماء القرن الثامن الهجري) الذي حاول الربط بين المذاهب الفقهية والكلامية تأسيا على فلسفة العلم في كلا الجانبين أي فلسفة الفقه من ناحيته المذهبية والأصولية، وفلسفة علم الكلام من زاويته المرتبطة بالتفكير العقلي في أمور العقيدة، قال الصفدي رحمه الله : إن الأغلب أن الحنفية معتزلة، والشافعية أشعرية، والمالكية قدرية، والحنبلية حشوية، بالطبع فإن الرواية تحتمل بعض التبديل من جهة السامع (أو المتلقي) ومن جهة الراوي او الناقل، ومن ذلك أن يقال إن الأغلب أن الحنفية ماتريدية (بدلاً من القول بأنهم معتزلة) ومن ذلك أن يقال إن الحنابلة أهل أثر (بدلا من أن يقال إنهم حشوية).. وبالطبع فليس المقام الآن أن نتعرض لتفصيل القول في هذا الحكم، وإنما نحن نتحدث عن عبقريته في الموازاة بين التفكيرين الفقهي والفلسفي أو الأصولي والكلامي، مع أني أعتقد اعتقاداً يقينيا في أن الفلسفة الإسلامية تكمن في أصول الفقه بأكثر مما هي متجلية في علم الكلام بل إني أعتقد اعتقاداً يقينياً آخر أن الفلسفة الإسلامية التي تكمن في النقد الأدبي المنهجي عند العرب تفوق في أهميتها جهده العرب في علم الكلام، وكان أستاذنا الدكتور شوقي ضيف إذا سمع مني هذا الحكم تهلّل وجهه، وانفرجت أساريره، وبدا وكأنه يعيش بعقله اليقظ في عصر المأمون. ولعل هذا الانطباع كان أحد أسباب تقديره العميق لأفكاري.

 

التوجه الثالث لا يقل أهمية عن التوجهين الأولين، وهو يرتبط بالذكاء الأزهري في الحفاظ على المذاهب في كلّ التعديلات التي أصابت الأزهر أو فُرضت عليه

أعود من هذا الحديث الذي يبدو استطراداً بينما هو ليس كذلك إلى القول بأن الساسة المصريين الأوائل في العصر قبل الليبرالي (1862 – 1919) وفي العصر الليبيرالي (1919 – 1952) مارسوا السياسة بخبرتهم المذهبية التي عرفوها سواء في دراستهم في الأزهر، أو في معاشرتهم للأزهريين، ومصاحبتهم لهم، أو تلمذتهم عليهم، وليس من قبيل التزيد ولا التعسف أن نشير إلى أن من الشائع أنه كانت لسعد زغلول نفسه رسالة في فقه الشافعية، وإلى أنه هو وأقطاب مدرسة حزب الأمة كانوا التلامذة النُجباء للأستاذ الشيخ محمد عبده، ولا أن نشير إلى أن الشيخ علي يوسف كان هو صاحب الفضل الأولي في حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية.. الخ.

 

وحين بدأ شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري (1869 ــ 1904) تجربته في تركيا والزعيم غاندي (1869 ــ 1948) تجربته في الهند هو والزعيم الإسلامي الذي انفصل بباكستان محمد على جناح (1876 ـ 1948) فإنهم كانوا بالطبع متأثرين بالتجربة المصرية إن لم يكونوا مستهدين بها، وربما أن نجاح الشيخ مصطفى صبري الساحق في الانتخابات في عهد الانقلاب العسكري التركي بلور ما لم ينتبه إليه الشرقيون بالقدر الذي انتبه به الغربيون من أنه لن يمكن فصل الحياة السياسية عن الإسلام بأي حال وأن هذا الفصل لن يتحقّق إلا قسرا وعنوة بتمكين أنظمة عسكرية قصيرة النظر من رقاب العباد بدكتاتورية متوحشة تلبس ثياباً وطنية تستر معاداتها للتقدم والتنمية والأصالة والجذور، على أن موقف الفكر الأزهري نفسه من قضية المذهبية كان لا يقل عظمة عن موقفه من القضايا الديموقراطية، وهنا أستطيع الإشارة العاجلة إلى ثلاث توجهات حافظت للفكر الإسلامي على حيويته من خلال الأزهر وعلمائه.

   

التوجه الأول غير مشهور، وإن كنت قد بدأت في التنبيه عليه، وقد تولى بطولته كبير علماء المالكية في العصر الحديث الشيخ العبقري يوسف الدجوي (1870 -1946) الذي دافع دفاع الأبطال عن فكرة المذهبية وتصدى بنفسه، وبكل ما يملك من الفكر ومقومات الحياة لكل من أرادوا تسفيه نهج المذهبية تحت دعوى التوحيد ونبذ التفرق، وقد بين هذا الشيخ الفيلسوف بأسانيد فلسفية وبيولوجية معاً ضرورة المذهبية للحياة والعلم وللفكر وللفقه وللإسلام نفسه، ولم يستطع الترهيب الفكري أن يجد سبيله إلى الانتصار بالرأي على هذا العالم البحر المتمكّن.

 

التوجه الثاني هو التوجه القافز على الخلاف بالبناء على الاختلاف، وهو التوجه نحو التقريب بين المذاهب، وهو توجه ذكي يُقر المذهبية ويُحافظ عليها، ويسعى إلى التقريب بين المذاهب دون أن يعصف بوجودها أو أن يحاول نسف هذا الوجود، وقد قاد هذا التجوه العلامة الشيخ عبد المجيد سليم المفتي الأكبر ١٨٨٢- ١٩٥٤ الذي ظل مفتيا منذ 1928 وحتى 1945 حين استقال احتجاجا على تعيين شيخ الأزهر من غير أعضاء هيئة كبار العلماء ثم تولى هو نفسه مشيخة الأزهر مرتين وتوفي 1954 وقد رفع الراية من بعده الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت. ومن المهم أن نذكر في هذا المقام عمومية فكرة التقريب، وأنها لا ترتبط بظرف ولا استهداف سياسي وذلك على الرغم من أن الحديث الغالب الآن يتركز على فكرة التقريب بين المذاهب الفقهية السنية والشيعية ويعترف بالدور الذي قاد إلى الاعتراف بالمذهبين الزيدي والجعفري لتصبح المذاهب في توسعها ستة بدلاً من أربعة.

 

التوجه الثالث لا يقل أهمية عن التوجهين الأولين، وهو يرتبط بالذكاء الأزهري في الحفاظ على المذاهب في كلّ التعديلات التي أصابت الأزهر أو فُرضت عليه، وعلى الرغم من الظلال الكثيفة لعصر الشمولية الذي بدأ مع ثورة 1952 وازدهر مع تنظيماتها السياسية فإن الأزهريين لم يندفعوا إلى التخلي عن فكرة المذهبية العلمية، ذلك أن العلم نفسه هو أكبر من يُدافع عن فكرة المذهبية حتى وإن كانت مثل هذه الحقيقة صعبة الإدراك على من لم يعيشوا للعلم أو يُمارسوه، أما الذين مارسوا العلم في مرحلة التلقي أو في مرحلة البحث العلمي أو في الاستاذية أو في التأليف فإنهم لا يكادون يتصوّرون أن يكون هناك علم بلا مدرسة ولا ان يكون هناك علم بلا مذاهب. وهكذا السياسة لا تستقيم بدون أحزاب ولا بدون تنافس وانتخابات وصندوق وتداول للسلطة. والله أعلم

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.