شعار قسم مدونات

لماذا أدوّن؟

مدونات - يكتب
فوجئت منذ مدة قريبة بأن التعريف المرافق لاسمي على "مدونات الجزيرة" تغير من "صحافية وكاتبة" إلى "مدونة" فانتابني شيء من القلق المشوب بالرفض. بدأت أخط إيميلاً للزملاء المشرفين على المدونات أشكو فيه عدم استشارتي في تغيير توصيفي المهني خصوصاً إن ذلك ترافق مع تراجع في كتاباتي الأخرى من مقالات اسبوعية أو تغطيات ميدانية ما أوحى أنني اتخذت منعطفاً مهنياً مختلفاً. وهو تراجع جلب لي شعوراً بالذنب والتقصير، وكمّاً من الأسئلة والعتاب.

هل استقلت من عملك؟ هل توقفت عن الكتابة السياسية؟ هل ستتفرغين للتدوين؟ وأكثر من ذلك وربما الأصعب، هل أبعدك الزواج عن المهنة؟ أسئلة فرضت علي الإجابة عليها ولم يكن ممكنا تفاديها كما أفعل مع نفسي حين تلح علي، فأبعدها عن ذهني وأوجل التفكير فيها. أجبت بالطبع أنني لم أستقل من عملي، ولم اعتزل الكتابة الصحافية وإن كنت مقلة فيها في الآونة الأخيرة، وأن الزواج وإن كان يفرض تحديات إضافية وتغييرات جذرية لكنني لا زلت مؤمنة أنه يمكن للنساء التوفيق بين حياة شخصية وأخرى مهنية، (وأن بصعوبة بالغة، علي أن أعترف) ولي في كثيرات من حولي أمثلة تحتذى.

وأخيراً.. لا لن أتفرغ للتدوين.

ثم، فجأة أدركت أنني منذ عام تقريباً أواظب على هذه الفسحة الكتابية أكثر من أي شيء آخر. وإن غبت أسبوعاً أسارع للحاق بنفسي في الأسبوع الذي يليه. وبت الآن قادرة على مصارحة نفسي بالقول إنني ربما أصبحت "مدونة" بالفعل، وأن ذلك توصيف يغني سيرتي الشخصية وقد لا يستدعي كل هذا القلق أو تلك المقاومة.

التدوين في العالم العربي أخذ منحى مختلفاً جداً عما كان عليه في البلدان الغربية مستفيداً من كونه في كلا الحالتين كسر لاحتكار وسائل التعبير.

فالتدوين كما أراه على الأقل، أو كما اختبرته في السنة الماضية، أقرب إلى هواية كامنة أتيح لي اكتشافها وتنميتها، أكثر منه حرفة صقلتها والتزمت بشروطها. وهو إذ ذاك إضافة لمسار ذاتي أكثر منه توصيف وظيفي أو مهني. ثم لأسامح نفسي، تذكرت أنني شخص يحتاج الكثير من الوقت ليقر ويعترف بصفة قد تلازمه طوال حياته. فأنا على سبيل المثال أخذت نحو سبع سنوات أو أكثر لأقول أنني صحافية ولست "أعمل في الصحافة"، ومثلها لأقول أنني "كاتبة" ولست "أكتب في الصحيفة الفلانية".. فكيف أفاجأ اليوم وبلا أي تحضير نفسي ولا اجتياز سنة على هذه المغامرة بأنني "مدونة"؟

حين استدرجني زميل وصديق عزيز إلى هذه الفسحة، تلكأت في إرسال أول تدوينة. أجلت وتذرعت بالمشاغل وغياب الأفكار، ولكني في الحقيقة خفت، أو بالأحرى خجلت. خجلت أولاً لشعوري بأنني تأخرت كثيراً للحاق بموجة التدوين التي انطلقت حين كنت طالبة جامعية، وازدهرت وأنا وشك التخرج حين شكلت "المنتديات" (هكذا كانت تسمى) والكتابات المجهولة التوقيع أحياناً منبراً سياسياً لأبناء جيلي. وصحيح إنه كان لدي الكثير لأقوله آنذاك لكنني أحجمت، وذهبت فوراً إلى الصحافة التقليدية. ولا أكشف سراً إذ أقول أن التدوين في العالم العربي أخذ (ولا يزال) منحى مختلفاً جداً عما كان عليه في البلدان الغربية مستفيداً من كونه في كلا الحالتين كسر لاحتكار وسائل التعبير.

فإذا كان المدونون الغربيون أسهبوا في نشر يومياتهم قبل أن يتحول بعضهم مع الوقت إلى "متخصص" في أبواب معينة كالفن، أو الرياضة، أو الطبخ أو الأزياء أو غيرها من أنماط الحياة اليومية (لايف ستايل)، ساحبين البساط من تحت كتاب مكرسين في الصحف والمجلات، ذهب المدونون العرب بمجملهم إلى فك الطوق السياسي ووجدوا في التدوين متنفساً لا تمنحهم إياه المنابر الإعلامية التقليدية، ولا تتيحه لهم بلدانهم من مشاركة في الشأن العام أو في آليات اتخاذ القرار. لذا، كان ملاحظاً جداً ارتفاع عدد المدونين "السياسيين"، وازدهار نشاطهم واستفادتهم من الشبكة العنكبوتية المفتوحة، في بلدان تكثر فيها المحظورات ويرتفع منسوب القمع.

وإلى ذلك، ولأنني منحت منبراً للكتابة السياسية، شعرت أن التدوين سيضعني أمام استحقاق الكتابة الشخصية، فخجلت من نشر قصصي أنا، لا قصص الآخرين ممن أقابلهم. لم أعرف كيف أكتب عن نفسي بصوتي، وشعوري، ونظرتي، وأنا القادمة من تقليد صحافي يقمع فينا الـ "آنا"، ويمنع علينا استخدامها لصالح "المصدر". ورحت أسأل نفسي لم قد يهتم أحد أصلا بقراءة "حدوتة" ذاتية مغرقة في المزاجية وبعيدة من الحدث الذي يشغلنا جميعاً؟

ثم تذكرت يوم بدأت حرب العراق في 2003 وكنت محررة مبتدئة في القسم العربي والدولي، فتابعت مدونة عراقية اسمها "فتاة بغداد" (Baghdad girl) تنشر بالإنكليزية عن يومياتها مع أسرتها في الحرب. تفاصيل حياة لا يلتقطها ألمع الصحافيين وأكثرهم اقتراباً من الحدث. وأذكر أنني إذ اقترحت إدراج بعض ما يرد في التدوينة ضمن الخبر العراقي لما تمنحه من بعد إنساني، قوبلت بشيء من الاستخفاف وبأنه لا يمكن اعتماد "مواقع مجهولة" كمصدر موثوق، علماً أنني لم أجد حتى الساعة موقعاً حقيقياً ينقل معاناة العراقيين في تلك السنوات كما فعلت هذه المدونة المجهولة الاسم.

الأسبوع الماضي، لم أكتب تدوينتي ولا مقالتي المعتادة. جلست وفكرت واعترفت لنفسي أنني عملياً أواجه سداً منيعاً في الكتابة. شعرت أنني على شفير الدخول في نفق الـ
الأسبوع الماضي، لم أكتب تدوينتي ولا مقالتي المعتادة. جلست وفكرت واعترفت لنفسي أنني عملياً أواجه سداً منيعاً في الكتابة. شعرت أنني على شفير الدخول في نفق الـ "لا جدوى".

من جهتي، وبعد تردد وتلكؤ استجمعت شجاعتي وأرسلت تدوينتي الأولى. ترقبت رأي صديقي فيها، وانتظرت نشرها كمن يكتب للمرة الأولى. أسئلة كثيرة راودتني ولا تزال تراودني في كل مرة أرسل تدوينة للنشر، فينتابني القلق نفسه خصوصاً إذا لم أجدها فوراً على الموقع. فمن المفارقات أن تكون الكتابة في الشأن السياسي أكثر أماناً لنا من تلك التي نغوص فيها في دواخلنا. ليس لهامش الأمن والأمان الممنوح لنا هناك بالطبع، ولكن لأن التدوين (الشخصي) يحملنا على المكاشفة والمصارحة والتفتيش في أماكن قد لا نرغب بالضرورة البحث فيها. وأكثر من ذلك فهو يضعنا أمام مواجهة صريحة مع ادعاءاتنا ومواقفنا العامة التي نخطها هناك بصفتها سياسات لا تخصنا مباشرة.

الأسبوع الماضي، لم أكتب تدوينتي ولا مقالتي المعتادة. جلست وفكرت واعترفت لنفسي أنني عملياً أواجه سداً منيعاً في الكتابة. شعرت أنني على شفير الدخول في نفق الـ "لا جدوى". لا جدوى من اجترار نفس الفكرة ونفس الموقف سنة بعد أخرى. السبق الصحافي والتحقيق الاستقصائي والتغطية الحربية لا تؤدي عملياً إلى المحاسبة أو التغيير في بلداننا، وتلك ليست أزمة إعلام ومهنة فحسب، وإنما أزمة حكم. فلماذا نكتب؟ ولمن؟

وضعت ما يجول في خاطري في بوست على "فيسبوك" أشكو فيه عجزي وقلة حيلتي. جاءتني رسائل بالعشرات لم أتوقعها. أشخاص أعرفهم وأشخاص لا أعرفهم. كتاب وصحافيون مخضرمون مروا بهذه التجربة، وأناس لا علاقة لهم بالمهنة، لكنهم ربما شعروا بذلك الضيق كل من موقعه. كتبوا، تواصلوا، نصحوا، وبعضهم أرسل يقول "شكراً لأنك فتحت موضوعاً حرجاً", وأنا في المقابل لم أعرف كيف أقول أنه استغرقني عام كامل من التدريب لأجرؤ على هذا البوح، وهو لا يزال جزئياً ومنقوصاً على أية حال.

فخلال هذه السنة كتبت عن أشخاص أحبهم، وآخرين أكرههم، شرّحت أهلي، وأفراد أسرتي وبلدتي، وأصدقاء طفولتي وزوجي والشوربة وطابور السوبر ماركت. كتبت عن أشياء تافهة وأخرى مهمة أو ربما مسلية، تناولت ما لم يكن متاحاً لي تناوله خلال سنوات كثيرة من الانضباط المهني وأولها نفسي. ولهذا تحديداً، للهامش الإضافي من السهل الممتنع، أنا اليوم أدون. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.