شعار قسم مدونات

حتّى يستجيب القدر

Family members of the victims of torture hold placards and shout slogans denouncing the use of torture and calling for reform of the police at an anti-torture demonstration outside the headquarters of the Interior Ministry, Tunis,Tunisia, 15 October 2014. According to local sources the protesters were responding to calls from 27 NGOs to denounce torture by the police and demanding its reform, the protest coming shortly after Tunisian President Marzouki appointed two of his advisers 09 October to investigate the deaths of two Tunisians who died while in police custody and according to the Association Against Torture in Tunisia (OCTT) both deaths were suspicious and may have been the result of physical abuse and negligence.

إنّ ما كتبه الدكتور المؤرخ الهادي التيمومي في روايته "ملح قرطاج" والتّي قدّم لها بنفسه وهو يُحدّثنا عن تجربته الشّخصية لم يكن خيالا أدبيا! بل واقعا عاشه ويعيشه الكثيرون ممّن اعتقلوا في أحلك حقبة تاريخية عاشتها الخضراء، فاختار التّيمومي استعاره الملح الذي رشّ به الرُّومان أرض قرطاج إبّان الحرب البونيقية الثالثة كي لا تُثمر بعد ذلك ولا يسكنها أحد! سكن قرطاج أهلها وأبنائها ولكن انبثق أيضا ذاك العرق الخائن المرشوش بالملح إلى أن آن أوان تطهيرها من الاستبداد والظلم وجعل الخضراء خضراء بحقّ.
 

انطلقت ليلة الخميس الثامن عشر من شهر نوفمبر أولى جلسات الاستماع العلنية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في تونس ما بين 1955 و2013، والتي تشرف عليها هيئة الحقيقة والكرامة بهدف تعزيز الوعي الحقوقي وترسيخ ثقافته بما يضمن إرساء الديموقراطية، ورغم كون العدالة الانتقالية لا تهدف بما تتميز به من جدية إلى عقاب الجلاّدين والمتّهمين بالانتهاكات الإنسانية إلاّ أنّها تُسهم بشكل مُباشر في إعادة بناء الثّقة الّتي فقدها ضحايا هذه الانتهاكات في أنفسهم وفي أنّ الدولة ستوفّر لهم الحماية، إضافة إلى ضمان عدم تكرار مثل هذه الممارسات.
 

حين تتكلّم الأم عن موت ابنها فعلى الجميع أن يصمتوا، بل أن يخرسوا دافنين وجوههم في أتربة العار التي شوّهت الإنسانية منذ الأزل حين تلوثت يد ابن آدم بدماء أخيه.

في عالم موازي بدأ البعض بالتهكّم على هذه الجلسات ونعتها بالمسرحية وانتشر السؤال الهازئ مما يحصل وهو "بقدّاش كيلو النضال؟" اسمحولي أن أجيب من يسألون عن سعر كيلوغرام النضال، بأنّه لا يُباع لا بالكيلوغرام ولا بالقنطار ولا بأيّ وحدة قياس وزن!! فإمّا أن تمتلكه أو أن ينقصك للأبد ولن تُفيدك عمليّات التّجميل السياسيّة في الحصول عليه! النضال يا ساده يُقاس بعدد الأيّام الّتي قضاها هؤلاء تحت وطأة التعذيب النفسي والجسديّ، النضال ليس له وزن ولكنك تُقدّره بمقدار الدموع التي تذرفها أمّهات ثكلى، النضال يُقاس بالليالي الّتي لم تَنمها أمّهات المساجين وهنّ يُقاسمن فلذات أكبادهنّ عذابات السجن في مخيّلاتهن! ليس كل شيء يُباع ويُشترى كما هو حال مبادئكم الهزيلة فكرامة الإنسان ثمنها روحه التي لا تُباع.
 

حين تتكلّم الأم عن موت ابنها فعلى الجميع أن يصمتوا، بل أن يخرسوا دافنين وجوههم في أتربة العار التي شوّهت الإنسانية منذ الأزل حين تلوثت يد ابن آدم بدماء أخيه. مثّلت شهادات ضحايا النظام السابق صفعة قويّة في وجه النفاق السياسي وكل من حاول الركوب على ضهور المظلومين في هذا البلد. لقد كان مشهدا سرياليا سيرسخ بعقل كل من شاهده وسمعه وسيخلّده التاريخ فخرا لهم وخِزيا لجلاّديهم.
 

نحن أبناء الخالة وريدة وفاطمة وربح وخيرة، نحن أبناء المطماطي وإخوة براهم والنقاش، نحن تونسيون وانتمائنا دائما إنساني، أمّا أنتم فسُلالة إبليس الذي يتبرّأ من أمراضكم النفسيّة التّي حاولتم إفراغها على شعب مسلوب الإرادة كان يهمس باسم رئيسه همسا وإن ذكره بخير كي لا يُقطع لسانه.

لقد سقت دماء زهور هذه الأرض والدم لا يجفّ بل يتحوّل إلى سواد قاتم بلون الغضب الذّي اشتعل في قلب كلّ تونسيّ وعربيّ حُرّ!

أستغرب فقط حالة الصدمة التي اجتاحت الأغلبية وكأنّهم كانوا يظنّون أن الدفء الذّي شعروا به يومًا ما في عهد المخلوع حقيقيّ والكلّ ينعم به. لا أعزاءي.. ذاك الدّفء كان يصلكم من نار كانت تشوي أفئدة أمّهات جُرَّ أبنائهم إلى مسلخة الدّاخلية، كنتم تتدفؤون بنار تشوي الشرفاء وهم معلقون كالدجاج محاولين سلخ هويّتهم فكان الجلاد يسلخ رجُولته هو حين ينبُت من تحت جلد ضحيّته ألف رجل ورجل قاومه وأسقطه وسيُسقطه مادام على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة!
 

لقد سقت دماء زهور هذه الأرض والدم لا يجفّ بل يتحوّل إلى سواد قاتم بلون الغضب الذّي اشتعل في قلب كلّ تونسيّ وعربيّ حُرّ! لا يهمّ ما ستؤول إليه هذه الشهادات والعدالة الانتقالية وأيّ شكل من أشكال المُحاسبة، المُهم أنّ ما شاهدناه وسمعناه بالأمس أيقظ النّيام وهزّ الاستسلام الذي استوطن القُلوب بعد هذه الخمس العجاف وبعد أن عاد البعض لتمنّي عودة الدفء القديم، عودة النّار الّتي حرقت الكثيرين.
 

قد لا يُحاسب من ارتكب هذه الجرائم في حق الإنسان وسينام هانئا كعادته، ولكن حينها اعلم عزيزي المُواطن أنّ هذا خزيٌ وعارٌ سيلتصقان بك وباسمك وباسم أولادك وأحفادك إلى أبد الآبدين وسيذكُر التّاريخ أنّنا أبدعنا في الذُلّ. ما سمعتمُوه لم يكُن أساطيرًا ولا حكايات فلكلورية بل هي وقائع وقد سالت لها دماء حقيقيّة وتألّمت لها أجساد آدمية وأُزهقت فيها أرواح خلقها الله كأرواحنا بل أطهر وأشرف. لا أعتقد أنّ أحدا سيجرأ وستسمح له آدميته بعد اليوم أن يتحسّر على عهد ما قبل الثورة مُتعللا بنعيم الدكتاتورية مقابل جحيم الحرية، فمقابل نعيمك عاش آخرون الظلم والقهر والألم وحُرموا من العيش ومن الموت حتى.
 

جلس ليلة أمس ضحايا الظُلم أمام الشاشات الّتي بثّت هذه الجلسات فتجدّدت آلامهم ولوعتهم ليُشاركهم فيها أهاليهم الذين تجرّعوا الآلام مناصفة معهم، فكان نصيب أحد الأصدقاء -وهو ضحيّة من ضحايا ذاك الزمن الأسود- أن يحتسي بمرارة دموع والدته وهي تستمع لشهادة الضحايا وأهاليهم، فقد قُدّر لصديقي أن يأخذ نصيبه من التعذيب في آخر قطرات ترسّبت في سيل الأمراض الذي أصاب هذا البلد.
 

لا بُدّ للتاريخ أن يكتب نفسه بنفسه، فالتاريخ حين يُكتب بنفسه يعني أن يفيض بالحقيقة وينفض عنه الأكاذيب فيتقبّله الجميع شاءوا أم أبوا!

بدأت حكايته في خريف سنة 2010 حين قدم شرطة أمن الدولة لبيته وقاموا بتفتيش أغراضه وأعلموا أهله أنّ على ابنهم الحضور إلى مقرهم في الولاية. عاد صديقي من العاصمة ليقوم "بتسليم" نفسه فيعود لها مكبّلا ويُقذف به في دهاليز الداخلية، لتبدأ رحلته مع النار التي كنا نتدفأ عليها في رغد عيشنا زمن الدكتاتورية الجميلة.
 

سألته عن سبب اعتقاله فأخبرني أنّه وإلى يومنا هذا يجهل السبب الحقيقي لذلك، وحتى أنّه لم يطّلع على الاتهامات الملفّقة له إلى أن لخّصها له الشهيد شكري بالعيد والذي كان محاميه آنذاك بأنّه متّهم بمحاولة قلب النظام! لم يكن ينتمي لأي حزب سياسي ولا ديني ولا إيديولوجي ولا حتى اقتصادي أو كارتوني! كان شخصا عاديا وحين لا يجد تبريرا لما حصل معه يقول بأنه كان يُصلي. شاءت الأقدار له أن يشاهد الجلسات مع والدته فلم يتألّم لحاله حين استفاقت ذكرياته مع التعذيب، بل تألّم لدموع والدته كما تألّمنا جميعنا لدموع والدات الشهداء.
 

لا بُدّ للتاريخ أن يكتب نفسه بنفسه، فكُل أقلام الكون لن تقدر على سكب الحقيقة بين الصفحات التي ستُطوى وتُرفع على رفوف المكتبات بكلّ اللغات.. فالتاريخ حين يُكتب بنفسه يعني أن يرسُخ في أذهان الشعوب كما حدث، يعني أن يفيض بالحقيقة وينفض عنه الأكاذيب فيتقبّله الجميع شاءوا أم أبوا! فهذا ما حدث حقًّا ولكي يُمحى هذا العار يجب أن يتعرى أمام الجميع في آخر مشهد له قبل أن يُرمى برصاصة الحق فيستجيب القدر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.