شعار قسم مدونات

ما هو جدوى "الدليل" ؟

مدونات الدليل

في المعرفة يعتبر الدليل هو أساس القوة النظرية وصحة الاعتبار النظري. لكن الدليل ليس في الحقيقة هو أساس النزاع المعرفي. بمعنى أنه لن يحل موضوع النزاع متى ما توفر الدليل. لأن السؤال المعرفي الحقيقي هو: ما الذي يعتبر دليلا وليس أين هو الدليل؟ وفي مختلف السياقات النظرية، هناك طبقة معرفية تحدد ما هو الدليل، وما هو نوع الدليل المناسب وكيف وأين نحصل عليه. بالتأكيد هذه الطبقة النظرية هي ما فوق التدليل نفسه لأنها هي التي تحدد الدليل وهيئته المناسبة. إن سؤال ما هو دليلك في الحوار ليس هو السؤال الأساسي، وهو فاقد للاعتبار والأهمية خصوصا بين الذين ينطلقون من "منظومات فلسفية مختلفة"، مثل "الحدس"، "والعقل"، "والنظر المجرد"، "والعلم"، "والحاسة الروحية الكامنة في القلب sensus divinitatis " كما هو حال المتصوفة. 

إن الدليل ليس موضوعا قائما بذاته هكذا في عالم المعرفة، ولكنه موضوعا تابعا للتقييم والاختيار الإنساني، فالإنسان هو من يحدد صلاحية الدليل للاستدلال بناء على مسلمات أخرى عميقة في بناءه المعرفي. إن الدليل هو منتج معرفي في حد ذاته، فهو لا يوجد في عالم المثل بصورة مجردة هكذا، بل إن كل موضوع المعرفة هو موضوع "إنساني" تابع للذاتية الإنسانية، بكل ملحقاته، "النظرية"، "الدليل"، "الحقيقة"، "التبرير"، "المسلمات". المعرفة كموضوع، هي مساحة إنسانية تتجلى فيها "نشاط الذات"، وحركة الفكر الإنساني في المعرفة هي من أقوى "الأدلة" على إنسانية المعرفة وأنها تابعة للإنسان وليست مهيمنة عليه، وأن الإنسان يوجد في الوجود أولا وقبل المعرفة وقبل كل شيء. (دليلي هذا أيضا خاضع للذاتية والبناء النظري الذي أنطلق منه). 

أدلة العالم الغربي ليست بالضرورة مقنعة للقارئ العربي الذي لا يثق في العلم ويعتقد أنه "منتوج غربي" ينطلق من منظومة فلسفية محددة.

لو أنك أتيت بما تعتبره أدلة قاطعة على ضلوع أمريكا مثلا، في ثورات الربيع العربي وتخطيطها ورعايتها للثورات العربية، وكانت أدلتك على شكل تصريحات لمنسوبي الأمن القومي الأمريكي، أو تسريبات للوثائق من موقع "ويكيليكس"، فهذه أدلة قوية لتقنع الرأي العام العربي، لكنها قد لا تمثل أدلة مناسبة لباحث غربي مرموق يعمل في مؤسسة "راند" أو أي من مؤسسات أبحاث ودراسات الشرق الأوسط! إن نوعية الدليل الذي يرضي العقل هو في حد ذاته جزءا من التركيب العقلي للإنسان، ومؤشرا عليه. 

كذلك لو قدم لك متصوف دليله الروحي وأخبرك أنه يرى "الأنوار المقدسة" في قلبه بكل وضوح، فربما نقول له أنه دليل ذاتي وغير موضوعي، ولكنه أيضا لو أخبر أنه يرى الله في صورة الكون وأن هذا دليلا على "حقيقة الله" ، فمن الأغلب أنه لن يكون مقنعا لعالم فيزياء غربي مثلا يعتمد على الأدلة العلمية التجريبية في معايرة القضايا المعرفية.

وكذلك أدلة العالم الغربي ليست بالضرورة مقنعة للقارئ العربي الذي لا يثق في العلم ويعتقد أنه "منتوج غربي" ينطلق من منظومة فلسفية محددة. لذلك سؤال "هل تؤمن بالعلم؟" هو سؤال العصر في العالم العربي، وسؤال المعرفة خصوصا في عالم لا تزال "منظومة الغيب" فاعلة فيه. هذا لا يعني أن الغرب تجاوز هذا السؤال بالكلية، ولكن "العلم" في الغرب بات نفوذه قويا في "الفضاء العام". عندما قدم غاليليو في بداية عصر النهضة نظريته الجديدة حول دوران الأرض ومركزيتها في الكون، في مقابل "نظرة العالم الارسطوطاليسي" لم يكن النزاع هنا حول نظريتين تقدمان تفسيرا للوجود، وإنما كان حول "الطبقة النظرية العميقة" التي تحدد ما هو الدليل المناسب نفسه وكيف نتحصل عليه! كان نزاعا حول ما هو أعمق بكثير. 

يقال لو أن التاريخ الانساني كان مقداره 12 ساعة، فإن الحداثة قد ظهرت في الساعة 11 و55 دقيقة، لهذا نسأل متى كان الميلاد لسؤال "ما هو الدليل؟" هذا السؤال هو تأريخ لميلاد الفكر وهو تاريخ متقدم في الخط الزمني الإنساني. الإنسان البدائي الأول لم يكن يحتاج لهذا للسؤال برمته، فهو يتعامل مع "العالم الواقعي" أمامه ولم يدخل بعد في الجدل النظري المتقدم الذي يحتاج للاستدلال على "قضية" غائبة بقضية شاهدة في عالم "المعطيات الحسية المباشرة". الدليل كمعطى معرفي لم يكن له قيمة لإنسان كان يستكشف العالم المادي المباشر أمامه ويواجه تحديات البقاء، من حيوانات مفترسة وظروف طبيعية قاسية ويؤسس لمهد حياة في قلب التطور والاختيار الطبيعي. لم يكن هناك وقتا لهذا الترف العقلي الذي ينظر "للقضايا الغائبة"، فهناك الكثير مما يهم اكتشافه "من قضايا حاضرة" في العالم المحسوس لإنسان يواجه خطر الموت كل ليلة. 

إن الحدس المعرفي أو الرغبة المعرفية المنطلقة من "الذاتية الإنسانية" هي المؤسسة لكل شيء في موضوع المعرفة.

لذلك إن سؤال الدليل هو في حد ذاته دليلا على المسافة الفاصلة بين "العقل" وبين "القضية". عندما يتساءل الفقيه مثلا على الدليل على حرمة الهجرة إلى بلاد الغرب، أو عن قضية العلمانية وفصل الدين عن الدولة، أو حكم التحالف مع الدول الغربية، فهو يؤكد على أن هناك مسافة بين القضية وبين الإيمان بها، فهي ليست موجودة مباشرة في العقل أو الوعي وإلا لما احتاج لدليل عليها. أما التدليل على قضايا مثل "حكم ظلم الناس" أو "قتل النفس بغير حق"، فإننا لا نشعر بحوجتنا لدليل، لأنها مسائل وقضايا موجودة مباشرة في الضمير الإنساني، هي نفسها "تحيزات أخلاقية عميقة" ومغروسة في الذائقة الأخلاقية الإنسانية ولا مسافة تفصل بينها وبين الوعي. 

لكن هل الدليل نفسه معطى "للذات" أم "للموضوع"؟ وأقصد "بالموضوع" الديالكتيك الفكري في الفضاء العام، سواء كان في المسجد أم في المجلس السياسي أو في التلفاز أو الجامعة. هل يحتاج الإنسان الدليل لو أنه يمارس "المعرفة" مع نفسه كنشاط ذاتي ويكتسب صورة ذهنية عن العالم والحقيقة؟ لو أراد إنسان أن يصدق بقضية ما أو أن يحدث انتقالا من "التصور الذهني 1" "للتصور الذهني 2″، فإن ما يحتاجه ليس الأدلة القوية القاطعة والثابتة! بل الوعي بذاته وبما يشكل تصوره الذهني المحدد، أن يعي برغبته المعرفية وتحيزاته المعرفية العميقة التي تشكل بناءه المعرفي نفسه. إن كثيرا من التحولات الفكرية في التاريخ الإنساني، لم تكن مدفوعة بحركة الفكر وحجية الأدلة، بل كانت مدفوعة بالحرية التي يكتسبها الإنسان وهو يحقق وعيا أكبر وأكبر بتحيزاته المعرفية العميقة. 

إن الحدس المعرفي أو الرغبة المعرفية المنطلقة من "الذاتية الإنسانية" هي المؤسسة لكل شيء في موضوع المعرفة. ما الذي يجعل الإنسان أن يؤمن بقضايا مثل "نظرية التطور"، "حقيقة وجود الله"، "الحياة الأخرى"، "الحاسة السادسة"، "أمريكا هي الشيطان الأكبر"، "المؤامرة الماسونية" ويعتقد أنه يملك أدلة قوية على إيمانه او اعتقاده المعرفي هذا؟! إننا لا نستطيع أن نقنع إنسان يجمع مخطوطات ورسومات لمثلث الماسونية، وأن الدولار الأمريكي يحمل بصمة الماسونية ورسمة المثلث وعلامة العين المميزة، أن الماسونية ليست حقيقية مهما اجتهدنا، إذا كان يرغب في هذا الإيمان والتصديق بالمؤامرة. إن "الدليل" لا يجدي في حركة الفكر والنزاع المعرفي كثيرا، لأن هناك ما هو أعمق بكثير في قضية المعرفة، إنها الرغبة والتحيزات المعرفية العميقة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.