فازت قطر وفازت معها فلسطين والعرب

أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني (يسار) يلف عباءة حول ليونيل ميسي بجوار كأس العالم بعد فوز الأرجنتين في النهائي (وكالات)

بانتهاء فعاليات كأس العالم، تكون قطر قد أكملت فوزها التاريخي، ليس في تنظيم المونديال وإخراجه بصورة لم يسبق تقديمها على مدى تاريخ المونديال فحسب، وإنما بفوزها في إعادة بناء الصورة الذهنية لدولة قطر، وللعرب وثقافتهم وقيمهم وقضاياهم.

لقد أنفقت قطر مئات المليارات من الدولارات لتستوفي الشروط التي فرضها عليها الاتحاد الدولي لكرة القدم قبل 12 عاما، بعد فوزها باستضافة مونديال كأس العالم كأول دولة عربية. فعاليات المونديال طيلة 4 أسابيع أثبتت أن هذه المليارات التي أنفقتها قطر ليست شيئا إزاء العديد من الأهداف المباشرة وغير المباشرة، التي ما كان لها أن تتحقق دون ذلك، وسأكتفي بالوقوف عند 3 إنجازات هائلة فازت قطر في تحقيقها بامتياز.

 

فازت قطر في تعزيز صورتها الذهنية على مستوى العالم، كدولة متحضرة، تعتز بأصالتها، وتحترم غيرها، كما فازت بتفوقها في استضافة المونديال، وفتح الباب واسعا أمام غيرها من الدول العربية لاستضافة المونديال في المستقبل

الفوز الأول: تعزيز الصورة الذهنية لدولة قطر

لم تكن المرة الأولى التي تنظم فيها قطر فعاليات رياضية إقليمية أو دولية، أو مؤتمرات ومنتديات وجوائز متخصصة في السياسة والإعلام والثقافة والفن وغيرها، فهي لا تتوقف على مدار العام، ولكنها المرة الأولى التي تشد فيها قطر أنظار العالم أجمع إليها، وتفتح له أبوابها على مصراعيها، وتسهل أسباب الزيارة بحرفية عالية، ليتعرف عليها، وعلى أهلها وعاداتهم وثقافتهم وقيمهم، وما وصلت إليه من تقدم حضاري في شتى المجالات، وهي التي كال لها الطامعون والحاسدون والمنافسون ما كالوا من الاتهامات، والتشكيك في القدرات، وبث الأكاذيب والشائعات.

لقد أدهشت قطر العالم كله بهذا الفوز الساحق في تخطيط وتنظيم وإدارة وضبط هذه الفعالية الهائلة، بكل ثقة واقتدار، وبأعلى معايير الدقة والجودة، وأحدث التجهيزات والتقنيات، دون أخطاء تذكر، مما جعل رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم يقرّ بأن هذه الاستضافة لكأس العالم لم يسبق لها أن حدثت بهذا المستوى على مدار تاريخ المونديال.

جاء العالم إلى قطر، وتابعها في شاشات التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي، وتعرف على تاريخها وحاضرها وإمكاناتها، وعلى أهلها وقيمهم وثقافتهم التي يتمسكون بها باعتزاز وإصرار، دون أن ينكروا على أحد ما يدين به من أفكار أو قيم أو ثقافات في حدود السياسات العامة التي وضعتها المؤسسات المختصة للحفاظ على سلامة سير فعاليات المونديال، وأمن المشاركين فيها، والحيلولة دون حدوث أي تصادم بين أصحاب الثقافات والقيم المحلية أو الزائرة أو المشاهدة، وهي مهمة بالغة الحساسية تقع مسؤوليتها كاملة على المؤسسات المختصة المسؤولة عن تنفيذ المونديال.

فازت قطر في تعزيز صورتها الذهنية على مستوى العالم، كدولة متحضرة، تعتز بأصالتها، وتحترم غيرها، كما فازت بتفوقها في استضافة المونديال، وفتح الباب واسعا أمام غيرها من الدول العربية لاستضافة المونديال في المستقبل.

جاءت شعوب العالم من مختلف البلدان، وشاهدت النظام والأمن والأمان والسلاسة والانسجام، واقتربت من الشعوب العربية لتكتشف مدى زيف الصورة والمعلومات والقصص والأخبار التي كانت تصلها عن الشعوب العربية لأكثر من قرن من الزمان

الفوز الثاني: تصحيح الصورة الذهنية للأمة العربية

عندما كنت مديرا لمعهد الجزيرة للإعلام عام 2004، وكان اسمه حينها "معهد الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير"، أبرمنا اتفاقية تعاون مع مركز تومسون البريطاني للتدريب الإعلامي، ليكون أحد روافد المركز من المدربين الذين يحتاجهم في تقديم دوراته التدريبية الإعلامية التي كان حريصا على تقديمها بمستوى متطور غير مسبوق، ينقل للجزيرة والمؤسسات الإعلامية العربية أحدث ما وصلت إليه الخبرة الإعلامية على مستوى العالم، وكان من بين المدربين الذين استضفناهم، الإعلامي البريطاني البارز "إيان ماسترز"، وكانت المرة الأولى له التي يزور فيها بلدا عربيا.

وعندما أردنا أن نأخذه في جولة سياحية في العاصمة الدوحة، سألته عن الأماكن التي يحب أن يذهب إليها، فاجأني بقوله: أريد أن تأخذني إلى الصحراء، أريد أن أرى الصحراء. وعندما سألته عن السبب، قال: إنني أحلم منذ طفولتي برؤية الصحراء العربية، فقد كان أبي مع القوات البريطانية في جزيرة العرب إبان الحرب العالمية الثانية، وأحضر لي معه علبة تمر صغيرة من الكرتون، مرسوم عليها جمل في الصحراء بجوار خيمة وأمامها طبق من التمر.

كانت الصورة الذهنية لإيان ماسترز عن الدول العربية وشعوبها، أنها عبارة عن صحراء وجمال وشعوب بدائية تقتات على التمر وحليب الجمال ولحومها. وهذه الصورة مجرد جزء يسير من الصورة الذهنية البائسة التي دأبت الدول الاستعمارية والحركة الصهيونية على ترسيخها لدى الأجيال المتعاقبة في الدول الغربية وسائر دول العالم منذ مطلع القرن الماضي، عن طريق المنتجات الدرامية والروائية والإعلامية والاستخباراتية، التي تصور العرب على أنهم شعوب بدائية متخلفة تعيش في الصحراء وترعى الإبل والماشية، وتَغِير على بعضها وتسبي النساء، وتنتهك الحرمات دون شفقة أو رحمة، وزادوا عليها في العقود الثلاثة الأخيرة قصص التطرف والإرهاب الإسلامي. وقد أنفقت هذه الجهات على صناعة هذه الصورة وترسيخها لدى شعوب العالم أضعاف ما أنفقته قطر على استضافة المونديال.

جاءت شعوب العالم من مختلف البلدان، وشاهدت النظام والأمن والأمان والسلاسة والانسجام، واقتربت من الشعوب العربية، واحتكت بها عن قرب، وتبادلت معها الأحاديث المختلفة في الكرة والسياسة والثقافة والفن والتكنولوجيا والسوشيال ميديا، وتعرفت على هوياتهم وثقافاتهم وقيمهم، واستمعت لنكاتهم وضحكاتهم، وتعرفت على آمالهم وآلامهم ومشكلاتهم وتحدياتهم، وعلى قضاياهم السياسية والتنموية، التي لا تختلف كثيرا عما لديهم، لتكتشف هذه الشعوب فجأة مدى زيف الصورة التي كانت لديها عن العرب، ومدى زيف المعلومات والقصص والأخبار التي كانت تستقيها من مصادر المعرفة المختلفة عن الشعوب العربية في بلدانها على مدى أكثر من قرن من الزمان.

لقد فازت قطر بمهارة عالية في استثمار هذه الفعالية لتصحيح الصورة الذهنية العربية عند شعوب العالم، بهذا الحضور الضخم من الجماهير العربية المشاركة، والفعاليات التعريفية العديدة المتنوعة بالشعوب العربية وثقافاتها وعاداتها وفلكلورها وتقاليدها، وقبل ذلك فوزها في تقديم الإسلام الذين تدين به الغالبية العظمى من الشعوب العربية، والقيم التي اكتسبتها منه، تقديمه بصورة تحفيزية رائعة غير مباشرة دون إقحام أو إرغام. وأعتقد أن صورة العربي قد تغيرت بنسبة كبيرة على مستوى العالم بسبب مونديال قطر.

لم يدر في حسابات الكيان الصهيوني أن مونديال كأس العالم في قطر سيفسد عليه جهوده الجبارة التي قام بها على مدى عقود طويلة لتضليل شعوب العالم حول ما يقوم به في فلسطين المحتلة، وما قام به من اغتصاب لأرضها وتقتيل وتهجير ومحاصرة لشعبها، منذ حوالي قرن من الزمان

الفوز الثالث: فضح الصهيونية والانتصار للقضية الفلسطينية

لم يدر في حسابات الكيان الصهيوني أن مونديال كأس العالم سيفسد عليه جهوده الجبارة التي قام بها على مدى عقود طويلة لتضليل شعوب العالم حول ما يقوم به في فلسطين المحتلة، وما قام به من اغتصاب لأرضها وتقتيل وتهجير ومحاصرة لشعبها الذي يعاني بسبب ذلك منذ حوالي قرن من الزمان. عقود طويلة من التضليل جعلت الكثير من شعوب العالم لا يعرف شيئا عن فلسطين ولا عن شعبها ومأساته ومعاناته، ولا يعرف سوى دولة إسرائيل الديمقراطية المتحضرة التي تغير عليها من حين لآخر مجموعات عربية إرهابية متفلتة تهاجم النساء والأطفال وتزعزع استقرار الدولة.

لقد انقلب المونديال وبالا على رأس الكيان الصهيوني، المخدوع بما حققه من إنجازات رسمية على صعيد التطبيع مع عدد إضافي من الدول العربية ضمن ما يعرف بـ"مشروع اتفاقيات أبراهام"، لدرجة أن تصرّح قيادات صهيونية بارزة بأن المونديال أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن التطبيع الذي يقومون به مع الدول العربية إنما هو تطبيع على المستوى الرسمي فقط، وليس على مستوى الشعوب.

لم تغب أعلام فلسطين عن مباريات المونديال وسط جماهير المشاهدين في المدرجات، ولم تتوقف الفعاليات التعريفية المبدعة بالقضية الفلسطينية طيلة الوقت، وسط الحشود الشعبية الزائرة، التي كانت تعبر عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني، وتعرب بسعادة عن مطالبتها بتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني. لم تنظم دولة قطر هذه الفعاليات، التي كشفت أن فلسطين تعشش في الوعي الشعبي العربي، كجزء من هويته وتاريخه وحاضره ومستقبله، يحملها معها أينما كان، ويدافع عنها بما يستطيع، كلما وجد إلى ذلك سبيلا.

وقد فازت قطر ببراعة فائقة، عندما تركت شعوب العالم الزائرة تتفاعل فيما بينها، وتتبادل المعارف والثقافات والقيم والمواقف، في صورة فلكلورية مبهجة ستظل مستوطنة في الذاكرة لسنوات طويلة.

لا تنتهي الجوانب التي حققت فيها قطر فوزا مدهشا بكل المقاييس، في استضافة مونديال كأس العالم لكرة القدم 2022، ولكن العلامة الأبرز في هذا الحدث، هي أن المونديال كان روسيا عندما أقيم في روسيا، وفرنسيا عندما أقيم في فرنسا، وأفريقيا عندما أقيم في جنوب أفريقيا، وهو عربي بامتياز عندما أقيم في دولة قطر التي أعلن أميرها من اليوم الأول أن المونديال ليس مونديال قطر، وإنما مونديال العرب.

ستبقى شعوب العالم تتكلم عن قطر والعرب لسنوات وأجيال عديدة قادمة، وستنطلق بعد هذا المونديال العديد من الأنشطة والفعاليات الجديدة التجارية والثقافية والفنية والسياحية المتبادلة، التي لم تكن من قبل، بين هذه الشعوب وبين الشعوب العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.