العرب والتغيير.. أضواء الخارج الحمر والخضر

Arab League foreign ministers hold an emergency meeting on Trump's decision to recognise Jerusalem as the capital of Israel, in Cairo, Egypt December 9, 2017. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany

بين الأحمر والأخضر
أمن دولة الاحتلال
الحل يبدأ من الداخل 

إن جوهر شعارات ثورات 2011 يشبه إلى حد كبير شعارات حركات التحرر الوطني أثناء فترة الاستعمار، فالمطالبة بالحرية اليوم هي ذاتها المطالبة بالدستور في الماضي، والمناداة باستعادة الكرامة الوطنية والتخلص من التبعية يقابلها سابقا هدف الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي، والعدالة الاجتماعية ظلت هدفا غير متحقق منذ الاستقلال.

والسبب الأساسي في هذا التشابه هو أن المشكلات الأساسية التي واجهها العرب -منذ إسقاط الدولة العثمانية وتقسيم أقاليمها إلى دويلات متفرقة- ما زالت قائمة ولو بأشكال مختلفة: مشكلة هُوية المنطقة ودويلاتها التي تشكلت تعسفياً، ومشكلة طبيعة السلطة المستبدة بأدواتها المختلفة، ومشكلة التبعية للخارج، ومشكلة توزيع الثروة وغياب العدل.

يتناول هذا المقال جدلية الداخل والخارج في مصير الثورات العربية التي اندلعت عام 2011؛ فهناك ممانعة غربية للديمقراطية العربية لكن هذه الممانعة ليست أمرا حتميا، والتغيير لا يبدأ إلا من الداخل بتكتل أصحاب المصلحة ودفع الخارج دفعا إلى التنازل.

بين الأحمر والأخضر
إن الدول الكبرى فاعل أساسي في مصير المنطقة منذ أن أنشأت دويلاتها ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومنذ أن تعهدت برعاية معظم الحكومات المستبدة في المنطقة سياسيا وعسكريا واقتصاديا.

ويمثل التحالف مع الحكومات العربية المستبدة أحد عناصر ثلاثة للمصلحة الأميركية في المنطقة، بجانب أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي والالتزام بتفوقها العسكري على العرب، وضمان تدفق النفط بأسعار رخيصة من المنطقة. فأميركا لا تضغط على الأصدقاء لأجل حقوق الإنسان والديمقراطية، كما أعلن السفير الأميركي الأسبق بمصر ديفد وولش عام 2010.

ويمثل التحالف مع الحكومات العربية المستبدة أحد عناصر ثلاثة للمصلحة الأميركية في المنطقة، بجانب أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي والالتزام بتفوقها العسكري على العرب، وضمان تدفق النفط بأسعار رخيصة من المنطقة. فأميركا لا تضغط على الأصدقاء لأجل حقوق الإنسان والديمقراطية، كما أعلن السفير الأميركي الأسبق بمصر

كانت هناك -منذ نشأة النظام العربي بعد الاستقلال ولا تزال- ممانعة غربية للديمقراطية في الدول العربية، لأن الديمقراطية ببساطة ستنتج حكومات وطنية تعمل لمصلحة شعوبها، وتنفذ برامج تنمية حقيقية لمجتمعاتها.

وقد تم إخفاء هذا الأمر تحت نظريات واهية تتحدث عن الاستثناء العربي لأسباب ثقافية (وكأن هناك جينات تقبل الحرية وأخرى ترفضها)، أو بادعاء أن الأجهزة الأمنية والعسكرية وطموحات الزعماء المطلقين هي السبب (وكأن الديمقراطيات الغربية بريئة من تدريب وتجهيز تلك الأجهزة وهؤلاء الزعماء)، أو لغيرها من الادعاءات.

إن بقاء النظم المستبدة يستند إلى عوامل مركبة داخلية وخارجية، لا شك في ذلك؛ لكن هناك عوامل أكثر تأثيرا من غيرها. وكما أظهرت تجارب أخرى؛ فإن أهم عاملين هما: درجة تماسك الفئة الحاكمة وهيمنتها على الدولة والمجتمع، ودعم قوى خارجية للحكومات المستبدة الحليفة، أو تجاهل هذه القوى انتهاكات الحكومات المستبدة غير الحليفة لحقوق الإنسان.

وفيما يخص العامل الخارجي؛ كان هناك دوما ضوء أحمر وآخر أخضر من القوى الكبرى -وعلى رأسها الولايات المتحدة– تجاه دول المنطقة. فالضوء الأحمر كان ولا يزال مرفوعا في وجه حركات التغيير الوطنية في الدول المستبدة الحليفة منذ الاستقلال وحتى ثورات 2011.

أما الضوء الأخضر فرُفع -ولا يزال يرفع- أمام الحكومات العربية المستبدة غير الحليفة، للاستمرار في قمع المعارضين عبر تجاهل الحكومات الغربية المذابح التي قامت بها هذه الحكومات تجاه شعوبها.

ففي السابق؛ تم تجاهل مذابح حافظ الأسد بحق الإخوان المسلمين في حماة السورية (1982)، وقمع الحرس الجمهوري العراقي ثورات الشيعة والأكراد في العراق (1991)، وقمع القذافي لتمرد الجيش الليبي (1993)، واليوم يُتجاهَل قتل نحو نصف مليون سوري منذ 2011، والآلاف من الأبرياء بمصر في مذابح ما بعد الثورة المضادة (منذ 2013)، وآلاف أخرى في ليبيا واليمن منذ 2011. 

أمن دولة الاحتلال
ترتبط بهذه الأضواء الحمر والخضر مسألة الأمن الإسرائيلي كمحدد أساسي للأميركيين والأوربيين في علاقتهم بالعرب، والتي ترجمت عمليا في معادلة تربط بين أمن دولة الاحتلال وشرعيتها وبقاء أنظمة الحكم العربية واستقرارها. ولهذا مثلت الديمقراطية العربية وثورات 2011 خطرا وجوديا على المشروع الصهيوني وأمن دولة الاحتلال.

وقد استخدم الحكام العرب فزاعة الإسلاميين للحفاظ على هذه المعادلة، وكان حسني مبارك واضحا في استخدام هذه الفزاعة لمواجهة ضغط إدارة جورج بوش الابن من أجل الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.

ففي تصريحاته للواشنطن بوست الأميركية (يوم 23 مارس/آذار 2003) تعليقا على منع عشرات الآلاف من المشاركة في جنازة مرشد الإخوان مصطفى مشهور؛ قال مبارك إن الديمقراطية التي تريدها أميركا "ستوصل الإخوان إلى الحكم في القاهرة وعمّان والرياض وفلسطين".

من المهم التذكير هنا بما نشرته جريدة معاريف الإسرائيلية (3 آب/أغسطس 2011) تحت عنوان "خطة نتنياهو لوقف الإسلام"، ناقلةً تصريحات نتنياهو الداعية إلى إنشاء صندوق دولي -على غرار خطة مارشال في أوروبا- لدعم خصوم الإسلاميين في العالم العربي، ومنع الإسلام من السيطرة على الشرق الأوسط

واستمرت فزاعة الإسلاميين وظهرت بجلاء منذ الأيام الأولى لثورات عام 2011، حينما قام بنيامين نتنياهو وحكومته الإسرائيلية واليمين المحافظ في أميركا باستخدامها بشكل مكثف للمحافظة على المعادلة القديمة، وتحالف معهم هذه المرة حكام من المنطقة، ولاسيما في الإمارات والسعودية اللتين مثلت ثورات 2011 خطرا وجوديا عليهما أيضا.

ومن الأهمية التذكير هنا بما نشرته جريدة معاريف الإسرائيلية (3 آب/أغسطس 2011) تحت عنوان "خطة نتنياهو لوقف الإسلام"، ناقلةً تصريحات نتنياهو الداعية إلى إنشاء صندوق دولي -على غرار خطة مارشال في أوروبا- لدعم خصوم الإسلاميين في العالم العربي، ومنع الإسلام من السيطرة على الشرق الأوسط.

ودعا داني أيالون (نائب وزير الخارجية آنذاك) الدولَ العربية الثرية إلى تمويل هذا الصندوق. وهذا يذكرنا بلا شك بالدعم المالي الإماراتي لحركة "تمرد" المصرية، وبالمعونات المالية السخية الخليجية الذي انهمرت على مصر بعد 3 يوليو/تموز 2013. 

أما ما يسمى "الحرب على الإرهاب"؛ فيمثل إحدى إستراتيجيات الحكومات المستبدة وحلفائها الخارجيين لإجهاض أي تحرك نحو الإصلاح. وكما كتبت من قبل؛ فإن المنطقة دخلت -ثلاث مرات على الأقل- في هذه الحرب خلال العقود الثلاثة الماضية تقريبا.

وتم في كل مرة إدخال المنطقة في حرب ضد عدو داخلي (جماعات التطرف العنيفة)، بينما يتم اتباع سياسة تكميم الأفواه وغلق الحياة السياسية (وهي سياسات تساعد في تقوية هذه الجماعات المتطرفة).

حدث هذا نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات مع عودة ما أطلق عليهم "الأفغان العرب"، لتحل الحرب على الحركات المسلحة "الإرهابية" محل الأصوات التي كانت تدعو للإصلاح السلمي في دول مثل مصر والسعودية والجزائر والسودان مثلا.

ثم حدث للمرة الثانية في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، حيث اجهضت الأصوات السلمية المعارضة في أكثر من دولة عربية، لحساب معركة الحرب على الإرهاب. ثم كانت المرة الثالثة بعد ثورات 2011؛ فتحول نضال شعوب المنطقة من أجل الكرامة والحرية والعدالة إلى حرب على إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأخواته.

الحل يبدأ من الداخل
جدلية الداخل والخارج في تأزيم مشكلات المنطقة تمتد إلى جوانب أخرى فكرية إلى حد كبير. فبعض الدوائر الغربية الرسمية والبحثية تفترض أن عمليات الإصلاح والانتقال الديمقراطي تتجه إلى شكل معين من أشكال الديمقراطية، هي "الديمقراطية التمثيلية الإجرائية"؛ مع ربطها أيضا بالليبرالية" و"العلمانية" ربطا شبه عضوي.

وللأسف ساهمت كتابات بحثية عربية في هذا، الأمر الذي سبّب قدرا كبيرا من التوتر وعرقل مسارات الانتقال. فالنظر إلى الديمقراطية على أنها منتج غربي فقط، والربط بينها وبين الليبرالية كمرجعية عليا للنظام الديمقراطي المنشود، بل وربط هذه الديمقراطية بعمليات الإصلاح الهيكلي على النمط النيوليبرالي أيضا، ثم تقديم هذه الديمقراطية كوصفة للجميع على أيدي خبراء ومراكز بحثية؛ يتناقض مع عدة حقائق.

الدور الأميركي والغربي المعرقِل للديمقراطية ليس قَدَراً لا مفرّ منه، فقد نجحت شعوب أخرى في مواجهته أو تحييده على الأقل. إن خبرة الآخرين تؤكد وجود سنة كونية هي أن التغيير لا يبدأ إلا من الداخل، ولا يمكن تصور مواجهة الممانعة الخارجية إلا بظهور تكتلات وطنية عابرة للتوجهات السياسية والأيديولوجية، على المستوى القُطْري وعلى المستوى العربي العام

إنه يتناقض أولا مع حقيقة أن للديمقراطية جذورا خارج الحضارة الغربية المعاصرة، كما كتب الكثيرون في الغرب والشرق. ويتناقض ثانيا مع حقيقة أن هناك تباينات داخل المنظومة الغربية ذاتها فيما يتصل بالليبرالية والعلمانية في التطبيق.

هذا إلى جانب تجاهل حقيقة أن بناء نظام سياسي جديد لا يمكن أن يتم بمعزل عن الأوضاع الثقافية والاجتماعية لكل مجتمع، وهذه عملية مرت بها أغلبية المجتمعات التي نجحت في الانتقال الديمقراطي خارج المنظومة الغربية، كاليابان والهند وجنوب أفريقيا وغيرها.

الدور الأميركي المعرقل للديمقراطية لا يخص العرب فقط بطبيعة الحال، فخبرة أميركا اللاتينية تشير إلى أن الدول التي ظَلّ فيها النفوذ الأميركي كبيًرا -مثل دول الكاريبي وأميركا الوسطى- هي الدول الأقل تقدمًا نحو الديمقراطية.

ولأميركا تاريخ طويل في دعم الحكومات العسكرية والفردية في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، في تناقض تام بين قيمها وأنظمتها الداخلية، وسياستها الخارجية التي تقوم على الازدواجية؛ في استمرار لما عُرف بـ"دبلوماسية الزنجي الأبيض" التي قامت بريطانيا وفقها بالتآمر على العرب والأتراك وخداعهم لإسقاط الدولة العثمانية، وتقسيم العالم العربي، وزرع الدولة الصهيونية في فلسطين.    

لكن الدور الأميركي والغربي المعرقِل للديمقراطية ليس قَدَراً لا مفرّ منه، فقد نجحت شعوب أخرى في مواجهته أو تحييده على الأقل. إن خبرة الآخرين تؤكد وجود سنة كونية هي أن التغيير لا يبدأ إلا من الداخل، ولا يمكن تصور مواجهة الممانعة الخارجية إلا بظهور تكتلات وطنية عابرة للتوجهات السياسية والأيديولوجية، على المستوى القُطْري وعلى المستوى العربي العام.

تكتلات تقوم على قاعدة الديمقراطية والمواطنة، ويكون تركيزها الأساسي هو معالجة المشكلات الأساسية والجوهرية التي لم تعالَج منذ نشأة النظام العربي (الكرامة وامتلاك الإرادة الوطنية، الحرية والدستور الديمقراطي، العدل الاجتماعي وتمكين الشعوب)؛ هذا فضلا عن مشاكل الحدود، وهوية وكيان الدويلات القُطْرية التي لا مستقبل لها إلا بالتكتل، وتحويل التنوع الثقافي والديني واللغوي والعرقي إلى مصدر قوة، كما كان قرونا طويلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.