أيهما أهم جرائم الخارج أم الداخل؟

A general view shows the 4th EU-League of Arab States Ministerial meeting between Arab and European foreign ministers, to discuss the Syrian and Iraqi crises, at the Arab League Headquarters in Cairo, Egypt December 20, 2016. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh

يرى البعض -في ضوء الجرائم التي ترتكبها أنظمة عربية في حق شعوبها- ضرورة أن نلوم أنفسنا ولا نلوم الآخرين، لأن جرائم تلك الأنظمة فاقت جرائم الاستعمار والصهيونية معاً. وفيما يلي ملاحظات سريعة بشأن هذا الموضوع. 

أولا: وزن جرائم الطرفين الداخلي والخارجي أمرٌ فيه نظر، لكن إن أردنا قياس الأوزان النسبية فقد يحتاج الأمر إلى مؤرخين وباحثين من تخصصات مختلفة للوصول إلى قياس أثر كل جريمة على الحاضر والمستقبل.

من وجهة نظري؛ فإن قياس تلك الأوزان ليس من أولوياتنا، فكما نعلم قتل إنسان واحد يعادل في ديننا قتل الناس جميعا، وحُرمة دم المسلم أعظم عند الله من هدم الكعبة المشرفة.

علينا لوم النفس بلا شك، لكن هذا لا يعني إعفاء من يدعم تلك الأنظمة في الغرب والشرق من المسؤولية. فمنذ أيام؛ قال رئيس الحكومة الإسرائيلية -في خطابه بالكنيست بمناسبة اتفاقية الصلح التي وقعها أنور السادات منفردا مع مناحيم بيغن عام 1979- إن "مشكلة بلاده لم تعد مع الحكام العرب وإنما مع الشعوب العربية"

لكن وحتى نصل إلى تلك الدراسات الدقيقة إن كان ذلك ممكنا؛ فهل من الصواب والمنطقي التغاضي عن جرائم طرف بدعوى أن طرفا آخر ارتكب جرائم يراها البعض أكبر جُرما وأكثر اتساعا من جرائم الطرف الأول؟

ولماذا إذن كانت حالات القصاص من القتلة والمجرمين؟ ولماذا كانت المطالبة بالعدل والانصاف من الظالمين؟ ولماذا كانت حروب الثأر والانتقام عبر تاريخ البشرية كلها باختلاف الزمان والمكان؟  

ثانيا: علينا لوم النفس بلا شك، وقد مارست شخصيا نقد أنظمتنا منذ زمن بعيد ولا أزال، لكن هذا لا يعني إعفاء من يدعم تلك الأنظمة في الغرب والشرق من المسؤولية. فمنذ أيام؛ قال رئيس الحكومة الإسرائيلية -في خطابه بالكنيست بمناسبة اتفاقية الصلح التي وقعها أنور السادات منفردا مع مناحيم بيغن عام 1979- إن "مشكلة بلاده لم تعد مع الحكام العرب وإنما مع الشعوب العربية".

كما أن العلاقات بين الإسرائيليين وحكومة مصر بعد الثورة المضادة عام 2013 "أقوى من علاقات مصر والسودان"، و"مبارك كان كنزا استراتيجيا للصهاينة"، و"السيسي فاق مبارك في تحالفه معهم"، و"أميركا لا تضغط على الأصدقاء من الحكام العرب"، و"العلاقات الأميركية المصرية ساهمت في إجهاض الديمقراطية في مصر منذ عقود".

و"الاستعمار المباشر رحل وترك وراءه الاستعمار غير المباشر"، و"الحكومات الغربية تمارس سياسة الكذب والخداع والمعايير المزدوجة تجاه المنطقة منذ أكثر من مئة عام على الأقل"، و"روسيا حاربت ثورات الربيع العربي وتفتخر بهذا".

أما رجل السياسة الاستعمارية البريطاني اللورد كرومر فقد لخص في كتابه المعنون "مصر الحديثة" (صدر عام 1910) ما أراده المستعمر وقت خروجه من مصر، عندما تحدث عن أهمية أن تترك بريطانيا وراءها نظامَ حكم "مستقرا" وقادرا على "تلافي الفوضى والإفلاس"، وعلى منع "المسألة المصرية من أن تصبح سببًا خطيرًا من أسباب خلق المتاعب لأوروبا"، وأن يتصرف نظام الحكم المصري "وفق مبادئ تتفق مع المتطلبات العامة للحضارة الغربية".

وأضاف كرومر أن على بريطانيا التخلي عن سياسة عدم التدخل الأوروبي، وأنه "لمن دواعي سخرية القدر افتراض أن أوروبا ستكون متفرجًا سلبيًا" في حال تشكيل حكومة مصرية "تؤسَّس على مبادئ إسلامية خالصة، وأفكار شرقية عتيقة وبالية". وترك خلفه أيضا وصية "بألا يقام في مصر نظام تعليم حقيقي يقوّي الشعب ويمكنه".

هذه الأقوال وغيرها نتاج تصريحات مسؤولين غربيين وشرقيين، أو نتاج دراسات وكتب ورسائل دكتوراه قدمها باحثون غربيون في الغرب. فهل من الصواب إذن تجاهل كل هذا ببساطة لأن حكامنا يقتلون شعوبهم؟

ثالثا: التذكير المستمر بمسؤولية الحكومات الغربية وأدوارها القديمة والحديثة تجاه قضايانا العادلة أمر مهم للغاية بنفس قدر أهمية نقد الداخل، وذلك في ضوء اعتبارات أخرى مهمة، منها عمليات غسل الأدمغة التي تقوم بها حكومات عربية لإلقاء مسؤولية التخلف بالكامل على الشعوب فقط، وكأن التخلف سمة جينية عند العرب فقط، أو كأن الحكومات غير مسؤولة عن كل عمليات الفساد والإفساد الممنهجة.

التذكير المستمر بمسؤولية الحكومات الغربية وأدوارها القديمة والحديثة تجاه قضايانا العادلة أمر مهم للغاية بنفس قدر أهمية نقد الداخل، وذلك في ضوء اعتبارات أخرى مهمة، منها عمليات غسل الأدمغة التي تقوم بها حكومات عربية لإلقاء مسؤولية التخلف بالكامل على الشعوب فقط، وكأن التخلف سمة جينية عند العرب فقط، أو كأن الحكومات غير مسؤولة عن الفساد والإفساد

ومن الاعتبارات أيضا عمليات غسل الأدمغة التي يقوم بها الاسرائيليون، ومؤخرا قرأنا في الصحف أن الحكومة الإسرائيلية تنفق مليارات الدولارات على مواقع إنترنت باللغة العربية في وسائل التواصل الاجتماعي، لنشر وجهات النظر الإسرائيلية (أي الأكاذيب الصهيونية) والحصول على تعاطف الشعوب العربية. وتقول التقارير إن هذه السياسة تحقق نجاحات كبيرة في ضوء تقاعس الحكومات وانشغالها، وفي ضوء انشغال النُّخَب والمثقفين بقضايا داخلية.

كما أن التذكير المستمر بمسؤولية الخارج مهم في ضوء قيام عدد من المثقفين العرب باحتراف الكذب وتزوير التاريخ وتمييع الحقائق، وفي ضوء حالة الجهل السائدة، والحالة البائسة لمدارسنا وجامعاتنا، ومناهجنا التعليمية والتربوية، ومراكز بحوثنا، وأجهزة إعلامنا.

رابعا: أليس من سمات الطغاة -في كل زمان ومكان- التنكيلُ بالشعوب قمعا وسجنا وقتلا في الداخل، وإشعالُ الحروب مع الخارج؟ هذه سُنة كونية تسري على كل الطغاة عندنا وعند غيرنا. فبعيداً عن التاريخ القديم والوسيط؛ ظهر في عصرنا عشرات من الحكام الدكتاتوريين الذين قتلوا الملايين من البشر، وأمثالهم كُثر لا مجال لذكرهم هنا.

إن لذاكرة السمكة التي عندنا عدة أسباب؛ أهمها الجهل بالتاريخ، وعدم القراءة، وتسطيح عقول التلاميذ في مدارسنا وجامعاتنا، وما تقوم به أجهزتنا الأمنية والأنظمة القمعية التي تضع أمام الناس بديلين فقط: فإما العيش في الظلم والجهل والصمت وإمّا الفوضى والقتل والتنكيل.

خامسا: أي تغيير لا بد من أن يبدأ من الداخل، هذه حقيقة أثبتتها معظم حالات التغيير، ولا يمكن دفع الحكومات الغربية إلى تعديل مواقفها إلا إذا وُجدت قوة داخلية موحدة (أو حكومات منتخبة ومسؤولة وتمكن محاسبتها من الشعوب) قادرة على دفعها دفعا إلى ذاك.

لكن تغيير الأنظمة في الداخل يقتضي فهم تحالفاتها الداخلية والخارجية، والعمل على مواجهة هذه التحالفات في كل المساحات الممكنة، وكسب الأنصار لصالح التغيير من الداخل والخارج. وإزاء الخارج تحديدا؛ لا بد أيضا من الاجتهاد في البحث عن سبل لإيجاد علاقات ندية مع الخارج، تقوم على توازن المصالح وليس سحق المصالح العربية كما هو قائم الآن.

إن التغيير تؤثر فيه عوامل متعددة، منها العوامل الخارجية بلا شك؛ إذ لم تسقط أنظمة الحزب الواحد في شرق أوروبا إلا بتوافر الشرطين الداخلي والخارجي معا (قوى تدفع للتغيير داخليا، بجانب ضعف الدعم المقدم من الاتحاد السوفياتي وتوفر الدعم الغربي من الخارج)، وحدث ذات الشيء في جنوب أفريقيا(نضال ممتد مسلح وسلمي في الداخل بجانب عقوبات خارجية ودعم من الشعوب الحرة من الخارج).

واجهت حركات التحرر والثورات خصوما من الداخل والخارج، بدءا من حركات التحرر في العالم الثالث وانتهاءً بثورات 2011 العربية. وللولايات المتحدة إستراتيجيات معتمَدة ومعلنة لإجهاض حركات التمرد المناهضة لها في الخارج؛ فلماذا إذن يجب علينا الفصل بين الداخل والخارج عند التصدي لمسألة التغيير في الوطن العربي؟

وفي المقابل؛ واجهت حركات التحرر والثورات خصوما من الداخل والخارج، بدءا من حركات التحرر في العالم الثالث وانتهاءً بثورات 2011 العربية. وللولايات المتحدة إستراتيجيات معتمَدة ومعلنة لإجهاض حركات التمرد المناهضة لها في الخارج؛ فلماذا إذن يجب علينا الفصل بين الداخل والخارج عند التصدي لمسألة التغيير في الوطن العربي؟

سادسا: علينا أن نسأل أنفسنا: كم عدد المراكز البحثية العربية المعنية بالدراسات الإسرائيلية أو الأميركية أو الروسية؟ وكم عدد البرامج التلفزيونية والصحف التي تخصص صفحات يومية لصراعنا الوجودي مع الإسرائيليين؟ وعلينا أن نسأل أنفسنا: أين هي برامج الدراسات العليا المتخصصة في تلك المجالات؟

وعلينا أن نقارن هذا بمراكز البحوث الإسرائيلية والغربية والشرقية التي تدرس العرب والمسلمين (أي تدرس الخارج بالنسبة لها)، ثقافيا وأنثربولوجياً واجتماعيا واقتصاديا وتعليميا وسياسيا وعسكريا وإستراتيجياً.

لماذا لا نسمع أصواتا من مثقفي الغرب أو الشرق تدعو إلى الاهتمام بحل المشكلات الداخلية عندهم (وهي كثيرة)، بدلا من تخصيص المليارات من الدولارات لمعرفة الآخر (وهو طرف ضعيف الآن بالمناسبة)، ودراسة لغته العربية بل ولهجاته المحلية وعاداته وتقاليده وثقافته، وتحديد أولوياته ووضع خطط "للإصلاح" فيه؟

أخيرا؛ إن معركة التغيير متعددة الجبهات ولا يمكن حصرها في طرف واحد، ويجب أن تُدار على كل الجبهات دون تهوين أو تهويل لعامل دون آخر، ودون الوقوع لا في فخ جلد الذات ولا في فخ التهرب من المسؤولية ورميها على الآخرين. والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.