باريس تعترف بمسؤوليتها عن الإبادة في رواندا وتغض الطرف عما فعلته في الجزائر.. ما وراء ازدواجية السلوك الفرنسي

التعاطي المزدوج لفرنسا مع رواندا والجزائر في موضوع الإبادة، أثار حفيظة الجزائريين الذين رأوا أنه لا مجال للمقارنة بين تورط باريس المحدود مع الأولى ومسؤوليتها الكاملة في الثانية.

الجزائريون يستغربون طلب ماكرون الصفح من رواندا وتجاهل الاعتراف الكامل بجرائم فرنسا في بلادهم (الجزيرة)

لا يزال خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمام الروانديين نهاية الأسبوع الماضي، يلقي بظلاله على الجزائر، بعدما أعلن بعبارات لافتة الاعتراف بمسؤولية بلاده في حرب الإبادة الجماعية، حتى أن الرئيس بول كاغامي وصفه بأنه "أهم من الاعتذار".

ومن جانبها رأت رموز النخبة الجزائرية في موقف ماكرون، تجاه رواندا، تنازلا من باريس عن العنجهية الاستعمارية التي طالما واجهت بها بلدان القارة بشأن تسوية الذاكرة المجروحة لأجل استعادة مصالحها الضائعة، وإلا كيف يمكن تفسير التعاطي المزدوج لفرنسا مع كيغالي والجزائر، مع أنه لا مجال للمقارنة بين تورطها المحدود مع الأولى ومسؤوليتها الكاملة في الثانية، يتساءل هؤلاء.

وبالأرقام، فإن فرنسا "تعتذر" ضمنيا، بل تطلب الصفح عن مشاركتها بصفة غير مباشرة في حرب أهلية دامت سنتين فقط، مخلفة 800 ألف قتيل معظمهم من "التوتسي" في وقت تغض الطرف عن 10 ملايين شهيد جزائري أبادتهم بنفسها منذ الاحتلال عام 1830، مرورا بالثورات والانتفاضات حتى الاستقلال، وفق شهادة المؤرخ الفرنسي جاك جوركي.

ناهيك عن آثار الدمار الاستيطاني المروع على الهوية والأرض والبيئة ونهب الثروات الطائلة واستغلال كل شيء في الجزائر، وأخطرها ملف الجرائم النووية في الصحراء الكبرى، والذي لا تزال تداعياته مفتوحة على المستقبل.

والجواب نطق به مؤرخ فرنسي آخر هو ترامور كيمينور بقوله "سيكون من السذاجة اعتقاد عدم وجود اعتبار اقتصادي لزيارة ماكرون إلى رواندا، فالاعتراف ليس غرضها الوحيد" حيث تهرول فرنسا وتسرع خطاها لمواجهة العملاق الصيني في أفريقيا وإنقاذ الفرنكوفونية الآيلة للزوال في أفريقيا، بحسب مراقبين.

French President Emmanuel Macron visits genocide memorial centre in Gisozi, Kigali
ماكرون ألقى الخطاب بعد زيارة المتحف التذكاري للإبادة التي وقعت عام 1994 في كيغالي (رويترز)

ازدواجية السلوك

وخلّف الحدث ردود فعل واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي من وجوه جزائرية معروفة أكاديميا وسياسيا، حاولت تقديم تفسيراتها لازدواجية السلوك الفرنسي.

وقال المؤرخ جمال زواري على صفحته بموقع فيسبوك "الرضوخ والاعتراف الرسمي الفرنسي جاء بعد سنوات من تجاوز رواندا محنتها وتحولها الجذري من بلد أشباح تنتشر فيه رائحة الجثث المرمية في كل مكان، إلى أسرع البلدان الإفريقية، بل في العالم، في معدلات التنمية".

وغرّد عبد القادر سماري الوزير السابق للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، قائلا "علينا أن نتابع جيدا ما يحدث في رواندا ونأخذ منه درسا.. لقد بدأت عملية الاستقلال الحقيقي عن القوى الغربية عموما وفرنسا على الخصوص، وقررت إنشاء مؤسسات ديمقراطية وتنمية شاملة، مما جعل ماكرون يعترف ويفتح الأرشيف الخاص بحرب الإبادة".

وبدوره، علّق الناشط سيف الإسلام بن عطية بأن "رواندا قطعت حبال الود مع باريس وتحولت للتدريس باللغة الإنجليزية، وتعيش اليوم أزهى أيامها بنمو اقتصادي هو الأسرع أفريقيا".

مسألة مختلفة

وحول موانع خطوة فرنسية قوية تجاه الجزائر، مقارنة بموقفها مع كيغالي، والذي بلغ حد طلب الصفح والغفران، أكد المؤرخ محمد الصالح بوقشور أن مسألة الجزائر، بخلاف رواندا، تبقى في غاية الحساسية لأن الجروح غائرة وتمتد لأجيال ولا تزال حية في الذاكرة الجماعية (الجزائرية).

وأوضح عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حسيبة بن بوعلي أن عدة أطراف في فرنسا تعارض مثل هذا المسعى، مشيرا -في تصريح للجزيرة نت- إلى وجود تيار فرنسي عنصري قوي ومعادٍ للجزائر، تمتد جذوره الأيديولوجية إلى الفكر الاستعماري، يمتلك اليوم وعاء انتخابيا مؤثرا، وبإمكانه إفشال أي سياسي يريد السير في اتجاه الاعتذار.

لذلك يستبعد بوقشور -في الظرف الحالي- أن يجرؤ أي فرنسي يطمح في رئاسة الجمهورية على الإقدام نحو مسعى الاعتذار للجزائر، لأنه يقترن بإرجاع الحقوق.

وشدد على أن فرنسا الرسمية حاولت -من خلال التقرير الأخير للمؤرخ بنجامين ستورا- إقحام الجزائريين الذين شاركوا إلى جانبها بالثورة التحريرية "الحركى" وكذلك "الأقدام السوداء" بصفتهم ضحايا، ولكن الطرف الجزائري يرفض وضع الجلاد والضحية في صف واحد، ويريد اعتذارا خالصا عن الإبادة والجرائم المتعددة منذ عام 1830 إلى 1962.

جرائم دولة

أما بشأن القرائن المادية والقانونية لآثار فرنسا، والتي تدفع باريس للتحفظ بشأن تاريخها الاستعماري خشية الملاحقة القضائية في المحاكم الدولية بأثر رجعي، أكد المؤرخ والقانوني عامر رخيلة أن طبيعة جرائمها في الجزائر وإلغاء وجودها ككيان من الخارطة الدولية، وعمليات الإبادة الجماعية من قوات نظامية بحق الجزائريين تجعلها جرائم دولة.

وعليه فلن تعترف فرنسا بماضيها الوحشي في الجزائر، لاسيما وأنها تنظر لمطالبها بصفته تربّصا بها، للانتقال من تجريم الاستعمار إلى تحريك دعاوى وتقديم عرائض لمنظمات حقوق الإنسان والقضاء الجنائي الدولي، خاصة أن تلك المجازر جرت في ظل سيادة تشريعات دولية وأوروبية وحتى فرنسية تجرّم الأفعال المرتكبة ضد المدنيين على أساس عرقي أو عقائدي، على حد تعبيره.

وأوضح -في تصريح للجزيرة نت- أن فرنسا ستزيد من احتياطاتها بعدم الاعتراف الرسمي بعدما لمست، ولأول مرة، موقفا قويا من الرئيس عبد المجيد تبون.

وأضاف أن باريس مدركة للمتغيرات السريعة في الساحة الجزائرية، والتي تؤكد نزوعها لفك الارتباط بطرح مبدأ الندية في العلاقات الثنائية، وهو ما أربك الدوائر الفرنسية، وأدركت أن فقدانها للأفضلية والأولوية قد بدأ يتجسد فعليا، على حد قوله.

المصدر : الجزيرة