شعار قسم مدونات

أين ذهبت الأخلاق؟

blogs - moral

انتشرت في الغرب مؤخرا موجة من الكتب تعلم الناس فنون اللياقة الاجتماعية أو ما يسمى الإتيكيت، وتعد عودة هذه الكتب بقوة إلى الأسواق ظاهرة جديدة وملفتة للنظر، خاصة مع كثرة الحديث عن الحريات الشخصية التي أصبحت تتعدى على حقوق الآخرين وحقوق المجتمع، وانتشار ظواهر الفردانية والنفعية التي قضت على الكثير من المجاملات الاجتماعية في العقود الأخيرة بالغرب.
 

تشهد مجتمعاتنا تنامي ظاهرة "الجلافة" و"قلة الذوق" بشكل ملفت للنظر، ومن يمثل هذه الظاهرة اليوم ليست الطبقات الفقيرة من المجتمع كما يعتقد البعض

لقد رصدت صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية في أحد أعدادها الصادرة مؤخرا هذه الظاهرة، وأرجعتها إلى حاجة المجتمع الغربي إلى استعادة أصول التعامل القائم على الاحترام بين الأفراد، وليس فقط الركض وراء الاستمتاع الفردي أو الحرية الشخصية. تعجبت من أن الغرب يحاول العودة إلى ما نحاول نحن اليوم التخلي عنه من أجل اللحاق بركب الحضارة.
يوما ما كنا نعلم أولادنا احترام الكبير، واحترام المرأة، وعدم التلفظ بالعبارات الخارجة، والتأدب في الحديث مع الغير.
 

يبحث الغرب اليوم عن استعادة هذه القيم التي بدأنا نحن نتخلى عنها بدعوى أنها أفكار رجعية أو أنها تقدح في فكرة المساواة أو حقوق الآخرين، أعجبني في مقال الفايننشال تايمز اقتباس من كتاب صدر في منتصف القرن الماضي -أي منذ خمسين عاما- بعنوان "الكتاب الكامل عن الإتيكيت" للمؤلفة الأميركية الشهيرة آمي فاندربيلت. كانت نصيحة الكاتبة للرجل عندما يقابل المرأة في الطريق هي التالي "عندما تحيي امرأة تعرفها في الطريق العام انتظر أولا حتى تومئ لك بالتحية، وعندها ارفع قبعتك وأدر وجهك نحوها قليلا مع الابتسام، ولا تتوقف لها إلا إذا قررت هي التوقف أولا، واحذر أن تتوقف أنت أولا أو أن تحملق فيها، وإذا قررت المرأة أن تقف لتحدثك فتحرك بها بعيدا قليلا حتى لا تزاحم المارة، ولا تمد يدك للسلام عليها إلا إذا مدت هي يدها للسلام، ولا تدخن أبدا وأنت تحدثها".
 

هكذا كان الغرب يرى معاملة المرأة واحترامها قبل أن تنتشر موجة الانحلال الأخلاقي، وتتحول إلى سلعة اجتماعية تستغل أبشع استغلال وتحتقر اجتماعيا بدعوى المساواة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كانت تلك المرأة في منتصف القرن الماضي مهانة اجتماعيا في الغرب كما هي الآن؟ وإذا كانوا في الغرب يحاولون اليوم استعادة هذه الأخلاق النبيلة فلماذا نسعى نحن إلى التخلص منها؟
 

إن مجتمعاتنا تشهد تنامي ظاهرة "الجلافة" و"قلة الذوق" بشكل ملفت للنظر، ومن يمثل هذه الظاهرة اليوم ليست الطبقات الفقيرة من المجتمع كما يعتقد البعض، وإنما يكثر انتشارها في الطبقات المتوسطة والعليا من المجتمعات العربية، تتخفى مظاهر انعدام اللياقة الاجتماعية أحيانا تحت مسميات المساواة والحرية الشخصية، أو التعالي على الآخرين بسبب الوضع الاجتماعي أو النجاح المادي، أو بقايا القبلية الجاهلية التي نهى عنها الإسلام.
 

وفي كل هذه الأحوال نشاهد الجيل الجديد من الشباب وهو لا يحترم والديه بدعوى "عدم التكلف" في العلاقة، ويسب أصدقاءه بأبشع الألفاظ بدعوى "التبسط والفكاهة"، ويهزأ من المدرس والضابط والحاكم بدعوى "الحرية الشخصية"، ويسخر من رجل الدين ومن المثقفين والمفكرين لأنهم في نظره "يحلمون بماض لن يعود، أو مدينة فاضلة لن تقوم"، المهم أن كل المجتمع يستحق السخرية والتهكم والاستهزاء.
 

نحن في حاجة إلى عودة "الذوق" إلى كلماتنا، ولا يعني ذلك النفاق الاجتماعي البغيض

المرض ليس مرض الشباب فقط، ولكنه طال بآثاره السيئة معظم فئات مجتمعاتنا، فلم يعد غريبا أن تسمع امرأة تتلفظ بألفاظ معيبة، أو أن ترى رجلا كبيرا في السن ولكنه في الأخلاق ليس كبيرا، التعامل بين فئات المجتمع أصبح أشبه بالمصارعة منه بالحوار أو بالتراحم، نظرتنا إلى بعضنا البعض أصبحت نظرة غريبة لا تمت لمجتمعاتنا وتقاليدنا بصلة، الصغير يتعالى على الكبير، والكبير يحقر الصغير، المرأة تنظر للرجل وكأنه عدو، وتنسى أنه الأب والأخ والزوج والابن.
 

المرأة لم تعد إلا وسيلة للإمتاع لمن يقلدون الغرب في مجتمعاتنا، أو وسيلة للاستعباد لمن يتمسكون بالأخلاق الجاهلية، وينسون أخلاق الإسلام، ينسى الكثيرون أن المرأة هي الأم والزوجة والأخت والابنة وليست ذلك الكيان الغريب الذي يتعرى ويتلوى في القنوات الفضائية بدعوى "الحرية".
 

نحن في حاجة إلى عودة "الذوق" إلى كلماتنا، ولا يعني ذلك النفاق الاجتماعي البغيض، وفي حاجة إلى سيادة مفاهيم "الاحترام" مرة أخرى في مجتمعاتنا، ولا يعني ذلك تسلط الكبير على الصغير أو القوي على الضعيف أو الغني على الفقير، إننا نحتاج إلى استعادة "الأدب" في نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الناس وإلى العالم من حولنا، لقد بعث خير البشر -صلى الله عليه وسلم- ليتمم مكارم الأخلاق، ووصف في أفضل كتاب بأنه على خلق عظيم، ووصفته زوجته عائشة رضي الله عنها بأن خلقه كان القرآن.
 

فاسأل نفسك يا من تقرأ هذه الكلمات: من أين تستمد أخلاقك؟ وما هو مصدر "اللياقة الاجتماعية" أو الإتيكيت الذي تتحلى به؟ قد يطول بك البحث عن خيارات معاصرة تناسب حضارة القرن الـ21، ولكنني أجزم أنك -في النهاية- ستجد أن أفضل كتاب معاصر يجمع أسمى معاني اللياقة الاجتماعية لزماننا القادم هو كتاب جميل موجود في كل الأسواق يسمى القرآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.