إرث قمة سنغافورة الملتبس

2 من لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في سنغافورة يوم 12 يونيو/حزيران 2018

عاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب من اجتماع القمة القصير في سنغافورة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وهو في حالة من الابتهاج الشديد. حتى إن ترامب عَلَّق عبر تويتر قائلا: "الآن يستطيع كل إنسان أن يشعر بقدر من الأمان أكبر كثيرا من اليوم الذي توليت فيه منصبي. فلم يعد هناك تهديد نووي من كوريا الشمالية".

وفي وقت لاحق قال للمراسلين: "لقد حللت هذه المشكلة". ولكن هناك مشكلة واحدة: وهي أن كل ما ادّعاه ترامب غير صحيح؛ فلا يزال التهديد النووي الذي تفرضه كوريا الشمالية باقيا على حاله، وكان البيان المشترك الصادر عن الزعيمين مقتضبا (391 كلمة فقط)، كما كان غامضا.

كان البيان يدور حول التطلعات وليس الإنجازات؛ فلم تلتزم كوريا الشمالية إلا "بالعمل نحو نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية بالكامل". ولكن غاب عن الأمر أي تعريف لما قد ينطوي عليه نزع السلاح النووي، أو أي جدول زمني للتنفيذ، أو أي إشارة إلى كيفية التحقق من أي إجراءات.

ولم تُذكَر حتى قضايا أخرى متعلقة بالأسلحة النووية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية. وحتى الآن على الأقل؛ لا يرقى الاتفاق مع كوريا الشمالية حتى إلى الاتفاق النووي مع إيران، الذي استنكره ترامب ثم تبرأ منه قبل شهر من مقابلته كيم.

البيان الختامي للقمة دار حول التطلعات وليس الإنجازات؛ فلم تلتزم كوريا الشمالية إلا "بالعمل نحو نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية بالكامل". ولكن غاب عن الأمر أي تعريف لما قد ينطوي عليه نزع السلاح النووي، أو أي جدول زمني للتنفيذ، أو أي إشارة إلى كيفية التحقق من أي إجراءات

هذا لا يعني أن قمة سنغافورة كانت بلا قيمة؛ ففي الوقت الحالي -على الأقل- أصبحت العلاقات الثنائية في حال أفضل مما كانت عليه قبل عام واحد، عندما كانت كوريا الشمالية تُجري تجارب نووية وصاروخية، وكان المراقبون (وأنا منهم) مشغولين بحساب احتمالات دخول الدولتين في حرب، وليس انخراطهما في صنع السلام.

وبالنظر إلى المستقبل؛ يمكننا أن نتبين من حيث المبدأ احتمال تمكن الولايات المتحدة وكوريا الشمالية من التوصل إلى اتفاق بشأن العديد من القضايا والتفاصيل المهمة، التي أغفلتها قمة سنغافورة.

لكن تحويل هذا الاحتمال إلى حقيقة واقعة أمر صعب للغاية؛ فهناك أسباب عديدة تدعونا إلى الشك في تخلي كوريا الشمالية -في أي وقت مستقبلا- عن الأسلحة (النووية)، وهي التي تفسر أكثر من أي شيء آخر رغبة أميركا في التعامل معها بجدية وندًّا لند.

وبالإضافة إلى هذا؛ لم تكن تجربة أوكرانيا -وهي الدولة التي تخلت عن أسلحتها النووية ورغم ذلك لم يحرك العالَم ساكنا عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم– لتقدم لكيم جونغ أون أي سبب يحمله على أن يحذو حذوها. وبوسعنا أن نقول نفس الشيء عن ليبيا، بالنظر إلى المصير الذي انتهى إليه العقيد معمر القذافي.

هناك أيضا سبب وجيه للشك في إقدام كوريا الشمالية -وهي الدولة الأكثر انغلاقا وسرية- على السماح بذلك النوع من عمليات التفتيش الدولية المتطفلة، والتي ستكون لازمة للتحقق من امتثالها للتعهدات المنصوص عيها في أي اتفاقية تُبرم معها مستقبلا.

ويبدو أن ترامب يعتقد أن كيم يمكن حمله على الامتثال ليس ببساطة عبر التهديد والضغوط فحسب، بل وأيضا بالإطراء والوعود. وقد أذاع البيت الأبيض مقطع فيديو من أربع دقائق أظهر كيم على أنه رجل قد يتحول إلى شخصية تاريخية عظيمة، إذا تغير بشكل جوهري.

كما كان الفيديو حريصا كل الحرص على إظهار ما قد تجنيه كوريا الشمالية اقتصاديا إذا لبّت المطالب الأميركية. حتى إن الرئيس (ترامب) تحدث عن الإمكانات التي يتمتع بها الشمال كموقع للتطوير العقاري والسياحة.

ولكن لم يخطر على ذهن ترامب كما يبدو أن مثل هذا المستقبل يحمل من المخاطر أكثر مما يقدمه من وعود، من منظور شخص حكمت أسرته بقبضة من حديد لثلاثة أجيال. فربما تجد كوريا الشمالية المفتوحة على رجال الأعمال الغربيين نفسَها قريبا مخترقة بالأفكار الغربية. ومن المؤكد أن الاضطرابات الشعبية ستتبع ذلك.

يؤكد ترامب أهمية العلاقات الشخصية، وقد ادّعى أنه أنشأ علاقة شخصية مع كيم في غضون ساعات. وقد تحدث أكثر من مرة عن الثقة التي يكنّها لزعيم يحمل سجلا في قتل أولئك الذين يرى أنهم أعداؤه (ومنهم عمه وشقيقه). وكل هذا يقلب رأسا على عقب مقولة رونالد ريغان"ثِق.. ولكن تحقق"، لكي تتحول إلى "لا تتحقق.. ولكن ثِق".

مكمن الخطر بطبيعة الحال هو أن تفشل المفاوضات اللاحقة بين البلدين -لكل هذه الأسباب- في تحقيق نزع السلاح النووي الكامل والقابل للتحقق في كوريا الشمالية، وهو ما قالت الولايات المتحدة إنه لا بد من أن يحدث قريبا. ومن المرجح أن يبادر ترامب آنئذ إلى اتهام كيم بخيانة الثقة

الواقع أن بعض تعليقات ترامب بعد القمة أضعفت -في حقيقة الأمر- إمكانية تحقيق أهدافه؛ ذلك أن تصويره للقمة على أنها نجاح عظيم من شأنه أن يزيد -إلى حد كبير- صعوبة الحفاظ على الدعم الدولي للعقوبات الاقتصادية، التي لا تزال مطلوبة للضغط على كوريا الشمالية من أجل حلّ المشكلة النووية.

كما أساء ترامب لنفسه عندما أعلن -من جانب واحد- أن الولايات المتحدة لم تعد تقوم بما وصفها بأنها ألعاب حرب "استفزازية"، والمعروفة أيضا بمسمى التدريبات العسكرية التي كان الهدف منها ضمان الاستعداد وتعزيز الردع.

وبهذا فإنه لم يزعج العديد من حلفاء الولايات المتحدة فحسب، بل وتنازل أيضا عما كان بوسعه أن يقايض عليه في مقابل تنازل من جانب كوريا الشمالية.

مكمن الخطر بطبيعة الحال هو أن تفشل المفاوضات اللاحقة -لكل هذه الأسباب- في تحقيق نزع السلاح النووي الكامل والقابل للتحقق في كوريا الشمالية، وهو ما قالت الولايات المتحدة إنه لا بد من أن يحدث قريبا. ومن المرجح أن يبادر ترامب آنئذ إلى اتهام كيم بخيانة الثقة.

وفي هذه الحالة؛ ستجد الولايات المتحدة نفسها أمام ثلاثة خيارات: فهي ربما تقبل بما هو أقل من النزع الكامل للسلاح، وهي النتيجة التي قال ترامب وكبار مساعديه إنهم سيرفضونها؛ وقد تَفرض حتى عقوبات أكثر صرامة من غير المرجح أن تتقبلها الصين وروسيا؛ أو ربما تعود إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية، وهو ما ستقاومه كوريا الجنوبية بشكل خاص.

ولكن إذا استنتج ترامب أن الدبلوماسية فشلت؛ فربما يختار -رغم ذلك- العمل العسكري، وهو المسار الذي اقترحه جون بولتون قبل أن يصبح مستشارا للأمن القومي. وهذا ليس الإرث الذي تصوره ترامب من قمة سنغافورة، لكنه يظل أكثر احتمالا من الإرث الذي قد تحملنا التغريدات المتفائلة على تصوره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.