اتفاق فيينا وجذور التدخل الإيراني عربيا

Chinese Foreign Minister Wang Yi, French Foreign Minister Laurent Fabius, German Foreign Minister Frank-Walter Steinmeier, European Union High Representative Federica Mogherini, Iranian Foreign Minister Mohammad Javad Zarif, British Foreign Secretary Philip Hammond and U.S. Secretary of State John Kerry, from left, pose for a group photo following talks with Iran on their nuclear program in Vienna, Austria, Tuesday, July 14, 2015. (AP Photo/Ronald Zak)
أسوشيتد برس

سوف ينشغل العالم لسنوات بدراسة اتفاق فيينا بين إيران والغرب، ولكن المعنى السياسي هو الاعتراف بإيران الثورة بعد تمنّع استمر منذ 1979، وكان ذلك تتويجا لتدخل إيران في العالم العربي من باب الصراع العربي الإسرائيلي في البداية.

ولذلك من الضروري تتبع هذا التداخل من الناحية التاريخية، وبالطبع لا تزال إسرائيل الطرف الآخر في المعادلة في صراع المشروعات الإقليمية.

فقد قدر لهذه المنطقة أن تكون إسرائيل والعلاقة معها سلما أو حربا هي محور التفاعلات فيها، على أساس أن العرب كانوا في البداية يأملون إزالة إسرائيل ويدركون مخاطرها وارتباطاتها وتحالفاتها، بينما صممت إسرائيل لكي تبيد العرب وتخلي المنطقة من مصادر القوة ويسود الفراغ فتملأه هي.

هذه النظرية العدمية التي يطلق عليها المباراة الصفرية أصابها الخلل من الجانب العربي الذي قرر في عام 1979 الاستسلام للمشروع الصهيوني وهو يظن أن حظه في السلام معه أوفر من حظه عندما كان هدفا للعدوان الصهيوني، فكانت بداية انفراط العقد هي إقدام إسرائيل على احتلال بيروت صيف 1982، واستغلت في ذلك عددا من العوامل والظروف التي تتعلق بلبنان والوسط العربي.

قدر لهذه المنطقة أن تكون إسرائيل والعلاقة معها سلما أو حربا هي محور التفاعلات فيها، على أساس أن العرب كانوا في البداية يأملون إزالة إسرائيل ويدركون مخاطرها وارتباطاتها وتحالفاتها، بينما صممت إسرائيل لكي تبيد العرب وتخلي المنطقة 

وفي هذه الظروف، فإنها أرغمت المقاومة الفلسطينية على أن تصبح طرفا فأصبح من السهل ضربها. ولذلك فإن مغامرة احتلال أول عاصمة عربية كان مأمونة بسبب تحييد مصر باتفاق كامب ديفد والفتنة العربية والانفراد بلبنان مثلما انفردت إسرائيل بفلسطين.

ولعل الهدف الأساسي من غزو بيروت ليس البقاء فيها وإنما الحصول على ثمن الانسحاب وهذه سمة صهيونية معروفة، إذ تقدم على إحداث تغيير ثم تطلب ثمن العودة إلى الوضع السابق على التغيير. كان الثمن الذي لم تمانع فيه الدول العربية هو طرد المقاومة الفلسطينية من المنطقة وحذفها من عداد القوى الفاعلة في الساحتين الداخلية في بعض الدول العربية والإقليمية مع إسرائيل، خاصة بعد الجسارة التي أبدتها المقاومة ضد إسرائيل على الحدود مع لبنان في يوليو/تموز 1981، بعد شهر واحد من ضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي.

لم تتوقع إسرائيل نتائج نظرية الفراغ والتعويض، فالجزء الذي يتم التخلص منه تتقدم أجزاء أخرى لتعويضه، وفي ظل تراجع الدول العربية عن ملء الفراغ الذي تركته المقاومة، جاء سيل المبادرات السلمية العربية حينها ليذهل إسرائيل، خاصة عندما تقدم العرب بمبادرة السلام في قمة فاس العربية في سبتمبر/أيلول 1982 متزامنا مع مذبحة إسرائيل في مخيمات صبرا وشاتيلا في لبنان.

ولكن المفاجئ من الناحية الموضوعية -وليس من الناحية المنطقية- أن تتقدم إيران لتملأ الفراغ الذي تركه العرب في المنطقة وفي لبنان، وذلك عندما ساعدت على إنشاء حزب الله الذي أصبح رقما بالغ الأهمية في الصراع العربي الإسرائيلي، وحل حلولا كاملا محل الجيوش العربية التي انصرفت إلى غير هذا الصراع بعد أن عز رد الفعل العربي على توحش إسرائيل.

هذا الترتيب المنطقي وانسحاب العرب من الصراع واعتباره نزاعا فلسطينيا إسرائيليا وتخلي اللحمة العربية لأسباب كثيرة عن دورها في احتضان الجسد الفلسطيني، أظهر إيران طرفا في الصراع.

كما أدى تدخل إيران وحزب الله في الصراع العربي الإسرائيلي إلى تدخل مماثل في الشؤون العربية، ولذلك رأينا أثر إيران في سوريا مساندا لنظام الأسد ووحدة الأراضي السورية ضد جماعات مختلفة تريد تمزيق الوطن السوري وهي تتوهم أنها يمكن أن تحل محل النظام.

إذا أراد العرب أن يتخلصوا من تدخل إيران وحزب الله في الشؤون العربية، فهل عليهم أن يحاربوا إيران وحزب الله؟ أم أن المنطق يقتضي أن يسد العرب الفراغ الذي تركوه منذ نهاية السبعينات والذي اتضح أكثر في الحرب الأهلية في لبنان؟

كما رأينا إيران مع حماس ومع الحوثيين في اليمن وفي غيرهما. فهل معنى ذلك أنه إذا أراد العرب أن يتخلصوا من تدخل إيران وحزب الله في الشؤون العربية أن يحاربوا إيران وحزب الله؟ أم أن المنطق يقتضي أن يسد العرب الفراغ الذي تركوه منذ نهاية السبعينيات، والذي اتضح أكثر في الحرب الأهلية في لبنان التي تورط فيها العالم العربي وحاول أن تكون سوريا ممثلة له في إنهاء هذه الحرب بقرار قمة الرياض العربية عام 1976، أي بعد عام واحد من اندلاع الحرب الأهلية، فإذا بهذا القرار -الذي لقي هوى في سوريا- يكون بداية المأساة السورية التي ساهم فيها بعض من اتخذ قرار توريطها أو تمكينها.

التحليل العلمي الصحيح يقتضي دراسة الطريق والتداعيات التي ترتبت على انسحاب العرب من الصراع ودخول أطراف غير عربية لكي تملأ الفراغ حتى لا تتقدم إسرائيل لسده فتحكم الحصار على كل العالم العربي.

هذا المنهج يحل جميع المشاكل العربية بداية من غزو بيروت ودلالاته والموقف العربي فيه، وصولا إلى محاولة فتح جبهة جديدة من الصراع العربي الإيراني بدلا من الصراع الإسرائيلي العربي. ولا شك أن تورط أطراف عربية وهي تسلك المنهج الخاطئ في الصراع الجديد، في علاقة مع إسرائيل لهذا الغرض، يكرس هذه الأخطاء ويضيف إليها. ثم إنه يساعد المشروع الصهيوني على إفناء العرب والهيمنة عليهم دون أن تمس إيران وهي قوة تاريخية وإستراتيجية ماضيا وحاضرا.

وعندما تنحدر الأمم يصل الصراع بين أعضائها إلى صراع بين المذاهب والفروع رغم أنها تتحد في الأصول، ويتحول الخلاف في المذهب إلى صراع في الواقع يستنزف طاقة الأمة، إضافة إلى سيل النزيف الذي سببه الصراع مع الثورة الإسلامية في إيران منذ عام 1979، وهو عام استسلام العرب لإسرائيل وظهور إيران الجديدة لتلعب دورا إقليميا يعوض الفراغ العربي في المنطقة.

ولذلك فإن المصلحة تقتضي النظر إلى المعادلة التي قدمناها آنفا، وهي الاختلال بين مسيرة العامل العربي الذي انكسر عام 1979 وهو يظن أنه يؤثر السلامة، وبين العامل الصهيوني الذي استغل هذا الانكسار لكي يمضي في طريقه نحو إفناء العالم العربي وإخراجه من التاريخ.

من الواضح من هذا العرض أن التجرؤ على غزو أول عاصمة عربية -وهي بيروت عام 1982- وتقاعس العرب وربما تواطؤ بعضهم، قد فتح الباب، بالإضافة إلى عوامل أخرى نحو احتلال العراق، وهو الأقرب إلى إيران.

إذا كانت إيران قد أظهرت عداءها لإسرائيل منذ لحظة قيام ثورتها وأنشأت حزب الله في لبنان لحماية لبنان من تغول إسرائيل، فإن الاحتلال الأميركي للعراق كان نعمة من السماء لإيران التي ربما ساندت هذا الاحتلال دون تثريب عليها ما دام العرب قد ساعدوه

إذا كانت إيران قد أظهرت عداءها لإسرائيل منذ لحظة قيام ثورتها، وأنشأت حزب الله في لبنان لحماية لبنان من تغول إسرائيل، فإن الاحتلال الأميركي للعراق كان نعمة من السماء لإيران التي ربما ساندت هذا الاحتلال دون تثريب عليها ما دام العرب قد ساعدوه.

بل كان لإيران مبررها الأقوى، وهو أن صدام الذي صنعه العرب ووضعوا له صورة البطل بعد هزيمته في مغامرته الإيرانية لأكثر من ثماني سنوات نيابة عن الخليج وواشنطن وربما العرب إلا قليلا منهم، هو نفسه صدام الذي قام بغزو الكويت وهزمه التحالف الدولي، والعرب في قلب هذا التحالف، فلم يكن مفاجئا ولا جديدا أن تسعى إيران مع الخليج إلى إسقاطه بعد أن أدركت أن العراق تحت حكمه يهدد أمنها القومي.

ولذلك، فإن العلاقات الأميركية الإيرانية والأميركية العربية خلال الغزو الأميركي للعراق بحاجة ماسة إلى بحث ودراسة. فهل كانت واشنطن بالفعل تقصد من احتلال العراق والقضاء عليه كقوة عربية ضد إسرائيل ولو نظريا، وضد إيران عمليا، أن تمزق العراق وأن يكون لقمة سائغة لإيران وأن يكون عربون الصداقة الجديدة بين إيران والولايات المتحدة؟

إذا كان الأمر كذلك، فإن واشنطن ستكون قد نجحت في العراق في تحقيق هذا الهدف وفي زرع الشقاق بين إيران والخليج، وحرمان الخليج من العراق كمعادل للقوة الإيرانية. أما إذا كانت واشنطن لا تقصد ذلك فإنها ستكون قد نجحت أيضا في شطب العراق من عداد القوة الشاملة العربية ضد إسرائيل.

وفي هذا الباب يجب أن تتجه البحوث العربية لتفصيل ما أجملناه في هذه القضايا الخطيرة. بيروت الصغيرة مركز الثقافة والفن والتجارة في العالم العربي التي تحولت إلى مركز للمقاومة ضد إسرائيل، وبغداد التاريخ والحضارة الإسلامية وكلاهما صار طعما للمشروع الصهيوني الأميركي.

تلك مقدمة ضرورية أو فذلكة تاريخية لتحليل علمي لاتفاق فيينا بين إيران والغرب الذي سيكون بؤرة التفاعلات حتى نهاية هذا العقد الثاني من الألفية الثالثة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.