زهرة تكتوي بنار "الطابونة" لإطعام عابري السّبيل الأرغفة الذهبية

زهرة تقلب خبز الطابونة بين يديها ثم تضعها على ذمة عابري السبيل(الجزيرة نت) copy.png
زهرة تقلب خبز الطابونة بين يديها وتضعه لعابري السبيل (الجزيرة)

ناجح الزغدوديالقيروان

وسط دكان أشبه بكوخ مساكين، على ضفة الطريق غرب مدينة القيروان بتونس، ترسل يدها الملفوفة بقماش في جوف اللهب، ثم تخرج أرغفة ذهبية تراقصها ملتاعة قبل أن تناولها عابر السبيل الملهوف.

أمام هذا الدكان العشوائي المسقوف بالخشب الذي يسمح بنفاذ الشمس والهواء، تستقبل المرأة الخمسينية زهرة دبوسي عابري السبيل بخبزها اليدوي ساخنا لذيذا بعدما أعدته في فرن على قارعة الطريق.

كوخ زهرة
كوخ زهرة واحد من بين عشرات الأكواخ البدائية المتناثرة على الطريق، في كل كوخ تنشغل امرأة على الأقل في إعداد الخبز في تنور أسطواني من الطين تنبعث منه شرارة النار كأنه فوهة بركان.

منذ ثماني سنوات تواصل زهرة عملها اليومي في صنع خبز الطابونة -كما يسميه أهالي القيروان- مستفيدة من تعلمها صنع الخبز في منزل عائلتها الريفي أثناء طفولتها، لتحول مطبخها إلى مهنة ومورد رزق للعائلة.

‪منذ ثماني سنوات تواصل زهرة عملها اليومي في صنع خبز الطابونة‬ (الجزيرة)
‪منذ ثماني سنوات تواصل زهرة عملها اليومي في صنع خبز الطابونة‬ (الجزيرة)

نار حامية
ورغم المخاطر المحدقة بها على حافة الطريق السريعة التي سجلت الكثير من الحوادث القاتلة، وعملها الشاق ولسعات اللهيب؛ لم تجد زهرة غير إطعام المسافرين خبزها الساخن الشهي لإعالة أسرتها الفقيرة.

يبدأ عمل النسوة منذ ساعات الفجر الأولى الباردة المظلمة، فقبل تجهيز طعام فطور أبنائها المنطلقين إلى المدارس، تعد زهرة العجين، فتخلط الدقيق ثم تترك العجين حتى يختمر.

مع أول شعاع لشمس الشتاء المحتشمة تكون شرارة لهيب الفرن قد تصاعدت لتبعث بعض الدفء، فتلقمه الحطب إلى أن يتحول إلى جمر مستعر، وبهذا يصبح الفرن جاهزا لاستقبال العجين وخبزه.

‪بائعة الخبز تضع أقراص العجين في جدار الفرن الحامي‬  (الجزيرة)
‪بائعة الخبز تضع أقراص العجين في جدار الفرن الحامي‬  (الجزيرة)

أقراص العجين
تخطف زهرة أقراص العجين في حركة سريعة أشبه بحركات السّاحر الاستعراضية، بين كفي يديها المتورمتين من حرارة الجمر، فتلطفها بالماء ثم تلصقها على باطن جدار الفرن لتنال نصيبها من النار.

تتشكل في الفرن حلقات دائرية متلاصقة ترصفها زهرة بدقة وحذر، متقية لفح النار بلثام متصل بغطاء رأسها وخرقة ملفوفة على يدها.

تترك سحابة الدخان الأسود أثرها بين تجاعيدها، وتخفي بريق عينيها الساهمتين في مشاغل الحياة، وتختلط بخيالها الشارد في حال الأبناء ولوزامهم بعد العودة من المدارس.

خبز ساخن صنعته نسوة في القيروان (الجزيرة)
خبز ساخن صنعته نسوة في القيروان (الجزيرة)

طعام المسافرين
يقف المسافرون أمام الأكواخ مترقبين الفوز بأول دفعة من الأقراص الذهبية التي سيلقي بها بطن الفرن، متابعين حركات النسوة وانحناء ظهورهن وانعكاس شرار الجمر في أعينهن.

إلى جانب عابري السبيل، يسعى عدد كبير من سكان مدينة القيروان إلى مكان بيع الطابونة في أقصى المدينة، للفوز بأرغفة الخبز المطبوخة في أفران الخشب على مهل وبشكل طبيعي.

لا يجادل عابرو السبيل في ثمن الرغيف (400 مليم للرغيف، أي أن الستة منه بدولار)، في حين يتسع ربحهن عند بيع رغيف الخبز محشوّا بقطعة جبن وبيض مسلوق (1500 مليم، أي نصف دولار).

بعد يوم طويل شاق كثير اللسعات، تجني النساء ما يتراوح بين 10 و20 دينارا (4-8 دولارات)، بحسب ما تم ترويجه من خبز، وتطرح منه نفقات الدقيق والخشب وغيرها من المصاريف.

وضع دقيق
ورغم ارتفاع أسعار المواد الأولية من السميد والزيت والخشب، لا تزال صناعة الخبز اليدوي مورد رزق لعشرات الأسر الفقيرة المنتمية لحي زيتون الحمامي، أكثر الأحياء الشعبية كثافة وفقرا في القيروان.

يشغل فقدان الدقيق بال نساء الطابونة أكثر من ارتفاع سعره، والسبب احتكار باعة حلويات المقروض الذين يجهزون كميات كبيرة منه للاحتفالات بالعام الجديد، فضلا عن الاتجاه لتعليب الدقيق السائب مما يرفع سعره.

وقد شجعت ندرة الدقيق تجار الجملة على الاحتكار أو عرض الدقيق في الفضاءات التجارية في أكياس من سعة الكيلوغرام الواحد بأسعار مضاعفة، وهو ما يهدد قوت نعيمة وعشرات العائلات التي تعمل في بيع خبز الطابونة.

‪النيران أثرت في نعومة أيادي النساء في سبيل لقمة العيش‬ (الجزيرة)
‪النيران أثرت في نعومة أيادي النساء في سبيل لقمة العيش‬ (الجزيرة)

لدغات الجمر
منذ سنوات، أصبحت زهرة تستعين بابنتها بعد تخرجها في الجامعة لمشاركتها العمل وتخفيف العبء عنها ومرافقتها في السراء والضراء، واستسلمت الابنة الجامعية لمهنة أمها بعد أن يئست من وظيفة محترمة.

تخفي تلك الأكواخ البالية خريجات من الجامعة، إحداهن تخرجت منذ عشر سنوات وتزوجت وواصلت عملها في بيع الخبز على قارعة الطريق رفقة والدتها، لمساعدة زوجها في إعالة طفلتها صاحبة الإعاقة.

تخفي بعض الفتيات ملامحهن خجلا من العمل في الشارع مكرهات، وترغب أخريات في هزيمة الظروف القاسية بإظهار زينتهن، فتخذل نعومة أيديهن سحب الدخان ولدغات الجمر، بينما يراقب الأشقاء الذكور المشهد من بعيد.

بين العاملات حائزة على الماجستير في القانون اضطرت -بسبب عدم حصولها على وظيفة حكومية- إلى تعويض والدتها المريضة في دكانها بدل أن تكون في مكتب فاخر، وهو ما جعلها ترفض الظهور الإعلامي.

نار على نار
تم إقناع النسوة بمشروع إقامة أكشاك إسمنتية مجهزة لبيع الخبز، ضمن مشروع اجتماعي مقابل إزالة الأكواخ لأسباب بيئية ومرورية، لكن حصر المنتفعات في سبعين عائلة أثار حفيظة المستثنيات فأصررن على مقاطعته.

‪خبز الفرن الشهي بانتظار عابري السبيل‬ (الجزيرة)
‪خبز الفرن الشهي بانتظار عابري السبيل‬ (الجزيرة)

خمدت نار الحيرة مؤخرا، كما تخمد نار الفرن آخر اللّيل إثر صدور قرار من هيئة دائرة المحاسبة (هيئة قضائية رقابية) بتجميد المشروع بعد أن أنجز 17 كشكا، بسبب شبهة فساد في الأشغال.

إزالة الكوخ
إزالة كوخ زهرة -التي تعمل فيه كرها على كره- سيفقد عائلتها الوافرة العدد ومنهم فتاة صاحبة إعاقة، من مورد رزقها الوحيد، ويعمق معاناتها ووضعها الاجتماعي العصيب في ظل ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية.

وتأمل هي وغيرها من النساء أن يجدن رعاية اجتماعية حكومية ومواطن شغل لأبنائهن وأزواجهن، أمام ارتفاع نسب البطالة إلى 15.8% أكثر من المعدل الوطني، قبل أن تفكر في إزالة أفران الخبز المريرة.

المصدر : الجزيرة