جاكسون بولوك.. كيف نقرأ لوحات التعبيرية التجريدية؟

جاكسون بولوك
أهم ميراث تركه جاكسون بولوك في الفن الحديث هو الجرأة والمخاطرة في المقاربات الإبداعية (مواقع التواصل)

سارة عابدين

في ذكرى ميلاد الفنان الأميركي جاكسون بولوك (28 يناير/كانون الثاني 1912) رائد التعبيرية التجريدية، يتواصل حاليا وحتى 24 فبراير/شباط القادم، بقاعة "فيتوريانو" بوسط العاصمة الإيطالية، معرض يضم أعماله، جنبا إلى جنب مع قرينيه من المدرسة الفنية نفسها ويليام دي كوننغ وفرانز كلين.

ولد جاكسون بولوك عام 1912 بمدينة كودي بولاية وايومينغ الأميركية، وكان والده لوروا بولوك يعمل مزارعا، ثم بعد ذلك مساحا أرضيا تابعا للحكومة، نشأ بولوك في أريزونا.

وواجه خلال حياته المبكرة ثقافة الأميركيين الأصليين في رحلاته مع والده، وعلى الرغم من أنه لم يعترف بتعمد تقليد فنون الأميركيين الأصليين، فإنه أشار إلى أن التشابه بينه وبين تلك الفنون القديمة نتيجةٌ لذكرياته المبكرة الراسخة في عقله اللاواعي.

جاكسون بولوك والتعبيرية التجريدية
ينتمي بولوك إلى جماعة التعبيرية التجريدية، التي تتبع مدرسة نيويورك، وهي حركة غير رسمية للرسامين والشعراء والموسيقيين، نشأت في نيويورك في الخمسينيات والستينيات.

يعتمد فنانو التعبيرية التجريدية على ضربات الفرشاة الكبيرة والانطباعات العفوية، والبحث عن التأثير العاطفي للفن، تأثرا بالسريالية التي تعتمد الأفكار التلقائية التي تأتي من اللاوعي بشكل ارتجالي، مع التركيز على المعالجة الكاملة للون، دون مراعاة أي دافع أو هدف خفي.

هذا التركيز على الأثر أو البقعة التي تتركها الفرشاة قد سمي في فرنسا أسلوب التبقيع (tachisme) من كلمة (tache) التي تعني بقعة، وكان جاكسون بولوك (1912-1956) هو من أثار الاهتمام بهذه التقنيات الجديدة في استخدام اللون أكثر من أي فنان آخر.

كيف نقرأ لوحات جاكسون بولوك؟
نشأ الفن التجريدي لالتقاط المشاعر الأولية للفنان، وللتركيز على التعبير الفردي، الذي يعتبر إحدى أهم سمات الفن الحديث التي تميزه عن الفنون الكلاسيكية. لذا قراءة أعمال جاكسون بولوك والتفاعل معها، بحاجة إلى بعض الوقت والتأني من المتفرج، لأنها تقدم أعمالا إبداعية بحاجة إلى استكشاف جماليتها، ولا تعيد إنتاج جماليات قديمة راسخة في عقل المتلقي منذ البداية.

المتلقي لفن بولوك بحاجة إلى التواصل مع اللوحة بصريا وربما عن طريق اللمس ليستطيع التجول في تلك المتاهات المتشابكة وفك رموزها، ويتمكن من التعاطي مع المشكلات التي تشغل بال الفنان أثناء العمل، وبعد ذلك ربما يتقبل نظريات بولوك أو يرفضها، أو يفضل بعض لوحاته، ولا يفضل البعض الآخر.

ولعل ما يجذب بولوك وغيره من الفنانين المعاصرين هو تلك المقاومة التي تبديها اللوحة للتصوير الفوتوغرافي، إنهم يحبون أن يشعروا بأن عملهم فريد فعلا، ولا يمكن نقله ولا نقل تأثيره عن طريق التصوير الفوتوغرافي مهما كان دقيقا، وربما للسبب نفسه اختار بولوك الأقمشة العريضة والمقاسات الكبيرة، التي لا يستشعر المتفرج سطوتها إلا بالرؤية المباشرة لها.

واحدة من أشهر لوحات بولوك هي لوحة "تقارب" (convergence) بمقاس 327 سم* 390 سم، وهي عبارة عما يشبه شبكات متداخلة من الألوان، نفذها بولوك عن طريق وضع القماش على الأرض، وسكب الألوان وتقطيرها بالفُرش والعصي أثناء دورانه حول اللوحة، وكان يعتبر نفسه وسيطا في العملية الإبداعية، التي تمثل أهمية كبيرة في لوحات بولوك، بعكس الفن الكلاسيكي الذي كان يهتم بالنتيجة النهائية فقط، دون الاهتمام أو التركيز على أفكار ومشاعر الفنان أثناء انشغاله بالعمل الفني، لتظهر اللوحة في النهاية بشكل غنائي طقوسي أقرب لرسوم الكهوف البدائية.

‪لوحة تقارب‬ (مواقع التواصل)
‪لوحة تقارب‬ (مواقع التواصل)


ولأنه لا يمكن فصل الفن التشكيلي عن سياقاته السياسية والاجتماعية، يذكر أنه في وقت إنتاج اللوحة، كانت الحرب الباردة بين أميركا والشيوعية في أوجها، بالإضافة إلى المواءمات والاتفاقات السرية الخاصة بتطوير الأسلحة، ومحاولات السيطرة العالمية التي تتجاهل حرية التعبير الإنساني ووجوده الشخصي في سبيل مكاسب سلطوية رأسمالية.

اعتبر بولوك لوحة "تقارب" بمثابة تجسيد لحرية التعبير، وتمرد على القيود المفروضة اجتماعيا وسياسيا، وحتى إن كان من الصعب تفكيك العمل التجريدي الأهم لبولوك، لكن طبيعته المتمردة، ورغبته في الحرية تبقى واضحة بقوة في العمل، في ضربات الفرشاة القوية، والقوام السميك للألوان، على هذه اللوحة الضخمة التي لا يمكن تقدير حجمها إلا عن طريق الرؤية الشخصية.

تأثير جاكسون بولوك في الفن المعاصر
يمكن أن تشير الطريقة الفنية الجديدة لجاكسون بولوك إلى قوة الحياة في الطبيعة نفسها، والرعب الذي يسيطر على مشاعر الإنسان المعاصر، لا سيما بعد الحروب العالمية التي قضت على ملايين الأرواح، لأن الفن الحديث شأنه شأن الفن القديم، قد نشأ استجابة لمشكلات معينة، حين اكتشف بولوك أن المطالبة البسيطة "بأن يرسم ما يرى" متناقضة تماما مع هدفه الأساسي من الرسم.

الخطوط المتشابكة الناتجة عن طريقة جاكسون بولوك ترضي معيارين متعارضين يخصان فنون القرن العشرين، وهما: بساطة الطفولة وعفويتها اللتان تستحضران ذكرى خربشات الأطفال قبل أن يشرعوا في تشكيل الصور، وفي الجانب المقابل، الاهتمام المتكلف بمشكلات الرسم الحركي أو التعبيرية التجريدية، بالإضافة إلى عمل بولوك على تطوير واحد من أكثر الأساليب التجريدية جذرية في الفن الحديث، عن طريق فصل الخط عن اللون، وإيجاد وسائل جديدة لوصف فضاء اللوحة المصور.

لكن يبقى أهم ميراث تركه جاكسون بولوك في الفن الحديث هو الجرأة والمخاطرة في المقاربات الإبداعية التي اتخذها، والتي أدت إلى دفع الفنانين المستقبليين إلى اتباع عاطفتهم الشخصية في الفن، بدلا من اتباع الحدود والمبادئ التوجيهية المحدودة والمحددة سلفا.

تماما مثل ويليام شكسبير في الأدب وسيغموند فرويد في علم النفس، فإن تأثير بولوك على الفن الأميركي هائل، حيث وضعه على مستوى التنافس مع الحداثة الأوروبية، وابتكر تعريفات بصرية جديدة للسطح، عبارة عن تركيبة جديدة من العلاقات بين الفضاء، والألوان والأصباغ والرسم، مما أدى إلى ظهور لوحاته ببنية ذاتية مدهشة وقوية وغير مسبوقة.

المصدر : الجزيرة