بعد دخوله شهره الثامن.. هل سيظل الحراك الجزائري نابضا بالحياة؟

Demonstrators carry flags and banners during a protest demanding the removal of the ruling elite in Algiers, Algeria September 10, 2019. REUTERS/Abdelaziz Boumzar

أسرّ شابٌ أفريقي أبحرَ هربًا من بلاده إلى المُخرجة والممثلة الفرنسية/السنغالية ماتي ديوب سنة 2008 بأنه "عندما نقرّر المغادرة نكون قد متنا بالفعل". ويعرف جزءٌ كبير من المرشحين الأفارقة للجوء في أوروبا الموتَ مرّة ثانية -وهو موتٌ حقيقي هذه المرّة- في خضم أمواج البحر المتوسط.

كانت الجزائر تحتضر لسنوات طويلة كرئيسها الذي تشبّث بالسلطة بشكل مهين بعد عقدين من الزمن على تعيينه من قِبل الجيش. وجاءت الانتفاضة الشعبية اللاعنفية -التي انطلقت في 22 فبراير/شباط الماضي- لإنعاش البلاد، فأعادت إلى الشباب الجزائري الأمل والتعطّش إلى الحياة.

ومنذ الأسابيع الأولى للحراك؛ كنّا نقرأ على الجدران واللافتات: "لأوّل مرة لا أريد أن أتركك يا بلدي الجزائر"، "هذه أخبار سارّة! إنّه آخر قارب [يعبر البحر المتوسط]. لقد تمّ كراؤه من قِبل النظام". هكذا يعود الأمل إلى شباب عاطل فيبرز الاعتزاز بالانتماء إلى الوطن من جديد، بعد أن خُنق من جرّاء عقود من "الحگرة"، أيْ الظلم والإذلال.

في الشهر الثامن من الانتفاضة؛ تُواصل قيادة أركان الجيش الوطني الشعبي تجاهل مطالب الجزائريين، وترفض فكرة إجراء حوار وطني حقيقي، علمًا بأنّ هناك طريقة واحدة فقط لحلّ أيّ أزمة سياسية وبناء سلم دائم؛ ألا وهي الحوار، لأنّ البديل هو فتح باب العنف.

يدرك الجزائريون أنه لا يمكن إجراء حوار حقيقي إلا في جو يسوده الهدوء؛ ولذلك فهم يطالبون النظام باستمرار باتخاذ تدابير كفيلة بإعادة بناء الثقة بين السلطة الفعلية والشعب، مثل استقلالية القضاء وحرية الصحافة والإعلام وفتح مجال العمل السياسي والجمعوي، والكفّ عن المضايقات والمتابعات وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي

فالتملص من الحوار وفرض السلم عن طريق القوة العسكرية والأمنية ليس بناءً للسلم وإنّما مجرّد تهدئة؛ لقد جرّبه النظام العسكري الجزائري في التسعينيات وأفضى إلى النتائج التي نعرفها. ورُفضت جميع الدعوات إلى الحوار التي أطلقتها أصوات الحكمة، مثل عبد الحميد مهري وعبد القادر حشاني وحسين آيت أحمد (رحمهم الله) وغيرهم، وجميعهم تمّت تصفيتهم رمزيًا أو جسديًا.

يعلم الجزائريون أنّ الحوار هو الترياق الواقي من العنف، وأنّ مظالمهم ومطالبهم لا بدّ أن تنتقل يومًا ما من الشارع والساحات العمومية إلى إطار رسمي وتمثيلي، لكنهم يريدون حوارًا حقيقيًا قادرًا على إخراج البلاد من أزمة سياسية طال أمدها.

غير أنّ القوى المناهضة للتغيير (العسكرية منها والمدنية) المستفيدة من الوضع الراهن تفعل كل ما في وسعها لحرف مسار الحوار عن وظيفته الأساسية، لتجعله أداة تخدم مصالحها: الحصول على شبه شرعية والتمسّك بالسلطة السياسية والاقتصادية بالنسبة للبعض، واستعادة المصداقية لدى الشعب والعذرية السياسية بالنسبة لآخرين.

يدرك الجزائريون أنه لا يمكن إجراء حوار حقيقي إلا في جو يسوده الهدوء؛ ولذلك فهم يطالبون النظام باستمرار باتخاذ تدابير كفيلة بإعادة بناء الثقة بين السلطة الفعلية والشعب، مثل استقلالية القضاء وحرية الصحافة والإعلام وفتح مجال العمل السياسي والجمعوي، والكفّ عن المضايقات والمتابعات وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي.

ولكي يكون للحوار حظّ من النجاح، يجب أن يكون جامعًا وتشاركيًا، يشمل جميع أصحاب المصلحة. فلا بدّ من المشاركة الفعلية لكافة المعنيين بمستقبل الجزائر من ممثلّي الحراك وممثّلي السلطة الحاكمة الفعلية، وممثّلي المعارضة ذات المصداقية ومنظمات المجتمع المدني والنساء والشباب ورجال الدين والأعيان والمثقفين وقطاع الأعمال. فاتّساع انخراط شرائح المجتمع في الحوار ضمان لتبني مخرجاته واستدامة تنفيذ الاتفاق الذي سيتمّ التوصل إليه.

على عكس المحاولات الأخيرة للحوارات التي أُطلِقت من قِبل السلطة أو من طبقة سياسية معيّنة؛ فإنّ الحوار الحقيقي ليس مجرّد اجتماع أو اجتماعين يُختم بإعلان نهائي تمّ إعداده مسبقًا. إنه عبارة عن مسار مُهيْكل قد يطول أو يقصر مع قواعد وإجراءات واضحة المعالم.

ويعتمد نجاح أو فشل الحوار الوطني على العديد من العوامل، منها المرتبطة بالسياق السياسي ومنها المتعلّقة بالمسار نفسه؛ فدعم الجماهير والنخب الوطنية وتمثيل وعدد المشاركين وطريقة اختيارهم، وإجراءات اتخاذ القرارات واختيار الميسّرين؛ كلّها عوامل حاسمة.

هناك عدة طرق ممكنة لحلّ الأزمة السياسية في الجزائر. إحداها إقرار النظام بضرورة إعادة السيادة إلى الشعب، ومبادرته بالانخراط في حوار مع القوى السياسية في البلاد، والعمل معًا من أجل انتقال ديمقراطي حقيقي.

وقد كانت هذه دائمًا رغبة الجزائريين لأنها الطريقة الأقلّ كلفة، لكن للأسف اتّضح مع الوقت أنّ هذا السيناريو ضعيف الاحتمال. ذلك أننّا في حالة نزاع غير متكافئ، حيث يعتقد النظام العسكري أنه لا يحتاج إلى الدخول في حوار، وأنّ لديه الوسائل لحلّ الأزمة وحده وبطريقته الخاصة.

ويتمثل نهجٌ بديل في تدخّل طرفٍ ثالث لإقناع أو إكراه النظام بقبول مبدأ الحوار، غير أنّ الشعب الجزائري استبعد هذا الأمر لأنه يرفض أيّ تدخل أجنبي، ولو كان من طرف صديق ودود. ولذلك انتهج الشعب سبيلًا آخر، وهو المقاومة السلمية لاستعادة توازن القوى وإجبار النظام على الحوار.

ولا تزال المقاومة الشعبية السلمية مستمرة في الجزائر لأكثر من سبعة أشهر لكونها تحترم خمسة مبادئ أساسية:

راهن النظام عدة مرات على تراجع الاحتجاجات عند اقتراب شهر رمضان وعطلة الصيف. لكنه فشل في رهانه؛ فقد كان المواطنون حاضرين كل أسبوع وبقوّة، يتحمّلون الأمطار وبرد الشتاء والعطش والجوع خلال شهر رمضان والحرّ في الصيف. إنّ "ثورة الابتسامة" غيرّت بالفعل مصير البلاد؛ فجزائر بعد حراك 22 فبراير/شباط لن تكون أبدًا مثل ما كانت عليه من قبلُ

1- الوحدة في إطار التنوع: لقد كسر الحراك جميع الحواجز الأيديولوجية والمناطقية، وبين الأجيال، وبين الجنسين، وبين الصحيح والعليل، وبين الداخل والخارج… إلخ. وفي إطار تنوّع هادئ؛ يعكف الجزائريون معًا على وضع حدّ للسلطوية والفساد، متطلّعين إلى مجتمع جامع ودولة قانون وحكم راشد تتّسع للجميع، ويتمتع فيها المواطن بالحرية والكرامة.

2- الرؤية المشتركة: في بداية الحراك هتف المتظاهرون: "لا لولاية خامسة" لعبد العزيز بوتفليقة، لكن بعد بضعة أسابيع تقاربت المطالب لتنصهر في مطلب واحد واضح: أولوية السياسي على العسكري. فالشعارات الرئيسية التي نراها اليوم هي: "مدنية ماشي (ليست) عسكرية"، "جمهورية ماشي كازيرنا (ليست ثكنة)".

3- اللاعنف: لم تكن الانتفاضة لتستمر لولا التزامها وتمسكها بالمنهج اللاعنفي؛ فالنظام -الذي يُتقن إدارة العنف واستخدامه لصالحه- أخذه الحراك على حين غرّة، فهو يتخبّط في ميدان لا يُحسن السيطرة عليه.

4- الاستقلالية: لا يريد الجزائريون أيّ تدخّل في شؤونهم، فهم يؤمنون بأنهم وحدهم المخوّلون بإحداث التغيير الذي يصبون إليه، ولديهم رسالة واحدة إلى الحكومات الأجنبية: إنكم بدعمكم لنظام استبدادي وفاسد في الجزائر تنتهكون قِيَمكم ولا تخدمون مصالح بلدانكم.

5- الصبر: راهن النظام عدة مرات على تراجع الاحتجاجات عند اقتراب شهر رمضان وعطلة الصيف. لكنه فشل في رهانه؛ فقد كان المواطنون حاضرين كل أسبوع وبقوّة، يتحمّلون الأمطار وبرد الشتاء والعطش والجوع خلال شهر رمضان والحرّ في الصيف.

إنّ "ثورة الابتسامة" غيرّت بالفعل مصير البلاد؛ فجزائر بعد حراك 22 فبراير/شباط لن تكون أبدًا مثل ما كانت عليه من قبلُ. ويُمكن اعتبار الأسابيع الـ33 الماضية مدرسة حقيقية للوعي السياسي للمواطنين لا سيما الشباب. إنّ النظام التسلّطي الفاسد والمُفسِد لن يكون له أبدًا موطئ قدم في جزائر الغد بإذن الله، وإنّ الرهان على إمكانية استنساخه ليس سوى خلل في البصيرة وخطأ جسيم في التقدير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.