اعتصامات مليونية.. ماذا بعد؟

اعتصامات مليونية.. ماذا بعد؟ - الكاتب: عباس عروة



جاءت الثورة في مصر بعد ثورة تونس لتؤكد أنّ قلب الأمّة لا يزال نابضا، وأنّ جسدها قادرٌ على الانتصاب حتى في حالة "الضعف الدماغي" المتمثّل في ركود جزء معتبر من النخب السياسية والفكرية والدينية في العالم العربي.

"
تمكنّت فئة الشباب في مصر، المنعتقة من "الجيتوهات الأيديولوجية" والمتحرّرة من مركّب الخوف، أن تُحدث الانتفاضة وتُطلق شرارة الثورة الشعبية التي التحمت فيها كافة فئات الشعب المصري
"

وتمكنّت فئة الشباب في مصر، المنعتقة من "الجيتوهات الأيديولوجية" والمتحرّرة من مركّب الخوف، أن تُحدث الانتفاضة وتُطلق شرارة الثورة الشعبية التي التحمت فيها كافة فئات الشعب المصري، شبابا وكهولا ونساء وأطفالا، بغضّ النظر عن توجهاتها السياسية.

لقد نجح الشباب المنتفض فعلا في تحقيق عدد من الشروط التي يُجمع فقهاء المقاومة المدنية على كونها ضرورية لنجاح الثورة:

1- تمكّنت انتفاضة الشباب من إخراج ملايين المصريين إلى الشارع وجمهرتهم في ساحات العديد من المدن المصرية، وهذا أمر هام لأنّ الانتشار الواسع في كافة أرجاء الوطن واللامركزية في التجنيد والتنظيم يوحي بأنّ هناك تمثيلا حقيقيا للشعب المصري ويحرم النظام من ذريعة اتهام جموع قليلة من المتظاهرين بالتطرّف والإرهاب أو العمل لأجندات أجنبية.

2- استطاع الشباب المنتفض فرض اللاعنف كأسلوب للتغيير السياسي وهو ما جرد النظام المصري من حجة العنف التي طالما استعملها لتبرير القمع الشديد والانقضاض على المتظاهرين وسحقهم، وهو أيضا ما جلب تعاطف الرأي العام الدولي وأحرج الحكومات العربية التي لزمت الصمت، والغربية التي لم يبق لها سوى خيار دعم المتظاهرين، ولو ظاهرا.

3- نجح منظمو الانتفاضة في توحيد مختلف شرائح الشعب والقوى السياسية والنقابات على هدف واحد شديد الوضوح، وتُرجم ذلك في الميدان على مستوى خطاب المتدخّلين في وسائل الإعلام، والشعارات التي يهتف بها المتظاهرون واللافتات التي يحملونها.

4- أحسن الشباب المتظاهر التعامل مع استفزازات النظام من إجلاء لقوات الأمن ومحاولة لنشر جوّ من الرعب والفوضى لدى المواطنين، وإرسال فلول من قوات النظام القمعية بزيّ مدني، مصحوبة بمجموعات من المرتزقة ومحترفي الإجرام للتعدّي على المتظاهرين ومحاولة إرهابهم، بحيث لم يخرج المتظاهرون عن قواعد المقاومة المدنية اللاعنفية وقاموا بتنظيم أنفسهم في لجان وفرق لحفظ النظام والتصدّي للاختراق ومواجهة البلطجية.

"
أجاد القائمون على الانتفاضة استعمال تقنيات الاتصال الحديثة للتنسيق في الداخل وللتواصل مع الخارج واجتناب التعتيم المفروض من طرف وسائل الإعلام الرسمية ومنع النظام من قمع المظاهرات خارج الأضواء
"

5- أجاد القائمون على الانتفاضة استعمال تقنيات الاتصال الحديثة للتنسيق في الداخل وللتواصل مع الخارج واجتناب التعتيم المفروض من طرف وسائل الإعلام الرسمية ومنع النظام من قمع المظاهرات خارج الأضواء.

لكن، ونحن نقترب من نهاية الأسبوع الثاني للثورة، علينا أن نستكشف نقاط ضعفها حتى تتسنى معالجتها من طرف المعنيين بالأمر.

إنّ الإشكالين الأساسيين اللذين تواجههما الثورة المصرية هما:

1- عدم القدرة على تنويع تكتيكات ووسائل وآليات اللاعنف المتعدّدة واستعمالها بتسلسل يتجاوب والوضع الميداني وبشكل يتلاءم مع تطوّر الأحداث على المستوى الداخلي والخارجي، والاقتصار على آلية الاعتصامات في الميادين والساحات العامة، وهي واحدة من عشرات الآليات المعروفة المستعملة في المقاومة المدنية اللاعنفية.

2- عدم القدرة على ترجمة توحّد الشارع المصري بكافة مكوناته، إلى قيادة جماعية موحّدة للثورة، تعبّر عن تنوّع جموع المتظاهرين، وتكون لها الشرعية للتحدّث بصوت واحد باسم الجماهير الثائرة، ومهمّة اقتناص الفرصة الملائمة لبدء التفاوض مع النظام أو مع أطراف منه.

إنهما شرطان أساسيان لنجاح الثورة المصرية الذي لن يتحقق إلا عندما تتمكّن من إحداث شرخ وتحويل للولاء داخل صفوف النخب السياسية والإدارية والقوى العسكرية والأمنية الموالية للنظام.

إنّ مثل هذا الشرح وقع في تونس وهو الذي –بالإضافة إلى دعم الولايات المتحدة الفعلي لقيادة الجيش التي سحبت ولاءها لبن علي- أدّى إلى رحيل الرئيس التونسي، وإلا فإنّ هذا الأخير كان مستعدّا لقتل الآلاف من التونسيين للمحافظة على عرشه.

أما في الحالة المصرية فإنّ ضغط الجماهير لم يصل بعد إلى الحدّ الذي يمكنّه من إحداث الشرخ داخل صفوف النظام. ولذا فإنّ على الشباب الثائر في مصر مراجعة إستراتيجية الثورة التي أطلقوا شعلتها، وتعديلها حسب ما تمليه الظروف والتطورات الميدانية، وإن لم يتوفّر قدر كاف من المرونة في تحيين الإستراتيجية الثورية فإنّ نظام مبارك وغرف عملياته سيستغلّون ذلك لتطوير إستراتيجيتهم المضادة للثورة وتصوّر أساليب جهنمية لشقّ الصفوف وضرب الثورة ووأدها، وهم في هذا المجال ذوو خبرة، لا ينقصهم المستشارون من أوليائهم في إسرائيل والغرب عموما.

إنّ الاعتصامات في الميادين بكثافة أمر حيويّ يجب أن يستمرّ، لكن من الضروري أيضا، الآن، اللجوء إلى وسائل أخرى كالمسيرات السلمية باتجاه المواقع الحساسة في العاصمة المصرية، فذلك من شأنه أن يُحدث ديناميكية جديدة للثورة ويُربك النظام ويسحب منه المبادرة ورهانه على الوقت وعلى ضعف الزخم الثوري تدريجيا، الذي سيمكّن، في اعتقاده، من الالتفاف على مطالب الشعب وإعادة بناء هياكله الفاسدة.

"
على القائمين على الثورة المصرية المجيدة القيام بما في وسعهم من أجل تجنّب أن يتحوّل ميدان التحرير –لا قدّر الله– إلى سجن أو مقبرة للثورة
"

كما أنّ مثل هذا الإجراء سيضع قيادات الجيش المصري على المحكّ، أمام مسؤولياتها، ويجبرها على اتخاذ موقف صريح وموالاة الطرف الذي تختاره: الشعب أم النظام. لأنّ العديد من المؤشرات تدلّ على أنّ القرار العسكري في مصر حاليا بأيدي مجموعة من الجنرالات الموالية لمبارك والتي تكوّنت في المدارس الحربية الأميركية. وحياد قوات الجيش الظاهر هو في واقع الأمر دعم للنظام، يساهم في تسهيله خطاب المتظاهرين غير المستعدي والمستميل للجيش.

يجب ألا يكون هذا الأسبوع في مصر "أسبوع الصمود" فحسب، بل "أسبوع التحدي السلمي" أيضا. وعلى القائمين على الثورة المصرية المجيدة القيام بما في وسعهم من أجل تجنّب أن يتحوّل ميدان التحرير –لا قدّر الله– إلى سجن أو مقبرة للثورة.

إنّ الثورة المصرية محكوم عليها بالنجاح. لأنّ فشلها –لا قدّر الله– سيكون له انعكاسات كارثية من فسح المجال لنظام مبارك لاستعادة جبروته والانتقام الشديد من شعب مصر والبطش بكلّ من ظهرت صورته أو سُمع صوته مساندا للثورة، ومن إحباط لكافة الشعوب العربية لعقود عديدة مقبلة.

أمّا نجاحها فسيكون له الأثر البالغ في إحياء الشعوب ليس في مصر فقط بل في العالم العربي بأسره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.