شعار قسم مدونات

بستان القصر.. رحلة العبور على الصراط!

blogs حلب

ما إن تضع قدمك على الضفة الأخرى من المجهول حتى يبدأ "مراثون" العربات الخشبية كالمد الهائج تجاهك، ليس الفائز فيه من يصل إليك أولا، إنما من تختاره أنت. فمن مصلحتك حينها أن يحمل أحدهم عنك أكبر قدر من خطاياك!

 

في لحظة حضرت كالفرقان بين أن تنتزع نفسك من رحم كيانك وحياتك وذكرياتك وأن تتحمل آلام المخاض الحاصل من سلخ ماضيك وواقعك عن أحلامك وطموحك، أو أن تظل أسير مستقبل مبهم فرض عليك في ذات الرحم "المخيم" الذي شابه ما شابه، دخلاء في كل شيء بأخلاقهم وقيمهم ولغتهم بل ودمائهم الفاسدة التي إن لم تغرق نضجك ومناعتك فإنها بالتأكيد ستغرق أبناءك من بعدك انحرافا وانزلاقا!

 

على ميزان الاختيار ترجح كفة الرحيل عن مخيم النيرب الذي لم يذق ضراوة التدمير والتهجير كما حصل في مخيمات اليرموك ودرعا وحندرات. وإنما كان الاستهداف هنا أشد خبثا.. إنه تدمير الانسان أخلاقا وفكرا وعقيدة. في ظل سطوة من يستخدم كل أساليب الشياطين للوصول إلى الله!

ذاك المخيم مهجتي

فيه الأحبة والمتاع

ماكنت أرضى هجره

لوكان في الحيل استطاع

 

كانت تلك آخر أبيات من آخر قصيدة نظمتها في المخيم.. كان ذلك قبل يوم واحد من الرحيل، ألقيتها في حفل دعيت إليه من قبل ثلة من مثقفي المخيم لتأبين شاعر فلسطيني توفي في الخليج، في غرفة صغيرة انبعث كل العبق الحضاري الذي عرف به المخيم قديما.. شاعر يلقي قصيدة.. عود يتماهى مع أناشيد أبو عرب.. لا أعلام ولا رايات إلا علم فلسطين.. كانت لحظات رائعة من الشذوذ عن الشذوذ! وكم أبكاني طربا ذلك الشذوذ!

 

وإن منكم إلا واردها!

لم تكن تهمني وجهتي القادمة بقدر ما كان الرحيل في لحظة من اللحظات هو الغاية نفسها.. لقد كان مجرد الخروج من المخيم تهمة وخيانة، فيما بعد أثمرت اتصالاتي مع أصدقاء خارج البلاد على وعود بعمل في جمعية خيرية، ها قد بدأت إرهاصات ولادة قدر جديد بالبزوغ.. حزمت خطاياي في حقائب وانطلقت، ولعل سائلا أن يسأل ما تلك الخطايا؟

   

  

خطيئتك كفلسطيني أن تفكر بالاستقرار لمدة تتجاوز السبعين.. عليك أن تذوق مرارة الغربة كما تذوقها جيل أبيك وجدك، قد تختلف الظروف والمسببات في غربة أو لجوء أو تهجير الأجيال الفلسطينية لكن الهدف من كل هذه المسميات هو أن يظل الفلسطيني يبحر في التيه ويبتعد عن الحدود!

 

في ذلك الوقت لم يكن لأحد يريد الخروج من حلب إلى أي مكان داخل البلاد أو خارجها إلا أن يمر من معبر الموت في منطقة بستان القصر المنطقة الفاصلة بين مناطق سيطرة النظام ومناطق المعارضة، كان عليك أن تمشي مسافة طويلة قبل أن تلوح في الأفق رايات المعارضين للحكومة، وما إن تضع قدمك على الضفة الأخرى من المجهول حتى يبدأ "مارثون" العربات الخشبية كالمد الهائج تجاهك.. ليس الفائز فيه من يصل إليك أولا، إنما من تختاره أنت. فمن مصلحتك حينها أن يحمل أحدهم عنك أكبر قدر من خطاياك.. أوقل بقاياها!

 

في معبر الموت تتلاطم الخطوات فجأة ويعلو الصراخ.. يبدو أن قناص المحافظة قد أنهى كأس "المتة".. ها قد بدأت الحفلة، بين ضفتي المعبر طريق مرعب أشبه ما يكون بالمرور على الصراط.. لا يمكن لأحد هنا أن يقول نفسي نفسي.. لا أعلم حينها لماذا صرخت على أولادي ومنعتهم من البكاء.. كنت أحاول أن أمنعهم حتى من مجرد الخوف.

 

خطاياي الممدة على العربة الخشبية في لا تفارق ناظري خوفا من تختلط مع خطايا التائهين، رصاصة تستقر في جسد رضيع بين ذراعي أمه.. فلا تدري أمه أيهما أقرب لإسعافه الضفة التي أمامها أم التي تركتها.. ووسط حيرتها تتسابق الأيادي لإنقاذ صغيرها حتى يتوارى عن ناظريها!، وجوه الناس الشاحبة من هول يوم الرحيل بينما كلاليب الرصاص تحاول خطف أرواح العابرين.. صراط العابرون عليه كلهم سواء.. الذين يُقتلون عصاة والناجون خونة! وقد نجوت!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.