شعار قسم مدونات

حلب الجريحة.. روح بلا جسد

blogs الغوطة

كان عمري ست وعشرون حولاً وأشهر، من رحم الشهباء أتيت، بين صخورها وملح أرضها ترعرعت وبين باب الحديد وأنطاكية وقنسرين كنت أسابق ظلي وبين العطارين وخان الشونة والجمرك والوزير أعدو كمهر شامي يتلذذ الحرية بكل ألوانها، وبين شوارعها وأقواسها وعلى نغمات صباح فخري في كل زقاق كنت أنعم الحياة والحب والسلام، كل الطيور تعرفني وحتى أشجار الصفصاف والخروب تعرفني وتعرف أي طقوس سلام أعيش.

أنسل من فراشي بكوراً محتفياً بشروق الشمس في كل صباح كي أبدأ يومي بما يحويه من نشاط وحيوية؛ تأخذني هرولة متواصلة إلى وسط المدينة العتيقة كي أبدأ يومي في طلب الرزق، أحب عملي رغم قساوته وتواضعه، تعب جسدي وراحة نفسية، فأنا المساعد والوصل بين تجار المدينة العتيقة كل التجار يضعون ثقتهم في، يفتحون أبواب متاجرهم في وجهي وأفتح قلبي الطيب في وجوههم.

لم يكن مستواي الدراسي يساعد أو يشجع على أن أتوفر على عمل أحسن لكن هذا ليس بالشيء الأهم بالنسبة لي، إنها السعادة الروحية والنفسية ؛ أعيش في بيت متواضع ورثه أبي عن جدي يبعد حوالي كيلومترين عن المدينة العتيقة أشتم فيه رائحة جسده الطاهرة الزكية، رحل وعمري سبعة عشر حولا فسميت بكري على اسمه، لي زوجة جميلة الشكل مفعم محياها بالأمل والحب والحياة عزيزة على القلب وطفل وطفلة كأقحوانتين بيننا وأم طاعنة في السن قد هيمن بياض شعرها على سواده ونحتت السنون في وجهها تجاعيد الوقار، نعيش في سعادة شاملة قانعين بما نحن عليه لا نأبه لمشاق الحياة ومصاعبها ولا تأخذنا تيارات مطامعها إلى جهة من الجهات لا نفقه في السياسة أو أمور الحكم أو الدولة لا قليلاً أو كثيراً، سلاحنا حب وسلام وذخيرتنا أمنٌ وسكينة، كل ثروتنا بيت قديم وخمس دجاجات بيوضات تجود علينا بفطور شهي في كل صباح وشجرة خروب في البهو وسط البيت.

سحلت إلى ما يبدو أنه منحدر جانب المعتقل وتحت التكبير سُحبت ناصيتي وعيناي المعصوبتان موجهتان إلى السماء وركبتاي تلامس الصخر والتراب وشعري يلامس جسمي المتصبب عرقا

ما بين العصر والمغرب وفي طريق العودة إلى البيت بعد يومٍ طويل مخلوط بالتعب والسعادة وشوق العودة لرؤية الأهل أتسارع في سباق ودي مع الريح وكلي شوق وحنين، أثاقل الخطوات بين الفينة والأخرى كي ألتقط ورقة صفصافٍ جميلة قد كانت الريح قدراً في تساقطها أو أتخذ غصن شجرة حن إلى البسيطة أو أغوته جاذبيته مؤنساً لطريقي محاوراً شمس العشيةِ الخجولة المودعةُ حمرتها بياض الأرض. تكفهر السماء بشكل فجائي، تفز الطيور من على الأغصان وطلقة رصاص قد اخترق أزيزها طبلة الأذن، وقفت في جمودٍ والرعب ينتابني، فكرت في الالتفات يميناً فقررت ذلك فإذا بصوت خشن في صياح يقول (قف مكانك) ويد أخشنُ تنكمش على طرف ثيابي تحت رقبتي… أُمرت بالانبطاح أرضاً فلبيت والرعب يمتلك كلَّ جزءٍ مني، كُبِّلت وعصِّبَت عيناي الضيقتان سواداً والأنفاس تكاد تنحبس بداخلي.

سُيِّرت للمجهول تحت ظلمتي السماء والظلم وعرفت حينها أني تحت هيمنة ما يسمى بالدولة الإسلامية وذلك من خلال ما استرقته مسامعي من حوارات متناثرة، واسيت نفسي بنفسي ورددت أمري لله … لم أُسأل قطُّ بيد أن حزمة من الأسئلة ظلت تزاحم أفكاري طوال الوقت. بعد حوالي نصف ساعة من مَسير مظلم وخطوات متلعثمة وسط موكب محسوس مسموع لا مشهود توقفنا عن المسير، باب يجرُّ محدثاً "طقطقة" تدل على أنه حديدي عتيق، أُلقى في حجرةٍ على جانبي الأيمن ويداي مكبلتان ملامستان جداراً خشنا إسمنتي الملمس … تراب تحت جسدي وسماء محجوبة فوق رأسي وهواء شبه مطرود في حجرة تحتلها رائحة كريهة وحشرات وجرذان تتراقص بين جدرانها.

سمعت أحدهم ينادي جهراً لا جهوراً للصلاة عرفت أنه وقت صلاة العشاء، صليت سراً في جمود ينتابه خوف وظلام حالك ثم ارتكنتُ في زاويتي منتظراً كلمة القدر؛ بعد هدوء لم يدم طويلاً تُسمع صفارة إنذار بما ينبئ أن مداهمة العدو في طريقها إليهم فزاد ارتباكي ارتباكا ورعبي رعبا، بصوت مرتفع ونبرة تعتريها حدة وتوثر ينادي أحدهم (تجهزوا للفرار – تجهزوا للفرار) فيرد عليه آخرَ متسائلا (ماذا عن الأسرى؟) كان الجواب صاعقة.. كان موتا قبل الأوان أو بالأحرى بداية موت… كان الجواب (التصفية الفورية).

سحلت إلى ما يبدو أنه منحدر جانب المعتقل وتحت التكبير سُحبت ناصيتي وعيناي المعصوبتان موجهتان إلى السماء وركبتاي تلامس الصخر والتراب وشعري يلامس جسمي المتصبب عرقا يبدو أنه لحية من كان قدري المميت. قُطعت شراييني… ها أنذا روح بلا جسدٍ… قابعة فوق عظامي، ها أنذا روح جريحة فوق عظام لا أعرف بأي ذنب أسقطت ولا بأي جريرة اتهمت… لن أعود إلى الأفق… لن أعود… سأبقى قابعة فوق عظامي، فوق جسدي الزكي الطاهر منتظرا حمرة الغسق علها تجيبني… بحق من بناك أيتها السماء بلا عمد أجيبيني لماذا قتلت؟!.. سأبقى قابعة فوق عظامي أنتظر من يرى أو يسمع أو يحس… ولتكوني أيتها العظام سمادا لهذه الأرض الزكية الطاهرة كي تنبت حبا وسلاما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.