شعار قسم مدونات

أسطورة صفقة القرن

مدونات - صفقة القرن

ظهر «عبد الفتاح السيسي» مستكينا في حضرة الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، في أبريل/نيسان 2017، معلنا أمله ودعمه لخطته وجهوده التي تستهدف حلا لـ"قضية القرن" والتوصل إلى "صفقة قرن". لا يُعرف على وجه الدقة هل نقل «السيسي» التعبير عن «ترامب» أم أنه واحد من تعبيراته الفارغة المعتادة. وقتها، بدت الكلمة شديدة الغموض والعبثية، لكنها كانت إشارة البدء لانطلاق موجة من التحليلات والتكهنات التي تحاول استكشاف طبيعة تلك الصفقة المزعومة.

كان من الواضح، من سياق الحديث والتقارير الغربية التالية التي كشفت ملامح ما يخطط له «ترامب»، ارتباط هذه الصفقة المزعومة بالتوصل لتسوية نهائية للقضية الفلسطينية، باعتبارها هي -دون غيرها- "قضية القرن". لكن تعبير "صفقة القرن" صار هو الأداة التفسيرية لكل ما يجري في المنطقة. فمن خلال مئات المقالات والمناقشات، أصبحت "صفقة القرن" المزعومة مخططا مستمرا وشاملا، ربما منذ عقود، يقف وراء كل شيء يجري في المنطقة: مخطط الشرق الأوسط الكبير، الحروب في سوريا واليمن وليبيا، الانقلاب العسكري في مصر، محاولة الانقلاب في تركيا، صعود الدور الإقليمي للسعودية والإمارات، حصار قطر، تنظيم الدولة، عمليات الجيش المصري في سيناء، صعود الأمير محمد بن سلمان… إلخ. بل إن حدث الثورات العربية نفسه بات محل تساؤل لدى البعض: هل هو جزء من مخطط "صفقة القرن" أم لا؟ أصبح كل شيء مؤامرة، حتى لحظة الوعي بالذات، الفريدة، التي عاشتها الشعوب العربية! ليس هذا فحسب، بل إن الأحداث المستقبلية المحتملة لم تسلم كذلك، بدءا من اندلاع حرب واسعة في سوريا بين القوى المتصارعة، مرورا بحرب إسرائيلية على قطاع غزة أو لبنان، وانتهاء باحتمالات إزاحة السيسي من مشهد الحكم في مصر.

على الرغم من حالة الفوضى الإقليمية الراهنة، دعمت المواقف الغربية عمليا تماسك الدول القائمة، ووقفت مثلا ضد محاولة تقسيم العراق عقب استفتاء حكومة إقليم كردستان العراق

مشكلة سيناريو المؤامرة "اللذيذ"، أنه غير قابل للهزيمة؛ فهو دائما يستند إلى وقائع حقيقية وليست متوهمة، لكنه ينتزعها من سياقاتها، ويتعامل معها بصورة انتقائية مجتزأة، ويربطها بسياقات أخرى ليست ذات صلة بالضرورة. كما أنه، دائما، يفترض أن ثمة لاعبا واحدا يدير كافة الأحداث ويحرك فاعلين مسلوبي الإرادة لا يخدمون مصالحهم الخاصة، بل فقط يخدمون مصلحة ذلك الطرف المهيمن.

السياسة بلا شك، في أحد أوجهها، هي سلسلة متصلة من المؤامرات تحركها مصالح أطراف متصارعة. وكما يقال، فإنه إذا كان من الخطأ تصوير التاريخ باعتباره مؤامرة، فالأشد خطأ تصويره وكأنه مصادفة؛ فحركة التاريخ هي نتيجة مباشرة لفعل البشر سواء كانت هذه النتيجة متوقعة أو غير مخطط لها. لكن ثمة فارق بين خطط الفاعلين لتحقيق مصالحهم (والتي قد يعتبرها خصومهم "مؤامرة")، وبين افتراض أن طرفا واحدا، دائما، يحرك الجميع ويقود صيرورة الأحداث لتحقيق سيناريو واحد لا مفر منه.

في مشرقنا العربي، على الأقل منذ انطلاق الثورات، أزعم أن كثيرا من الأمور لا تجري وفق هوى أو تخطيط من يُتصور أنهم يتحكمون في كل شيء. فقط البعض يجيد التخطيط ويمتلك بدائل للتكيف مع التطورات غير المخطط لها، ومن ثم تحقيق أقصى استفادة. الجدير بالتأمل أنه لا أحد على الإطلاق أمكنه تقديم تعريف محدد أو وصف واضح لما هي فعلا "صفقة القرن" المزعومة هذه! نعم، حتى من يربطون أحداثا معينة بصفقة القرن لا يملكون تصورا واضحا ومحددا لطبيعة تلك الصفقة سوى أنها "شيء ما" يتم إعداد المنطقة له. أما ملامح هذا الـ"شيء ما" فهي ببساطة ليست إلا إعادة تدوير لخطاب المؤامرة الكوني على المنطقة. منها مثلا: إعادة تقسيم المنطقة جغرافيا. الواقع أن هكذا مخطط نقرأ عنه منذ أن كنا طلابا في المرحلة الثانوية، وطالعنا خرائط رسمها كتاب ومنظرون سياسيون غربيون لما يجب أن تكون عليه المنطقة. الأمر حقيقي إذا؛ لكن، مرة أخرى، سيناريو المؤامرة لا يستند إلى أوهام بقدر ما يوظف وقائع حقيقية بصورة غير دقيقة.

أسطورة إعادة تقسيم المنطقة، وتجزيء دولها إلى دويلات، تستند إلى تنظيرات معروفة ينطلق بعضها من خلفيات النظرة الاستعمارية للمنطقة، أو لتصور أن تقسيما جديدا للمنطقة سيقضي على التوترات الكامنة في جغرافيتها الراهنة. هذه التنظيرات، لم تتحول يوما إلى برنامج سياسي لأي من الحكومات الغربية، بما فيها الحكومات التي عمل فيها بعض من المنظرين لتلك التقسيمات. ومن ثم فإن استدعاء تنظيرات فكرية باعتبارها برنامجا سياسيا أو مخططا يجري تنفيذه، مجرد مغالطة لا تختلف مثلا عن ترويج اليمين المتطرف الغربي وأبواق الثورة المضادة العربية أن الإخوان المسلمين يسعون للسيطرة على الدول العربية واحتلال إسبانيا لإقامة الخلافة من جديد، استنادا إلى مراحل عملهم التي كتبها «حسن البنا» نفسه! يلاحظ هنا أنه على الرغم من حالة الفوضى الإقليمية الراهنة دعمت المواقف الغربية عمليا تماسك الدول القائمة، ووقفت مثلا ضد محاولة تقسيم العراق عقب استفتاء حكومة إقليم كردستان العراق.

من ملامح هذا الـ"شيء ما" أيضا، أن ثمة مخططا لتهجير بعض سكان شمال سيناء بهدف توطين الفلسطينيين بها. كانت إذاعة الاحتلال الإسرائيلي وصحافته أول من تحدث عن عرض مزعوم قدمه «السيسي» كحل للقضية الفلسطينية. لكن على مدار نحو ثلاث سنوات عقب تلك التقارير، لم تعزز أي شواهد أو معلومات موثقة استعداد مصر للقبول بأمر كهذا، خاصة وأن نظرة الجيش المصري لغزة كـ"تهديد" لا تختلف كثيرا عن نظرة الاحتلال الإسرائيلي لها. ومن ثم شرع الجيش منذ الانقلاب العسكري في التصدي لهذا "التهديد" من خلال إقامة منطقة عازلة حدودية مع القطاع المحاصر، وإغراق شبكة الأنفاق… إلخ.

مؤخرا، نقل «مايكل وولف» في كتابه «النار والغضب: داخل بيت ترامب الأبيض» عن «ستيف بانون» كبير مستشاري «ترامب» المُقال، أن «ترامب» مقتنع بوجه نظره المتمثلة في نقل غزة تحت الوصاية المصرية، ووضع الضفة تحت الوصاية الأردنية "ودعهم يغرقون في مشاكلهم". من المسلم به أن قناعات «ترامب» لا تتجاوز في أحيان كثيرة صفحته على «تويتر»، فضلا عن أن التخلص من غزة بوضعها تحت الوصاية المصرية لا يتضمن أي مخطط للتوطين في سيناء أصلا. ومن العبث تصور أن منطقة عازلة محدودة يقيمها الجيش ستبلغ في أقصى التقديرات 5 كم يمكن أن تمثل وطنا بديلا لنحو 2 مليون فلسطيني، بل هي حتى الآن تخدم أكثر مساعي عزل القطاع وإحكام محاصرته.

undefined

ثمة إنكار لطبيعة التهديد الأمني البالغ في شمال سيناء المتمثل في تنظيم الدولة، وهو تهديد حقيقي ليس فقط لمصر، بل لحركة حماس نفسها في قطاع غزة. نظرية المؤامرة ستخبرنا بتعمد الجيش التساهل مع التنظيم كي يحافظ على بروباجاندا "الحرب على الإرهاب" التي يقتات داخليا وخارجيا عليها. حسنا، يبدو هذا نوعا ما أفضل من أصحاب رواية أنه لا تنظيم أصلا، وأن الجيش والشرطة يقتلون أنفسهم والأهالي!

الواقع قد يكون أكثر مباشرة؛ فالجيش ببساطة فشل في التصدي للتنظيم لدرجة توبيخ السيسي من قبل الولايات المتحدة، ولدرجة حاجته لدعم أمريكي بخصوص رصد وتعقب تحركات واتصالات التنظيم. فاشل لدرجة حاجته لإسناد جوي إسرائيلي في عمق الأجواء المصرية بأكثر من 100 عملية قصف. الاعتراف بخطورة التهديد الأمني في سيناء لا يعطي أي مبرر أو غطاء لسياسة التهجير والأرض المحروقة والعقاب الجماعي والانتهاكات الواسعة بحق المواطنين المصريين في سيناء.  

أسطورة المؤامرة الشاملة لذيذة ومريحة، فهي من ناحية تبرر الهزيمة، أو في أحسن الأحوال تبرر الاستسلام أو الهروب من الواقع، كونه يدار من قبل قوى جهنمية لا راد لإرادتها، ولا يمكن مواجهتها من قبل الأفراد أو الفاعلين من غير الدول أو الشعوب. كما أنها تعطي مقدرة خادعة على تفسير كل شيء ورسم شبكات المصالح ودوافعها، بينما فهم الواقع بدونها سيكون عملية أكثر تعقيدا تتطلب الكثير من التأمل والمثابرة لفهم حقيقة ما يجري وحدود قدرات الفاعلين ودوافعهم ومساحة التدافع الحقيقية التي يمكن الاستفادة منها في محالة التأثير أو التغيير.

بالتأكيد ثمة خطة أمريكية شديدة الخطورة تمس مستقبل القضية الفلسطينية بصورة أساسية، وثمة حرب إقليمية على الحرية والديمقراطية وإرادة الشعوب، ومن ثم على الجميع تركيز الانتباه وحشد الجهود للتصدي لها بدلا من محاربة سراب مزعوم. ما يهدد القدس وحريتنا وكرامتنا واضح وخطير، ولا يتطلب التصدي له أساطير غامضة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.