شعار قسم مدونات

اقتربت اليوتيوبيا وانشق الوطن

blogs - يوتوبيا
بالطبع هِي مكانٌ خيالي، لا مكان لها سوى في أذهان بعض المثقفين والمفكرين، تحاول أن تَرنو إليه كل الأنظمة ولكن بلا جدوى، المدينة الفاضلة المغمورة في جوف الكمَال والمثالية والمنزَّهة عن الخبث والشر والفساد والهمجية وكل القيم الدنيئة (اليوتيوبيا) هي وضع افتراضي، لم ولن يتواجد في أي زمن من الأزمان.. أن يُصادف ويجتمع في مكان ما مجموعة من البشر الكاملين المتكاملين، الكافلين حاجاتهم واحتياجاتهم بأيديهم وبعقولهم، العادلين في أمورهم وأمور غيرهم، لهو شيء مستحيل! هذا مستحيل حتى على أكثر الدول تحضرًا وتقدما وبلوغا للعقلانية والرقي، فكيف إذن تقترب من مصر؟!
اليوتيوبيا التي تقترب منها مصر-أو أجزاء منها- هي التي تكلم عنها د.أحمد خالد توفيق في روايته "يوتيوبيا" الصادرة عام 2008.. هذه الرواية التي تنقل لنا تصور الأديب لحال هذا البلد عام 2023، إذا استمر هذا الأسلوب في الإدارة، وإذا فشلنا في مواجهة التحديات التي تُقابلنا، والتي ظهرت بوادرها في وقتنا الراهن، تحدث د.توفيق عن هذه المدن المحاطة بالأسوار الشاهقة التي سيتحصن بها الأغنياء وأصحاب النفوذ والثروات تحت حماية قوات المارينز الذين يحمونهم من الغوغاء، الذين طفح بهم الكيل وانفجروا وخرجوا من صمتهم وجذعوا من تحملهم فاستحلوا كل ما يقع تحت أيديهم، ونهبوا كل ما طالته.

نستطيع الآن ودون أي شطط أو مبالغة أن ننقل ذلك إلى الواقع الملموس، ونترجمه إلى أماكن حقيقية موجودة بيننا كعشوائيات القاهرة والأحياء الشعبية كشبرا ودار السلام والكيت كات والسيدة زينب والدرب الأحمر، فعلى ما أعتقد هذه النبؤة قد تحقق شيء منها ليس يسيرًا هناك، بالتأكيد هذه الأماكن لم تصل إلى هذه الدرجة من الفجاجة والغليان والتناحر والتفاوت، ولكنها تحمل تشابها كبيرًا بينها وبين ما كان يقصده الكاتب، هذه الأماكن أصبحت مكتظة بتجارة السلاح والمخدرات وحتى الجنس، أصبحت تمتلئ عن آخرها بالنشالين والبلطجية وقطاع الطّرق.

إسرائيل لم تعد عدوا لسكان اليوتيوبيا؛ هي مجرد جار صديق بينها وبينه علاقات اقتصادية وسياسية، لم يعد يتعامل معها أحد على أنها مستعمر، بل تصالحوا معها كما تصالحت مصر مع الغزو الروماني.

على المستوى الاقتصادي والمادي فنحن في الطريق إلى الصورة الكاملة المرسومة في الرواية، لا تقلقوا، الأسعار تتضاعف يومًا تلو الآخر، والأجور كما هي لا تتزحزح، تسقط كل يوم مجموعة جديدة من أفراد الطبقة الوسطة في هوَّة خط الفقر حتى امتلأت، ساكنو العشوائيات والقبور يتمنون أن يعود عهد مبارك الذي عاشوا فقرًا مدقعًا تحت كنفه.

على الصعيد الآخر تجد أن أصحاب المكاسب والثروات تتضاعف مكاسبهم وطرقهم الجديدة الكانزة للأموال وانتهازاتهم الخاطفة للظروف سواء كانت جيدة أم سيئة.. تجد أنهم بدأوا في النأي بأنفسهم عن هذه العشوائيات والأماكن الخَرِبة متجهين إلى الصحراء المتوسعة مدنها الجديدة، كمدن (القاهرة الجديدة – الشروق – العبور – مدينتي – الرحاب – التجمع الخامس) وغيرها من المدن الجديدة؛ هذه الأماكن التي يحجز مكانه فيها حفنة من أفراد الطبقة الأعلى دخلا فقط، ولا يزورها البسطاء والفقراء إلا بحثًا عن عمل أو خدمة لأي من هؤلاء ثم يعودون من حيث أتوا.

تشير الرواية إلى أن ما عجّل بانهيار الوضع الاقتصادي لمصر هو القناة الموازية لقناة السويس التي حفرتها إسرائيل وتقوم بالمهمة نفسها بشكل أكفأ؛ فهذا الحدث قد سبب شرخًا في جدار الميزانية، حتى عادت العمالة المصرية المقدرة بملايين الأشخاص من بلاد الخليج بعدما نضب بترولهم فانهدم الجدار بالكامل، لا أذكر بالضبط باقي العوامل التي ساعدت على حدوث ذلك، تستطيع أن تطالعها عند قراءة الرواية.. الغريب أن دول الخليج بدأ اقتصادها يعاني بالفعل منذ أكثر من عام من أزمات بترولية وضِيقات اقتصادية ومالية، وانتشرت الأقاويل التي تشير إلى تأثير ذلك علي العمالة الأجنبية في هذه الدول المكلومة.

هذا بالنسبة للوضع الاقتصادي أما علي المستوى الثقافي والفكري، فنحن أيضا نمضي بخطى واثبة إلى تطورات فكرية تشبه الحالة المذكورة في الرواية، فمثلا أصبح باب الخروج من الدين مفتوحًا على مصراعيه، وتضاعف عدد اللا دينيين في الخمس سنوات الماضية، نحن لسنا بصدد تحليل هذه الظاهرة ودراسة أسبابها، تستطيع أن تقرأ عنهم أو تستمع لأحد المارين بهذه التجربة لتفهم ذلك، ولكننا في الوقت الحالي لا نستطيع أن ننكر أن هناك تزايدًا في أعداد اللا دينيين والملحدين في مجتمعنا الحالي، وهذه الظاهرة تحديدًا تمثل حجر أساس في عقلية سكان اليوتيوبيا التي نتحدث عنها، فقاطنو هذه المدن في الرواية تنصلوا جميعا من الأديان، واعتبروها أفكارًا عتيقة تعود للقرون الوسطى، وأسلوب حياة بدائي لا يناسبهم، مجتمعات هذه المدن أنشأت لنفسها دساتير وقوانين تقوم على منظومات أخلاقية هي نتاج مفكريها ومثقفيها ودِماثها ولا تقوم على أي أساس ديني أو معتقدي.

تنبؤات د.توفيق لها في روايته لم تعد ضعيفة، هذه التغيرات تغازل حلم الكثير وتواكب تطلعه، ولكنها تمثل كابوسا وكارثة لآخرين، بل للأغلبية العظمى؛ وذلك لأننا شعب متدينٌ بطبعه!

الجنس لم يعد شيئا كارثيا ولا خطًا أحمر في اليوتيوبيا، بل أصبح تصرفًا مستساغًا ومقبولا، لم يعد الزواج شرطا للقيام بذلك، ولا يشين المرأة فقد عذريتها، هذا أمر لا قيمة له ولا يؤثر في بقاء العلاقة أو انتهائها.. لا تنصدم، فهذه الحالة لم تعد غريبة على أناس كُثُر، ونتذكر جميعا قصة الناشطة هند مكاوي وقضيتها التي ملأت الدنيا ضجيجًا، وأظهرت عددًا كبير من مؤيدي الـ single mother أو الأم العزباء.

إسرائيل لم تعد عدوا لسكان اليوتيوبيا؛ هي مجرد جار صديق بينها وبينه علاقات اقتصادية وسياسية وتبادلات تجارية، لم يعد يتعامل معها أحد على أنها مستعمر أو غازٍ، بل تصالحوا معها كما تصالحت مصر مع الغزو الروماني لها منذ آلاف السنين وتصالحت مع الغزو العربي من بعده، عملوا على طي صفحات الماضي ومضوا في بناء علاقات جديدة وحسابات مختلفة مع دولة إسرائيل القائمة بحكم الواقع.. لا أظن أن درب التطبيع لايزال مستترًا على من سلكوه في مصر، بل أصبح واضحا ومعلنا وممهدا ولا يشين هو أيضا أيا ممن سلكوه.

كل هذه التغيرات وغيرها مما لم أذكره أو غفلت عنه أظن أنها لم تعد بعيدة عننا، وتنبؤات د.توفيق لها في روايته لم تعد ضعيفة، هذه التغيرات تغازل حلم الكثير وتواكب تطلعه، ولكنها تمثل كابوسا وكارثة لآخرين، بل للأغلبية العظمى؛ وذلك لأننا شعب متدينٌ بطبعه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.