شعار قسم مدونات

بين عقلين: التفكير الرياضي والتفكير الحوسبي

blogs - maths

في حين أن مُصطلح التفكير الرياضي Mathematical Thinking شائع نسبيًا، فالأمر ليس كذلك بالنسبة لمُصطلح التفكير الحوسبي Computational Thinking. حتى وإن كانت هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها للمصطلحين، فلا داع للقلق؛ الغرض من هذا المقال هو إعطاء لمحة عامة عن تعريف وتطبيقات كل منهما. 

بداية، من المٌهم الإجابة على سؤال "لماذا". لماذا قد أستثمر من وقتي وجُهدي لتعلم التفكير الرياضي أو التفكير الحوسبي؟

هناك فائدتان لهذا الأمر. الفائدة الأولى هي أنهما أداتان "عامتان" لحل المُشكلات. هذا يعني أنه بغض النظر عن نوع المُشكلة (نظرية – عملية) أو عن مجالها (اقتصاد -هندسة – طب – اتصالات- أحياء.. إلخ) فمن المُمكن استخدامهما للوصول لحل.

 

في حال كنت ترغب في أمثلة أكثر تحديدًا، هذه قائمة مُختصرة:

ما هو أقصر طريق من المنزل للعمل؟

أنت تقوم بحمية غذائية ومُلتزم بعدد مُعين من السعرات الحرارية كُل يوم، ولديك جدول بكل الأطعمة التي ترغب في تناولها. السؤال: ما هو نوع وكمية الأطعمة التي يُمكنك تناولها بدون الإخلال بعدد السعرات اليومية؟

ما هو السلوك المتوقع للبورصة خلال الأسبوعين القادمين؟

هُناك مرض مُنتشر في منطقة ما ينتقل عبر مياه الشرب، وهُناك عدة مصادر للمياه تغذي المنطقة، كيف يُمكننا تحديد المصدر الملوث بدقة، وبدون تحليل المياه؟

نحن على وشك بناء مستشفى جديد في منطقة ما. كيف يُمكننا تحديد الموقع الذي سيجعل من المستشفى أقرب ما يُمكن لأكبر عدد من سكان المنطقة؟

كيف يُمكننا حساب مسار قمر صناعي في المدار؟

كيف يُمكن تحقيق أكبر ربح ممكن باستخدام مجموعة مُحدودة من الموارد؟

القائمة لا تنتهي.

سواء في التفكير الرياضي أو التفكير الحوسبي، تمثيل المُشكلة له أهمية مركزية في حلها؛ وذلك لأن درجة صعوبة إيجاد حل مُعين -أو إيجاد حل من الأساس- تعتمد على التمثيل

بالنسبة للفائدة الثانية، والأهم، فهي تطوير المهارات العقلية. بالتحديد، تطوير مهارة التجريد أو الـ Abstraction، والتي أعدها الأكثر أهمية والأكثر صعوبة على الإطلاق في كُل العلوم. التجريد في هذا السياق يعني القُدرة على استخلاص المعلومات المُهمة والرئيسية المطلوبة لحل مُشكلة ما، أو المطلوبة لتطوير مفهوم أو مُنتج ما، بدون "الغرق" في التفاصيل. في الحقيقة لا مُبالغة إن قُلنا أن العبقرية هي مُجرد تسمية اُخرى لامتلاك قُدرات تجريد استثنائية.

العديد من لبنات بناء عالمنا والتي نتعامل معها كمسلمات هي في الأصل تجريدات. على سبيل المثال، فكرة "العناصر الكهربية" – أو Lumped Circuit Abstraction – هي أحد أنجح التجريدات الهندسية في التاريخ، والتي طُرحت لحل مُشكلة بناء دوائر كهربية بدون الغرق في تفاصيل الكهرومغناطيسية. بدون وجود "مقاومة" و "مُكثف" و "محث"، كان سيتعين علينا حل مُعادلات ماكسويل في كُل مرة نُحاول فيها بناء دائرة كهربية! الآن، بإمكان الأطفال بناء وتحليل الدوائر الكهربية في دقائق.

بدون التجريد، من المُستحيل أن نتمكن من بناء أنظمة أو حل مُشكلات أكثر تعقيدًا مما لدينا، وذلك لأن التجريد هو الأداة الوحيدة التي نمتلكها "للتعامل مع التعقيد" Managing complexity. على سبيل المثال، بدون وجود العناصر الكهربية، ثم السلسلة الطويلة من التجريدات التي بنيت عليها، كان من المُستحيل أن نتمكن من بناء الكومبيوتر الشخصي الذي لدينا الآن. من المُستحيل أن تبدأ من الفيزياء فقط لتصل إلى كومبيوتر، مستحيل.
 

عودة للتفكير الحوسبي والتفكير الرياضي. إذا كان كليهما أداتين لحل المُشكلات، فما هو الفرق بينهما؟
الفرق يكمن في أسلوب "صياغة" المُشكلة التي نُحاول حلها، ومن ثم طريقة وأدوات الحل. في التفكير الرياضي، يتم اختزال المُشكلة موضع الاهتمام إلى علاقات -معادلات- تربط مجموعة من المتغيرات، بينما في التفكير الحوسبي يتم اختزال المُشكلة موضع الاهتمام إلى بيانات تصف مجموعة من المُتغيرات.

التفكير الرياضي = علاقات بين مُتغيرات، التفكير الحوسبي = بيانات تصف مُتغيرات.

في التفكير الرياضي، نِصف حل المُشكلة يتمثل في تحويلها إلى مُعادلة رياضية (تمثيل المُشكلة)، والنصف الآخر يتمثل في حل هذه المُعادلة (حل المُشكلة). للأسف، قدرتنا على تمثيل مُشكلة ما لا تعني بالضرورة أنه دائمًا بالإمكان حلها. على سبيل المثال، المُعادلات التفاضلية الجُزئية Partial differential equations تظهر في الفيزياء وفي الكثير من التطبيقات الهندسية المهمة، ولكن لا نعرف الكثير عن طُرق حلها بعد.

في التفكير الحوسبي، نِصف حل المُشكلة يتمثل في تحويلها إلى data structure أو "هيكل بيانات" (تمثيل المُشكلة)، والنصف الآخر يتمثل في إيجاد خوارزمية Algorithm تعمل على هذه البيانات لتحولها لشكل نهائي مطلوب (حل المُشكلة). مرة أخرى، قد لا نجد الخوارزمية المطلوبة لحل مُشكلة ما حتى وإن كنا نعرف كيفية تمثيلها.

سواء في التفكير الرياضي أو التفكير الحوسبي، تمثيل المُشكلة له أهمية مركزية في حلها؛ وذلك لأن درجة صعوبة إيجاد حل مُعين -أو إيجاد حل من الأساس- تعتمد على التمثيل. مثلًا في التفكير الرياضي، نفس المُشكلة التي تبدو بلا حل عند تمثيلها بمُعادلات تفاضلية جُزئية قد تمتلك حلًا مُباشرًا إن كان بالإمكان تمثيلها بمُعادلات تفاضلية عادية. الأمر مُشابه في التفكير الحوسبي؛ هُناك مُشكلات من المُستحيل تقريبًا حلها بدون تمثيلها كمُخططات graphs.

أخيرًا، في حين أنه بإمكاننا في كثير من الأحيان حل نفس المُشكلة باستخدام التفكير الحوسبي أو الرياضي، فصعوبة وسُرعة الحصول على حل تختلف وفقًا لطبيعة المُشكلة. في بعض الأحيان يكون من الأسهل حل المُشكلة رياضيًا، وفي بعض الأحيان يُكون من الأسهل حلها حوسبيًا. أيضًا، هُناك مُشكلات لا نعلم لها سوى حلول رياضية، وهناك مُشكلات لا نعلم لها سوى حلول حوسبية، وبالتالي معرفة الأسلوبين ضروري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.