من عمال المناجم البولنديين إلى جيل ملهم من الجزائريين.. كيف أسهمت الهجرة في أمجاد كرة القدم الفرنسية؟

MOSCOW, RUSSIA - JULY 15: The team of France celebrates with the World Cup trophy after the 2018 FIFA World Cup Final between France and Croatia at Luzhniki Stadium on July 15, 2018 in Moscow, Russia. (Photo by Matthias Hangst/Getty Images)
شكل اللاعبون ذوو الأصول الأفريقية والمغاربية الجزء الأكبر من تشكيلة منتخب فرنسا المتوجة بكأس العالم 2018 (غيتي)

ترك المهاجرون -ولا يزالون- أثرًا كبيرًا في كرة القدم الفرنسية، التي استمدت أغلب أمجادها وتتويجاتها من الهجرة، بدءًا بعمال المناجم البولنديين، وصولًا إلى جيل ملهم من اللاعبين الذين ينحدرون من أصول أفريقية وعربية.

وذكر الكاتب نيلس أدلر في تقرير نشرته "الجزيرة الإنجليزية"، أن فرنسا التي كانت توّجت في 12 يوليو/تموز 1998 بكأس العالم للمرة الأولى في تاريخها -بعد تغلبها على البرازيل بنجومها الكبار: رونالدو وريفالدو وروبرتو كارلوس بنتيجة 3-صفر في نهائي "ملعب فرنسا" بباريس- تدين بذلك التتويج إلى كتيبة من اللاعبين متعددي الأصول، يتقدّمهم النجم الجزائري زين الدين زيدان، الذي سجل هدفين في نهائي مونديال 1998، وقاد منتخب الديوك لاعتلاء منصة التتويج بكأس العالم للمرة الأولى في التاريخ.

وبعد صافرة النهاية مباشرة، تدفّق مئات الآلاف من المشجعين الفرنسيين إلى ساحات الشانزليزيه للاحتفال بهذا النصر، وسرعان ما تزيّن المعلم الباريسي الشهير "قوس النصر" بصورة اللاعب زيدان، الذي كان له فضل كبير في هذا التتويج.

ويعدّ زيدان من جيل أبناء المهاجرين الجزائريين من الطبقة العاملة الذين استقروا في مدينة مرسيليا، وكان جزءًا من فريق يضم لاعبين من أصول أرمينية وغانية وسنغالية وجنسيات أخرى.

زيدان (وسط) الجزائري الأصل قاد فرنسا إلى التتويج بمونديال 1998 (غيتي)

بعد فوز المنتخب الفرنسي باللقب، وصفت وسائل الإعلام الفرنسية هذا الإنجاز بأنه مثال على الاندماج الناجح، وأشارت صحيفة "لوموند" إلى أن هذا المنتخب هو "رمز التنوع والوحدة في فرنسا"، ووصفه الرئيس الفرنسي -آنذاك- جاك شيراك بأنه "فريق متعدد الألوان"؛ وهو المنتخب نفسه الذي فاز بعد عامين فقط ببطولة أوروبا "يورو 2000".

سراب الاندماج

أشار الكاتب إلى أنه رغم الإيجابية التي أحاطت نجاح منتخب فرنسا، فإنه سرعان ما بدأت التوترات العرقية في الظهور مرة أخرى. فهذه الانتصارات ما بين 1998 و2000 مثّلت مصدر إحراج للحزب اليميني المتطرف "الجبهة الوطنية"، التي سبق لزعيمها -آنذاك- جان ماري لوبان أن ادّعى في عام 1996 أن منتخب فرنسا "مصطنع"؛ لضمّه عددًا كبيرًا من اللاعبين غير البيض. وفي وقت لاحق، وصف لاعبي المنتخب بالممثّلين "غير الجديرين"، وأنهم لا يعرفون حتى كلمات النشيد الوطني الفرنسي. وفي عام 2000، قال 36% من المشاركين في استطلاع فرنسي إنهم يعتقدون أن عدد اللاعبين من أصول أجنبية كبير جدًّا في المنتخب.

حيال هذا الشأن، قال الصحفي الرياضي المهتم بشؤون الكرة الفرنسية تيموثي مايمون، "اعتقدنا أن نجاحات 1998 و2000 ستكون الحلقة الأخيرة من هذه الحساسيات، حيث نلعب بعدها معًا ونفوز معًا كفريق واحد وننسى قضية الأصول"، ولكن سرعان ما تبين أنه مجرد "سراب" وأن المنتخب الوطني سيُستخدم لاحقًا لأغراض سياسية في أي نقاش حول قضية الهجرة، مع أن الهجرة في الواقع هي التي أوصلت كرة القدم الفرنسية للأفضل. وأضاف "اليمينيون المتطرفون في فرنسا عادة ما يرددون مقولة (لا يوجد لاعبون بيض في منتخبنا). والحقيقة أنه لو اعتمدنا على لاعبين بيض فقط، لما فزنا بكأس العالم مرتين".

إلى جانب المنتخب، كانت جائزة الكرة الذهبية -أيضًا- مسرحًا لتأثير الهجرة في الكرة الفرنسية؛ فأربعة من الخمسة الفائزين بها هم من أصول غير فرنسية، بما في ذلك: ريموند كوبا لاعب خط وسط ريال مدريد الأسطوري، الذي ينحدر من عائلة من المهاجرين البولنديين، وميشيل بلاتيني إيطالي الأصل، وزين الدين زيدان وكريم بنزيمة اللذان ينحدران من أصول جزائرية.

وذكر الكاتب أن منتخب فرنسا الحالي -الذي يتنافس الآن في كأس العالم قطر 2022- مثال آخر عن تأثير الهجرة على كرة القدم الفرنسية، ذلك أن معظم اللاعبين في التشكيلة الأساسية لديهم جذور من غينيا بيساو والكاميرون وغيرها.

تاريخ حافل بتنوع الأعراق

ويبيّن نيلس أدلر أن العلاقة بين كرة القدم الفرنسية والهجرة تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين، حين تشكّلت أندية مثل "لانس" و"سانت إيتيان" في أغلبها من مجتمعات عمال المناجم من مهاجرين بولنديين وإيطاليين. وكان بين هؤلاء اللاعبين: ستيفان ديمبيكي، الذي يحمل الرقم القياسي لمعظم الأهداف المسجلة في مباراة احترافية في فرنسا، بعد أن سجل 16 هدفًا لنادي "آر سي لنس" في مباراة من كأس فرنسا عام 1942.

وفي نهائيات كأس العالم 1938 -التي أقيمت على أرضها- قدّمت فرنسا أول لاعب من أصل سنغالي وُلد في "غيانا الفرنسية"، وهو راؤول دياني، وهو مدافع متعدد المواهب لُقّب بـ "العنكبوت الأسود". وفي العام نفسه انتقل العربي بن مبارك -المولود في المغرب- من النادي المغربي الدار البيضاء إلى أولمبيك مرسيليا الفرنسي، وسجل 10 أهداف في موسمه الأول.

وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بدأ اللاعبون الذين هاجروا من المستعمرات والمحميات الفرنسية في منطقة المغرب العربي بشمال أفريقيا في التأثير بشكل كبير في كرة القدم الفرنسية. كان بينهم الجزائري رشيد مخلوفي، الذي اختير بعد فوزه بالدوري الفرنسي في 1956-1957 مع نادي سانت إتيان للانضمام إلى منتخب فرنسا في كأس العالم. لكنه هرب مع العديد من اللاعبين الفرنسيين من أصول جزائرية إلى الجزائر خلال الثورة التحريرية، وهناك لعب مع فريق شكّلته جبهة التحرير الوطني.

وفي أوائل السبعينيات، بدأت فرنسا في إعادة هيكلة نظامها الكروي بعد تراجع في الأداء. وكانت النتيجة إنشاء نظام أكاديمي متطور جنّد اللاعبين الشباب ودرّبهم، وكثير منهم نشأ في أحياء ذات كثافة عالية من المهاجرين.

وعلى مدى العقود التالية، هاجر العديد من اللاعبين من المستعمرات الفرنسية السابقة لتمثيل المنتخب الفرنسي. وكان من بينهم: أمادو تيغانا لاعب خط الوسط الشهير -المولود في باماكو بمالي- وفي التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أثبت العديد من اللاعبين البارزين من أصول مهاجرة أنفسهم في المنتخب الفرنسي.

هويات متعددة

أفاد مايمون بأنه خلال موجات الهجرة المتتالية في القرن العشرين، احتضنت الأندية الفرنسية اللاعبين المهاجرين بدرجات متفاوتة من المعاملة الحسنة. فمرسيليا -على سبيل المثال- تتمتع بتاريخ طويل من الهجرة، خاصة من إيطاليا في بداية القرن العشرين، ثم لاحقًا من الجزائر وتونس والمغرب، وهي مدينة ساحلية تقع على الساحل الجنوبي لفرنسا.

وحسب مايمون، شكّل هذا التأثير -إلى حد بعيد- نادي أولمبيك مرسيليا، ويمكنك أن تشعر بذلك في مدرجات الملعب؛ إذ لا مكان للعنصرية بين الجماهير. في المقابل، عانت أندية أخرى من قضية العنصرية بين المشجعين؛ مثل: باريس سان جيرمان، الذي تأسس في عام 1970، وكافح مطولًا ضد مثيري الشغب والعنصرية، لدرجة منعهم من دخول الملعب. وقد أصبح ملعب باريس مكانًا معاديًا للاعبين السود. وفي وقت سابق، قال عنه باتريك فييرا -لاعب الوسط الفرنسي السابق من أصل سنغالي- "يجب أن أفكر مرتين قبل أن تطأ قدماي مرة أخرى هذا الملعب".

مزيج من البيض والسود والمغاربة

بعد النجاح الذي حقّقه هذا الجيل من اللاعبين السود والبيض وذوي الأصول المغاربية الذي قاده إلى اللقب العالمي، شهد منتخب فرنسا بعض السنوات المضطربة، بما في ذلك أزمة اللاعبين خلال نهائيات كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا.

لكن بعد خسارتها بفارق ضئيل في نهائي بطولة أوروبا "يورو 2016" أمام البرتغال، عادت فرنسا لتفوز بكأس العالم مرة أخرى في روسيا 2018.

وتمامًا مثلما كان الحال قبل 20 عامًا، كان منتخب فرنسا ملتقى لأعراق مختلفة؛ إذ كان 17 من أصل 23 لاعبًا في الفريق يملكون جنسية ثانية، ومن بينهم النجم كيليان مبابي، الذي وُلد لأب كاميروني وأم جزائرية، وتم اختياره أفضل لاعب شاب في البطولة. كما برز لاعب آخر في البطولة وهو بول بوغبا، وهو مسلم من أبوين من غينيا، نشأ -مثل مبابي والعديد من اللاعبين الآخرين في الفريق- في ضواحي باريس.

وفي وسائل الإعلام الدولية، حظي نجاح المنتخب الفرنسي متعدد الأعراق بتغطية واسعة، وفي معظم الحالات تتم الإشادة به. قال الممثل الكوميدي الجنوب أفريقي -المقيم في الولايات المتحدة- تريفور نوح مازحًا في برنامج "دايلي شو": "أفريقيا هي التي فازت بكأس العالم". وأثارت تعليقاته ردًا شديد اللهجة من السفير الفرنسي جيرار أرو، الذي خاطبه، قائلًا "من خلال وصفهم بأنهم فريق أفريقي، يبدو أنك تنكر أنهم مع ذلك فرنسيون"، مضيفًا "هذا الأمر-حتى من باب الدعابة- يكرّس (الأيديولوجيات) التي تدّعي أن كونك أبيض اللون، هو التعريف الوحيد لتكون فرنسيًا".

وأشار الكاتب إلى أن النجاح الكروي للمهاجرين من الجيلين الثاني والثالث لم يقتصر على منتخب فرنسا فحسب؛ بل امتد إلى منتخبات أخرى، إذ إن 28 لاعبًا -وُلدوا وتدرّبوا في فرنسا- يشاركون مع منتخباتهم في كأس العالم الحالية.

ومع تقدّم فرنسا في بطولة كأس العالم قطر 2022، تُعلَّق الآمال على أن يسهم نجاح منتخبها متعدد الأعراق في الحدّ من التوترات العرقية التي تأجّجت أكثر خلال السباق الرئاسي. لكن قبل انطلاق مونديال قطر 2022 بأيام، نشرت صحيفة "لو كانار" (Le Canard) الفرنسية رسمًا كاريكاتوريًا يصوّر لاعبي كرة القدم القطريين على أنهم إرهابيون، ما أثار غضبًا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث عُدّ ذلك نوع من الترويج الصارخ للعنصرية و"الإسلاموفوبيا".

وفي مونديال قطر الحالي، حلّ منتخب فرنسا في مجموعة ضّمت منتخب تونس (بجانب الدانمارك وأستراليا)، وهو المنتخب الذي يضم في تشكيلته العديد من اللاعبين فرنسيي المولد؛ مثل: نعيم السليتي ووهبي الخزري.

وفي مباراة المنتخبين ضمن الجولة الثالثة من الدور الأول، نجح منتخب تونس -المعزّز بعشرة لاعبين مولودين في فرنسا- في هزيمة حامل لقب نسخة مونديال 2018 بهدف لوهبي الخزري، الذي حقق -الأربعاء لماضي- هدفه الثالث في مشاركتين في كأس العالم.

المصدر : الجزيرة