حقيقة المؤامرة لإسقاط صنعاء

Shi'ite Houthi rebels stand on a tank at the compound of the army's First Armoured Division, after they took over it, in Sanaa September 22, 2014. Yemen's Shi'ite Muslim rebels signed an agreement with other political parties on Sunday to form a more inclusive government after rebels advanced on major state institutions in the capital Sanaa, largely unopposed by troops and security forces. REUTERS/Khaled Abdullah (YEMEN - Tags: POLITICS CIVIL UNREST MILITARY)
رويترز

فرضية المؤامرة
مسارات المؤامرة
تعزيز حقيقة التآمر
أطراف المؤامرة

بكل يُسر مُكنت جماعة الحوثي المسلحة من السيطرة على مفاصل العاصمة اليمنية صنعاء وسط ذهول لمّا تنقشع استفهاماته الكبيرة بعد.

يكاد تفسير "المؤامرة" يطغى على كافة التفسيرات القليلة الأخرى، ولكي نتحقق من صواب هذا التفسير الافتراضي، ينبغي علينا الخوض فيما حدث بالقدر الذي تسندنا فيه المعلومات والحقائق المتوافرة، وربطها جنبا إلى جنب مع تصريحات سابقة ومرافقة ولاحقة لمسئولين محليين وخارجيين رفيعين.

فرضية المؤامرة
يُعتقد على نطاق واسع أن ما حدث، لم يكن سوى "مؤامرة ثلاثية الأضلاع (دولية، إقليمية، محلية) تخطيطا وتنفيذا"، هكذا  يلخص معظم اليمنيين ما حدث، نظرا لتلك السهولة التي احتُلت بها العاصمة صنعاء، حتى يكاد هذا الإيجاز التفسيري السهل يطغى على ما دونه ليكون هو "العنوان الرئيسي" والأبرز، المجمع عليه تقريبا من القمة إلى القاعدة.

يُعتقد على نطاق واسع أن ما حدث، لم يكن سوى "مؤامرة ثلاثية الأضلاع تخطيطا وتنفيذا، حتى يكاد هذا الإيجاز التفسيري السهل يطغى على ما دونه ليكون هو "العنوان الرئيسي" الأبرز، المجمع عليه تقريبا من القمة إلى القاعدة

تفاصيل مسارات الأحداث الأخيرة ليس لها أن تقول غير ذلك، فالرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، نفسه لم يجد وصفا لما حدث سوى تأكيد المؤكد، ليقر في مؤتمر صحفي عقده في 23 سبتمبر/أيلول أنها "مؤامرة كبيرة أعدت سلفا وتحالفت فيها قوى خارجية وداخلية وتجاوزت حدود الوطن"، متهما "الانتهازيين" من الداخل بالمشاركة فيها، فيما أحجم عن تفصيل طبيعة تلك "المؤامرة"، مفضلا إغلاق ملفها نهائيا بإحالة كشف خيوطها إلى ما سيكتبه التاريخ، واكتفى بالدعوة للتوقف عن "لغة التخوين" وتحميل المسئولية لطرف بعينه.

لكن الأمر لم يكن عارضا كي تنتهي القصة عند هذا الحد باستجابة الناس لمثل تلك الدعوة الرئاسية.
ومازال معظم الشعب هنا يتساءل: كيف يمكن التوقف عند هذا التبسيط، وقد سلمت العاصمة اليمنية لتصرّف مليشيا مسلحة على ذلك النحو دون مقاومة تذكر؟

مسارات المؤامرة
حدث ذلك في الوقت الذي كان فيه الجميع على موعد مع التوقيع على اتفاق سلم وشراكة في اليوم ذاته، والذي كان يفترض به أن ينهي أي خيارات لتصعيد العنف.

في تلك الأثناء كان قادة الأحزاب السياسية الأخرى قد توافدوا منذ الصباح الباكر إلى دار الرئاسة بانتظار موعد التوقيع على ما سمي لاحقا "اتفاقية السلم والشراكة الوطنية"، والتي كان من المقرر توقيعها صباح ذلك اليوم المشئوم (21 سبتمبر/أيلول)، فتم تفتيشهم وأخذت منهم جوالاتهم الشخصية وأدخلوا إلى القاعة الرئاسية للانتظار.

وهناك ظلوا ينتظرون لساعات طويلة حضور ممثلي الحوثي الذين لم يصلا إلا بعد أن ذهب النهار وبسط الظلام سطوته على العاصمة، وقد أنجزت مليشياتهم ما يُعتقد أنه الجزء الرئيسي المتفق عليه من الخطة، وربما تجاوزوه إلى تحقيق معظم أهدافهم بسيطرة شبه كاملة على أهم المفاصل الرئيسية للعاصمة.

في الواقع ألمح ممثل أحد الأطراف الموقعة، في جلسة خاصة، إلى أنهم كانوا شبه محتجزين داخل دار الرئاسة، وإن حدث ذلك بطريقة غير معلنة، حيث لم يكن غالبيتهم، وربما جميعهم، يعلمون ما الذي كان يحدث في الخارج على وجه الدقة! وقد تم تجريدهم من وسيلة التواصل الوحيدة مع الخارج (هواتفهم)..!

وحين وقعوا في الظلام وصف بعضهم التوقيع أنه كان بمثابة "عملية تبييض" للجريمة، وللأسف الشديد يتحسر البعض من حدوث تلك الجريمة تحت إشراف المبعوث الأممي جمال بن عمر! ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فثمة من يتحدث أيضا عن وجود "ضوء أخضر" من أبرز الرعاة الخارجيين المؤثرين للتسوية السياسية.

وحتى تكتمل الصورة يتوجب إعادة شريط الأحداث قليلا إلى الوراء، فقبل أربعة أيام فقط من تسليم صنعاء للحوثيين والتوقيع على "صك البراءة"، كان المبعوث الأممي إلى اليمن جمال بن عمر قد توجه إلى صعدة في مهمة تفاوضية مع زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، بعد أن فشلت كافة المحاولات السابقة لأكثر من لجنة رئاسية في صعدة وفي صنعاء، ليكون بن عمر بمثابة الورقة الأخيرة للرئيس، هكذا يعتقد البعض.

وعلى غير المتوقع استغرقت مهمته ثلاثة أيام (18-20 سبتمبر/أيلول) في كنف الحوثي بصعده، ليعود إلى صنعاء بدون معالم واضحة للنتيجة، فيما كانت معركة اقتحام صنعاء قد دشنت منذ اليوم الأول لوصوله محافظة صعده، وحين عاد إلى صنعاء كانت المواجهات قد بلغت عمق العاصمة.
في ذلك المساء اجتمع بن عمر مع الرئيس بحضور مستشاريه السياسيين لتدارس الأمر، وعقب انتهاء الاجتماع عقد بن عمر مؤتمرا صحفيا ليبشر الصحفيين بالتوصل إلى اتفاق سيتم توقيعه صباح اليوم التالي (21 سبتمبر/أيلول)، ولم ينس بن عمر الإعراب عن أسفه لما آلت إليه الأوضاع في العاصمة أثناء فترة غيابه، تلك الفترة التي تمكنت فيها مليشيات الحوثي من بسط سيطرتها الكلية على أهم المؤسسات السيادية للدولة، ودون مقاومة تذكر.

هي إذا مؤامرة محبوكة استهدفت تصفية واجتثاث ما كان يروج لها على أنها "معاقل راديكالية" عسكرية ودينية تابعة لحزب التجمع اليمني للإصلاح، الشريك الرئيسي في سلطة "المبادرة الخليجية"

آنذاك لم يكن قد تبقى للمليشيات سوى بعض الأماكن التي وجدت فيها مقاومة شديدة، وفي صباح اليوم الموعود للتوقيع حضر الجميع في الموعد باستثناء ممثلي الحوثي، وعوضا عن ذلك واصلت مليشياتهم بطولاتها حتى تمكنت مساء اليوم ذاته من انتزاع سيطرة شبه كاملة تقريبا على العاصمة بعد اقتحام آخر وأقوى معقل رمزي للجيش وسط صنعاء: مقر المنطقة العسكرية السادسة (الفرقة الأولى مدرع سابقا)، بعدها أُحضر ممثلا الحوثي على متن طائرة رئاسية من صعدة إلى صنعاء للتوقيع على الصفقة، وبمجرد وصولهما انفرد بهما رئيس الجمهورية مع بن عمر قبل التوقيع، طبقا لصحفيين حضروا تغطية مراسيم التوقيع.

من خلال تلك المسارات، اعتُقد على نطاق واسع غير قابل للكثير من التأويلات، أن الجماعة كانت قد حصلت على "مُهلتها" الأولية لإنفاذ المخطط أثناء وجود بن عمر في صعدة في مهمة تجاوزت موعدها المفترض بيوم واحد إلى ثلاثة أيام، ولأن المليشيات لم تكن قد نجحت سوى في تحقيق ما يعتقد أنه جزء من الخطة الكلية، فقد منحت -عشية إعلان تأجيل التوقيع لليوم التالي- فرصة أخرى لاستكمال الجزء المتبقي والأهم، لذلك ربما تطلب الأمر إحضار الجميع إلى دار الرئاسة باكرا، واحتجازهم هناك على ذلك النحو.

وقدرعزز تقرير إستراتيجي عربي حديث، عني بالأحداث الأخيرة في اليمن، مثل تلك الافتراضات، حيث ذهب آخر تقرير لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" إلى اعتبار أن "المفاوضات التي كانت تجري بإشراف مستشار الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه إلى اليمن، جمال بن عمر" لم تكن سوى "غطاء للتقدّم على الأرض، ومن ثمّ الاستيلاء على العاصمة".

تعزيز حقيقة التآمر
هي إذا مؤامرة محبوكة استهدفت تصفية واجتثاث ما كان يروج لها على أنها "معاقل راديكالية" عسكرية ودينية تابعة لحزب التجمع اليمني للإصلاح، الشريك الرئيسي في سلطة "المبادرة الخليجية"، والحزب الإسلامي المعتدل الذي ظل خصومه يروجون لاستهدافه بوصفه امتدادا لـ"جماعة الإخوان المسلمين".

حدث ذلك في سياق التسويق لفكرة ضرورة اجتثاثه، عطفا على ما حدث في مصر، كما حدث أيضا في وقت عكس فيه المجتمع الغربي إشارات خادعة حيث كان وحتى وقت قريب يعد حزب "الإصلاح" الأكثر تسيسا ومدنية مقارنة بغيره من الحركات الإسلامية سواء في اليمن أم الوطن العربي برمته.

وبشكل غير مباشر كشف بن عمر حقيقة ذلك التوجه الدولي، حين صرح في وقت لاحق على الأحداث الأخيرة، أن الحوثيين لم يكونوا وحدهم الجماعة التي تمتلك مليشيات عسكرية وقبلية مسلحة، بل أيضا "حزب الإصلاح"، متبنيا تهم خصومه بأنه من واجه الحوثيين -وليس الدولة- في حروب ومعارك سابقة في محافظات أخرى، كما اعتبره أيضا آخر من واجههم في صنعاء دفاعا عن المنطقة العسكرية السادسة. ( لقاء مع قناة "سكاي نيوز عربية" بثته في 28 سبتمبر/أيلول).

في الواقع كان الجنرال علي محسن (الذي يحسبه بن عمر وآخرون جزءا من تكوين حزب الإصلاح) هو من يدير معركة الحفاظ على رمزية وشرف الجيش اليمني من داخل مقر المنطقة العسكرية، لكن محسن -وهو مستشار أمني وعسكري لرئيس الجمهورية- لم يكن يقوم سوى بواجبه تنفيذا لتوجيهات صدرت له من الرئيس هادي قبل يوم واحد فقط من "مؤامرة" تسليم صنعاء لمليشيات الحوثي.

ويتردد على نطاق واسع أن إقحام الجنرال "محسن" في تلك المعركة جاء في سياق الخطة، وأن الأخير حين شعر بالمؤامرة، لاسيما بعد ما نكث هادي وعده له بالدعم بالسلاح، قرر الانسحاب في اللحظات الأخيرة.

أطراف المؤامرة
إزاء ترسخ مثل تلك الاتهامات التفسيرية وتداولها على نطاق واسع كحقائق شبه مؤكدة، لم يكن أمام المبعوث الأممي جمال بن عمر إلا أن يظهر ليوضح بعض التفاصيل المتداولة أصلا، فتحدث هو الآخر عن وجود "مؤامرة"، كما فعل الرئيس قبله بأيام قليلة فقط.

في مقابلة أجريت معه في جريدة عكاظ السعودية، نشرت في 28 سبتمبر/أيلول، أكد بن عمر أن أطرافا كانت "تعمل في الخفاء من أجل مساعدة جماعة الحوثي المسلحة على دخول صنعاء". لم يوضح من هي تلك الأطراف، لكنه فضل جعل الباب مفتوحا أمام كافة التأويلات المتاحة.

وإذا كان من الراجح أنه كان يشير إلى الرئيس السابق "صالح" بعد تأكد تورطه في مشاركة الحوثي معاركه عبر قيادات حزبية وسياسية ومجاميع قبلية تابعة له بغية الانتقام من خصومه السياسيين الكبار الذين انحازوا لثورة فبراير/شباط 2011، فإن هذا التعميم المفتوح لا يستثني أيضا أطرافا أخرى على رأسها وزير الدفاع وآخرين في الدولة، خصوصا وأن قيادات عسكرية متعددة كشفت -عبر تصريحات صحفية متداولة- أن أوامر وجهت إليهم من وزير الدفاع تحذرهم من المقاومة وتنصحهم بتسليم المعسكرات والأسلحة للحوثيين.

لمعرفة حجم التواطؤ الخارجي يكفي طرح السؤال الملح: لماذا لم تعلن أي دولة أجنبية أو عربية حالة الطوارئ وتصدر أوامرها لدبلوماسييها ورعاياها -كالعادة- بضرورة مغادرة اليمن؟

وقد يعزز هذا الترجيح أن بن عمر كان يستدل بذلك في سياق حديثه عن انهيار الأجهزة الأمنية والعسكرية "في وقت وجيز".

وفي السياق أيضا كرر بن عمر أكثر من مرة الحديث -ضمن مقابلته المشار إليها مع قناة سكاي نيوز- عن أن احتلال مليشيات الحوثي لصنعاء أصبح "أمرا واقعا"، مشددا على ضرورة التعامل مع هذه النتيجة كـ"أمر واقع".

ولعل ما يؤسف عليه هنا أن مبعوثا أمميا، يعول عليه لتكريس لغة الحوار لمعالجة النزاعات، لم يكن ليشعر بالخجل وهو يتحدث عن استخدام القوة باعتبارها أحد الطرق الممكنة لفرض "الأمر الواقع".!

لكن ذلك، على أية حال، لا يقصر تهمة "التآمر" على الأطراف الداخلية فحسب، دون وجود ضوء أخضر من الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في اليمن.

يقودنا هذا إلى الحديث عن تواطؤ المجتمع الإقليمي والدولي، وثمة تساؤل مثار وملح: لماذا لم تعلن أي دولة أجنبية أو عربية حالة الطوارئ وتصدر أوامرها لدبلوماسييها ورعاياها -كالعادة- بضرورة مغادرة اليمن؟

حتى الآن، لم تقدم أية توضيحات أو تفسيرات من شأنها أن تلغي أو تخفف من الاعتقاد الراسخ أن أطرافا إقليمية ودولية متورطة، إذ يوحي كل ذلك -يقينا- أنه كان معلوما لدى المتآمرين حدود الخطة وإلى أين سيصل منتهاها؟ سيما وأن السفارات الأجنبية والعربية دأبت على إعلان إجراءات أمنية احترازية في ظروف أقل خطورة من ظروف الحرب والمواجهات التي جرت مؤخرا! 

يرجح ما ذهبنا إليه ذلك الموقف الدولي المتخاذل في عدم تنفيذ مضمون قرار مجلس الأمن الأخير (2140) بفرض عقوبات على جماعة الحوثي التي ثبت استخدامها السلاح لتحقيق أهداف سياسية أكثر من مرة منذ ما بعد صدور القرار في فبراير/شباط الماضي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.