في تونس.. مؤذنو المساجد يصقلون أصواتهم بمعهد للموسيقى

بدر الدين الوهيبي-تونس

يقف الشيخ المنذر الجدّي بثبات أمام الميكروفون (المصدح) لرفع الأذان في جامع أنس إبن مالك في ضاحية قرطاج في العاصمة تونس.. ثبات استمدّه من خبرة تمتدّ لسنوات كمؤذّن ومرتّل للقرآن في المساجد وينقلها لطلاّبه ضمن دورات تدريبية بهدف الحفاظ على الطابع التونسي للأذان.

وينظّم المعهد الرشيدي للموسيقى -بالتعاون مع وزارة الشؤون الدّينية- دورات تدريبية تستهدف مؤذّني المساجد لصقل جمالية أصواتهم ومخارج الحروف لديهم وملاءمة الأذان للطبوع الموسيقية التونسية التي ائتمن عليها المعهد منذ تأسيسه سنة 1934.

ويشرف الجدّي- مع أساتذة في الفقه والموسيقى وعلم القراءات- على سير ومضمون هذه الدورات التي انطلقت منذ مارس/آذار 2018 لتتواصل في نسختها الثانية هذه السنة، وتشمل ما يناهز العشرين مؤذنا تقدّموا بصفة تلقائية منذ الإعلان عن فتح باب التسجيل في وزارة الشؤون الدينية.

جامع مالك بن أنس بضاحية قرطاج بتونس (الجزيرة)
جامع مالك بن أنس بضاحية قرطاج بتونس (الجزيرة)

الأداء والهويّة
يقول الهادي الموحلي مدير المعهد الرشيدي للموسيقى للجزيرة نت إن قداسة النداء للصلاة لا تعني الجمود والتحجّر في المعايير وعدم إدخال تحسينات وتهذيبات ممكنة في أداء المؤذنين "الهدف الأساسي كان بالنسبة له جمالية رفع الآذان وسلامة الأداء والنطق".

ويضيف محدّثنا أن المحافظة على الهوية والطبوع الموسيقية التونسية في الأذان -يعتبر الشيخ علي البرّاق رحمه الله تعالى من روّادها- كان أيضا من دوافع إحداث هذه الدّورات لا سيما مع بداية تراجعها أمام الطابع الحجازي المنتشر نظرا لريادية المشرق في ترتيل القرآن وإخراج المرتّلين.

وانطلقت البادرة -حسب الموحلي- إثر تفاعل عاطفي بين مختلف الجهات المتداخلة مع موروث ديني وثقافي تونسي يوشك على الاضمحلال، غير أنها كانت محل انتقادات عدّة نظرا لحساسية الربط بين البعدين الفني الموسيقي والديني قبل أن تتبدّد نظرا للنتائج الإيجابية التي حققتها الدورات.

ويقول الشيخ الجدّي "الدورات التدريبية لاقت استحسان من تابعها من المؤذنين نظرا لما لمسوه من تحسّن في أدائهم من الناحية الجمالية وسلامة مخارج الحروف، ولا يوجد أي تعارض بين الديني والفني لأن التجويد في القراءة أمر محمود".

مقر الجمعية بالمدينة العتيقة بتونس(الجزيرة)
مقر الجمعية بالمدينة العتيقة بتونس(الجزيرة)

بين الفن والدّين
خلف طرح المعهد الرشيدي للموسيقى لفكرة الدورات التكوينية للمؤذّنين وقعا سلبيا توقّعه مدير المعهد الأعلى للشريعة الهادي الرّوشو الذي كان من المشرفين على بعث دورة تكوين لمؤذّني المساجد مما دفعه إلى عمل صياغة واضحة لأبعاد الفكرة تحسّبا للانتقادات.

يقول الرّوشو إن البرنامج كان ثلاثيّ الأبعاد ويهدف إلى إصلاح النطق وتحسين الصّوت والمحافظة على الطّابع التونسي، وإن المنتقدين اقتصروا على فهم سطحي تغيب عنه رؤية عميقة للإيجابيات التي تحملها لترغيب الناس في الإصغاء للأذان وليس تنفيرهم منه كما هو الحال أحيانا.

ويستشهد بموقف النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم خلال واقعة رؤيا عبد الله بن زيد للأذان، عندما طلب منه عليه السلام أن يدع لمهمة النداء للصلاة بلالا (مؤذن الرسول) "فإنّه أندى منك صوتا ". وأوضح أن ذلك يعتبر دليلا على أن جمال وعذوبة صوت المؤذّن أثناء الرّفع تعتبر من المواصفات المحمودة في الإسلام.

تجارب قديمة
استحضر الروشو تجربته حين كان طالبا سنة 1976 عندما لجأ مدير مدرسة النخلة للتجويد والتلاوة المحاذية لجامع الزيتونة العريق محمّد الهادي بالحاج آنذاك إلى انتداب أستاذ في الموسيقى لتدريس المقامات للطلبة، وقال إن المشائخ في تلك الفترة لم يعترضوا على الفكرة.

الرّوشو مدير المعهد الأعلى للشريعة (الجزيرة)
الرّوشو مدير المعهد الأعلى للشريعة (الجزيرة)

وسبقت تجربة مدرسة النخلة للتجويد والتلاوة سنة 1976 في ستينيات القرن الماضي تجربة الموسيقار الراحل صالح المهدي الملقّب بزرياب تونس، والشيخ العلاّمة الراحل الشاذلي النيفر حين قاما بتكوين مؤذّنين من فنّاني المعهد الرشيدي للموسيقى.

وتملك تونس موروثا هاما من المؤذنين والقرّاء من بينهم علي ومحمد البراق وعثمان الإنداري ومحمد مشفر وأحمد الشحيمي الذين يعود إليهم الفضل بتنشئة أجيال من التونسيين على أصواتهم وطريقة تجويدهم للأذان وللقرآن الكريم بطريقة وفية للمدرسة التونسية للأذان التي تسعى مختلف الجهات للحفاظ عليها من الاندثار بعيدا عن التعصّب والانحياز.

المصدر : الجزيرة