اللبلابي.. زاد الشتاء في تونس

اللبلابي قبل ان يقوم الحريف بخلطها
اللبلابي أشهر المأكولات التونسية، وتتكوّن من الحمص والشطة ومرق "الهرقمة" والملح والبهارات والبيض وزيت الزيتون والكمون، تُسكب فوق الخبز (الجزيرة)

محمد علي لطيفي-تونس

على وقع نسمات الصباح الأولى، يسابق "ولد أحمد" عقارب الساعة ليصل إلى محلّه الصغير، أحد أعرق محلات بيع أكلة "اللبلابي" الشعبية بشارع "صبّاط الدزيري" وسط العاصمة تونس، ليستقبل زبائنه الذين يأتونه من أماكن بعيدة لتذوّق أطباقه الشهيرة التي باتت فطورهم الدائم لمقاومة لسعات البرد.

حال وصوله إلى محلّه، يفتح ولد أحمد مذياعه القديم، فهو متابعٌ وفيّ لنشرات الأخبار، ثمّ يبدأ بتنظيف المكان وبسط الطاولات، وإعداد قطع خبزٍ مضى عليه يوم أو يومان، في قفّة كبيرة من السعف، بينما يتولى عمّاله تنظيف أواني الطبخ وصحون الفخّار، التي سيُسكب فيها "اللبلابي" لاحقاً.

هو يدرك أنه كلما تراجعت درجات الحرارة ازداد طلب التونسيين على "صحفة" (صحن) "لبلابي" ساخنة تدير الدماء التي تكاد تتجمّد في عروقهم، وتبعث الدفء والنشاط في أجسادهم التي يكاد يقتلها البرد، إذ تُعدّ هذه الأكلة الشعبية من أكثر الأكلات التي يُقبلون عليها خلال فصل الشتاء.

‪أحد العاملين في محل
‪أحد العاملين في محل "صباط الدزيري" يحضّر "الهرڨمة" لإضافتها إلى صحن "اللبلابي"‬ (الجزيرة)

مقاوم للبرد
بعد ساعات قليلة، تنبعث رائحة شهيّة من الحمّص المسلوق الذي يموج في قدر ضخم، يحرّك ماءه كهل يتجاوز عمره الخمسين ممسكاً ملعقة عملاقة، امتزجت في سماء المكان مع هالةٍ من البخار المنفلت من قِدرٍ آخر لإعداد مرق "الهرقمة" التي يطهوها التونسيّون بأرجل البقر.

زبائن ولد أحمد اعتادوا المرور يوميا بمحلّه الشهير، حيث رائحة البهارات تثير شهيّتهم في هذا الطقس البارد، حتى أنها تجعلهم يتدافعون للحصول على صحن "لبلابي" قد يفلح في الحدّ من لسعات بردٍ لا يُقاوم هنا إلا بأكلة الحمّص الممزوج بفتات الخبز والهريسة التونسية وشتى البهارات والتوابل.

أكلة الفقير
ويختار آخرون أن يضاف إلى صحن "اللبلابي" بعض من مرق "الهرقمة" المتكون من أرجل البقر، حيث يتم تقطيعها الى أجزاء، لإضافتها إلى خليط صحن مملوء بالهريسة (الشطّة) وفتات الخبز. ويختلف ثمن صحن "اللبلابي" حسب طلب الزبون، حيث يتراوح بين دولار وثلاثة.

يقول ولد أحمد في حديث للجزيرة نت "إنها أكلة الفقير رغم ما تحمله من فوائد صحية عديدة، غير أن ثمنها في متناول الجميع، فهي كما يقول سهلة التحضير، ولا تتطلب وقتاً طويلا ولا تكلفةً كبيرة. كما أنها تشعرهم بالدفء في برد الشتاء، فضلا عن أنها تقي أجسادهم من نزلات البرد".

‪صحفة اللبلابي في نهج  صباط الدزيري  لا تتجاوز 1،5 دولار‬ (الجزيرة)
‪صحفة اللبلابي في نهج  صباط الدزيري  لا تتجاوز 1،5 دولار‬ (الجزيرة)

"الهريسة" و"الهرقمة"
وتتربع أكلة "اللبلابي" على عرش المأكولات الشعبية في تونس، فهي تتكون من الحمص و"الهريسة" (الشطة) ومرق "الهرقمة" والملح والبهارات والبيض وزيت الزيتون والكمون، تُسكب كلّها فوق خبز مفتت يكون عادة قد مضى عليه يوم أو يومان.

إرث الوالد
ولد أحمد الذي قضى أكثر من أربعين عاماً في محل "اللبلابي"، يقول إنه يفتخر بمهنته التي ورثها عن أبيه الذي ما تزال صورته معلقة بعنايةٍ على حائط خلف ظهره لتذكّره بتاريخه وعاداته، فهو يحب أن يُنادى باسم أبيه حتى يبقى خياله يصاحبه في محلّه.

وبابتسامةٍ عريضة على شفتيه، يستقبل ولد أحمد كل وافد جديد، ويودّع بتربيتة خفيفة كل من أنهى طبقه ويهمّ بالمغادرة، وينادي عمّاله بأسماء أشبه بكلمات مرورٍ فيما بينهم، ليحثّهم على تنظيف الطاولات، أو تفقّد طلب زبون، وأحياناً ليستنهض الهمّة فيهم لمواصلة عملهم.

‪من مكونات
‪من مكونات "اللبلابي" خبز مفتت مر عليه يوم أو يومان‬ (الجزيرة)

تاريخ "اللبلابي"
بحسب المؤرخ التونسي عبد الرحمن أيوب في حديث للجزيرة نت، فإن تاريخ أكلة "اللبلابي" تعود  جذورها إلى ما قبل زمن الدولة العثمانية، لأنها كانت الأكلة الرسمية لسكان شمال أفريقيا ووقودهم اليومي، حيث توفر لهم الكثير من الدفء والنشاط، كما أنّها تنقذ الخبز القديم من الإتلاف.

وجبة متوازنة
من جهتها، تقول خبيرة التغذية بالمعهد الوطني للتغذية مريم كشك إنّ طبق "اللبلابي" وجبة متوازنة تساهم في ارتفاع حرارة الجسم، فضلا عن أنها تقوي جهاز المناعة، حيث توفر العديد من الحريرات للجسم وتحتوي على مكونات تمنح نشاطا للمستهلك.

وتضيف مريم في حديث للجزيرة نت أن هذه الأكلة تحتوي على مكونات هامة وأساسية لها فوائد صحية كبيرة للمستهلك، خاصة منها الحمص الغني بالبروتينات النباتية والحديد، وزيت الزيتون الذي يقي القلب من تصلب الشرايين والغني بالدهون.

‪ولد أحمد يفتخر بمهنته التي ورثها عن أبيه الذي ما تزال صورته معلقة لتذكّره بتاريخه وعاداته (الجزيرة)‬ ولد أحمد يفتخر بمهنته التي ورثها عن أبيه الذي ما تزال صورته معلقة لتذكّره بتاريخه وعاداته (الجزيرة)
‪ولد أحمد يفتخر بمهنته التي ورثها عن أبيه الذي ما تزال صورته معلقة لتذكّره بتاريخه وعاداته (الجزيرة)‬ ولد أحمد يفتخر بمهنته التي ورثها عن أبيه الذي ما تزال صورته معلقة لتذكّره بتاريخه وعاداته (الجزيرة)

في انتظار يوم جديد
يمسح ولد أحمد جبينه ويصوّب نظره نحو صورة أبيه المعلقة بجانبه، وهو يسأل الله أن يرحمه ويمنحه الجنة على مصدر الرزق الذي تركه له ولإخوته، ثم يرتب أطباق "اللبلابي" ويغلق محله في انتظار يوم جديد لاستقبال زبائنه الذين يقبلون من كل حدب وصوب.

المصدر : الجزيرة