لا تحمل ذاكرتي الكثير من الأحداث عن هزيمة العرب عام 1967، فلم أكن تجاوزت مرحلة الطفولة، مع ذلك فإنني شاركت أهلي وقبيلتي مشاعر الحزن والأسي، لقد علت الوجوه حالة اكتئاب ويأس، كأن الإنسان يخجل من أن يراه أحد يبتسم فيظن به السوء.
واعتقد أن العرب جميعا في كل البلاد حلت بهم هزيمة نفسية كانت أشد خطرا من هزيمة الجيوش العربية في ميادين القتال، واحتلال الجيش الإسرائيلي للقدس والضفة الغربية وسيناء والجولان.
كانت تلك الهزيمة ثقيلة على جيلي، فقللت من الطموح والآمال والشعور بالفخر والعزة، وهي مشاعر يحتاج لها الإنسان أكثر من الطعام والشراب.. وربما تشكل مستقبل الإنسان؛ الذي لا يمكن أن ينجح في الحياة إن لم يمتلك أملا، وإن لم يفخر بأصله ونسبه وانتمائه للأمة.
كنت أسمع الكثير من القصص عن المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون على أيدي العصابات الصهيونية؛ التي أمدها الاحتلال البريطاني بالأسلحة النارية التي تستخدم في إبادة من لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم.
رواية تعبر عن حزن الأمة
ظلت حالة الحزن تلازمني حتى بعد نصر أكتوبر، تشرين الأول 1973، وأذكر أنني كتبت رواية طويلة، وأنا في المدرسة الثانوية، لكن تلك الرواية ضاعت، وربما كان ضياعها خيرا؛ فقد كانت تعبر عن الحزن واليأس والانكسار، وكانت نتيجة لتلك المأساة التي عرفت بعضها بعد عام 1967، ولم يكن من السهل التخلص منها.
وكانت أيضا تصف مشاعر الذين يتعرضون لفقد أحبابهم، وقتلهم أمام أعينهم، وقد كنت أسمع الكثير من القصص عن المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون على أيدي العصابات الصهيونية؛ التي أمدها الاحتلال البريطاني بالأسلحة النارية التي تستخدم في إبادة من لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم.
لماذا تحتضن "جولدا"؟!
طغت على نفسي حالة الحزن، وتراكمت مشاعر الانكسار بعد أن شاهدت الرئيس أنور السادات، وهو يحتضن جولدا مائير بعد نزوله من طائرته في بداية مبادرته للسلام.
وكان الخطاب في الكنيست لا يمكن أن يكون خطاب بطل حقق انتصارا عظيما في العاشر من رمضان، لقد كان يستجدي سلاما مع عدو يتعامل معه بغرور القوة، ويفرض شروطه.
كان السؤال الذي لم أجد له إجابة: لماذا تحتضن جولدا يا سادات؟! إنها عدو، انظر إلى يديها ستجد دماء الشهداء العرب، ولم تكن هذه المرأة تحارب بشرف في ميادين القتال، بل كانت تستخدم أسلحة الإبادة لتقتل الأطفال؟! هل نسيت مذبحة مدرسة بحر البقر يا سادات.
تم اغتيال السادات عام 1981، فتم تعييني؛ حيث أرادت السلطة أن تصور نفسها بأنها تبدأ عهدا جديدا، وتمد الجسور مع قوى المعارضة.
لنصبح مجرد عمال!
ولأنني أعددت نفسي لأكون صحفيا، فقد تحملت الألم، وأنا أتابع المشهد، وأقرأ الصحف التي تسيطر عليها السلطة وما يكتبه المنافقون فيها عن عبقرية السادات وحكمته، ويقترح أحدهم أن يتم تزويج العبقرية اليهودية برؤوس الأموال الخليجية والعمالة العربية لتحقيق التنمية.
كان ذلك الاقتراح يشكل صدمة واهانة لكرامة إنسان يعتز بأصله العربي، ويفخر بثقافته ولغته العربية، وانتمائه إلى خير أمة أخرجت للناس.
لذلك حرصت على المشاركة في كل مظاهرات الطلاب ضد اتفاقية كامب ديفيد، مما أدى إلى أن تضعني أجهزة الأمن في القائمة السوداء، وتعارض تعييني معيدا في كلية الإعلام رغم أنني الأول علي الدفعة، ويجب تعييني بقوة القانون.
لكن تم اغتيال السادات عام 1981، فتم تعييني؛ حيث أرادت السلطة أن تصور نفسها بأنها تبدأ عهدا جديدا، وتمد الجسور مع قوى المعارضة.
ثقافة المقاومة تفتح آفاقا جديدة!
بدأت أفكر في تطوير ثقافة المقاومة، وجاءت انتفاضة أطفال الحجارة لتفتح المجال لتحديد أهداف جديدة للحياة، فبذلت كل جهدي لدراسة الثورة الجزائرية، فملأت هذه الثورة نفسي عزة وفخرا.
كانت النتيجة التي توصلت لها من هذه الدراسة أن الأمة الإسلامية لن تخرج أبدا من التاريخ، وأنها ستظل فاعلة فيه، وأنها يوما سوف تستعيد قوتها لتغير الواقع وتبني المستقبل.
إن هذه الأمة تحمل رسالة الله الخاتمة للبشرية، ووصفها الله سبحانه وتعالي بأنها "خير أمة أخرجت للناس"؛ لذلك فإن القرنين السابقين هما فترة عابرة في تاريخ البشرية، واستثناء من الأصل، ومحنة تعرضت لها الأمة لتعود إلي الله، ولتستعيد وعيها بوظيفتها الحضارية.
الأحداث التي يشاهدها العالم منذ 7 أكتوبر، تشرين الأول حتى الآن تقدم البراهين العملية على صحة النظرية، فأبطال المقاومة الفلسطينية امتلكوا الإرادة والقدرة على الفعل؛ عندما حرروا أنفسهم من الهزيمة النفسية، وتعلقت قلوبهم بالله الواحد الأحد
ثقافة المقاومة تعيد الوعي للأمة
الهدف الرئيس لثقافة المقاومة هو أن تعيد الوعي للأمة، وتحررها من الهزيمة النفسية، وتعيد لها مشاعر الفخر بالانتماء للإسلام عقيدة وحضارة وثقافة وهوية وتاريخا ومستقبلا.
والأمة الإسلامية تستطيع أن تبني قوتها الصلبة، وتنتج سلاحها وغذاءها ودواءها عندما تنتفض، وتقهر مشاعر الخوف والعجز، وتدرك أنها بإيمانها تستطيع أن تبني المستقبل وتحقق الانتصارات، وأن إسرائيل لن تستطيع مواجهة الأبطال المسلمين الذين يؤمنون بقوة الله، وبأن النصر بيده وحده.
برهان عملي على صحة النظرية!
الأحداث التي يشاهدها العالم منذ 7 أكتوبر، تشرين الأول حتى الآن تقدم البراهين العملية على صحة النظرية، فأبطال المقاومة الفلسطينية امتلكوا الإرادة والقدرة على الفعل؛ عندما حرروا أنفسهم من الهزيمة النفسية، وتعلقت قلوبهم بالله الواحد الأحد، الذي خلق هذا الكون، ولا يحدث في كون الله إلا ما يشاء.
والله يصطفي من عباده الشهداء لتضيء دماؤهم للمؤمنين طريق الحرية والتحرير، فينطلقون ليقاوموا ظلم الاحتلال الإسرائيلي الذي يستخدم قوته الغاشمة في الإبادة والتدمير والتخريب.
ثقافة المقاومة وبناء المستقبل!
لذلك لا يمكن تصوير انتصار المقاومة بحساب خسائر العدو رغم أهميته في رفع معنويات المسلمين، لكن المقاومة انتصرت عندما تمكنت من تحرير ملايين المسلمين من الخوف، وأعادت لهم الشعور بالقدرة على الفعل والتغيير وبناء القوة وتحقيق الانتصارات، وأعادت لهم مشاعر التعاطف والتوحد مع شعب فلسطين.
بذلك أسقطت المقاومة الفلسطينية منذ 7 أكتوبر، تشرين الأول مخططات أمريكا وإسرائيل التي كانت تستهدف استعباد العرب بمشروعات مثل صفقة القرن، وفرض الهيمنة الأمريصهيونية على المنطقة.
لذلك يجب أن تدرك أمريكا أن قوتها الغاشمة لن تمكنها من حماية إسرائيل، فالأمة انتبهت يوم 7 أكتوبر، تشرين الأول على حقيقة مهمة هي أنها يمكن أن تقاوم، وتستخدم ما تستطيع أن تعده من أسلحة لتحقيق انتصارات على كل المستويات.
أعادت لنا المقاومة الفلسطينية الأمل؛ فأوضحت أن الأمة الإسلامية قادرة على تحقيق النهضة والتقدم وتحرير فلسطين، وأنها يمكن أن تنتفض وتفرض إرادتها، وتختار لنفسها قيادات أصيلة تعبر بكل قوة عن حقها في الاستقلال والحياة الكريمة
والعالم يجب أن يدرك!
كما أن العالم كله يدرك الآن أنه تعرض لعملية تضليل، وأن وسائل الاعلام الغربية حرمته من حقه في معرفة حقيقة إسرائيل، وما ارتكبته من جرائم ضد الإنسانية، وأن الجيش الإسرائيلي مجرد قتلة ومجرمين يجيدون إطلاق الصواريخ من الطائرات فيدمرون العمران ويقتلون الأطفال والنساء؛ لكنهم جبناء لا يستطيعون القتال وجها لوجه، ورجلا لرجل.
لذلك سوف يتضامن كل الأحرار مع شعب فلسطين، وحقه في إقامة دولته المستقلة؛ باعتبارها الحل الوحيد الذي يمكن أن يحمي العالم من حرب عالمية ثالثة يمكن أن تتدفق فيها دماء الملايين.
ثقافة المقاومة والشعور بالأمل
أعادت لنا المقاومة الفلسطينية الأمل؛ فأوضحت أن الأمة الإسلامية قادرة على تحقيق النهضة والتقدم وتحرير فلسطين، وأنها يمكن أن تنتفض وتفرض إرادتها، وتختار لنفسها قيادات أصيلة تعبر بكل قوة عن حقها في الاستقلال والحياة الكريمة والحرية وتحرير الأوطان والإنسان.
وإعادة الأمل إلى نفوس دمرها اليأس منذ عام 1967 من أهم إنجازات المقاومة الفلسطينية، والذي يملك الأمل يستطيع أن يتحرر من الهزيمة النفسية ويقاوم وينتصر.
وأنت تتابع المشهد، يجب أن تفكر كيف يمكن أن تبني مستقبلك على ضوء الايمان بالله، وتملأ نفسك أملا في نصر الله، وثقة في أن هذا النصر سيتحقق، لكن الشرف والمجد سيناله الذين تحدوا قوة العدو الغاشمة، وحرروا أنفسهم من الخوف.
على ضوء دماء شهدائنا في غزة يمكن أن نرى بوضوح أن المحنة التي عاشتها الأمة الإسلامية تقترب من النهاية، وأن الأمة يجب أن تغضب لله وتنتفض وتقاوم وتعمل لانتزاع حريتها؛ فلقد قدمت المقاومة الفلسطينية القدوة والمثال لكل المقاتلين من أجل الحرية في العالم، وبذلك سوف يقود أبطال غزة حركات التحرر الوطني التي سترغم كل قوى الاستعمار على الرحيل.. ويومها سيعترف كل الأحرار بفضل المقاومة الفلسطينية التي قدمت البراهين على صحة ثقافة المقاومة.
من يريد أن يرى هزيمة الاستعمار والاحتلال والطغيان والقوة الغاشمة يمكن أن ينظر إلى وجوه النتن ياهو وقيادة جيشه ليرى الكآبة والحزن واليأس والهزيمة، ثم لينظر إلى وجوه شهداء فلسطين ليرى الابتسامات الجميلة، ونور الإيمان، ويمكن أن ينظر أيضا إلى أصبع أبي عبيدة الذي يتحدى به القوة الغاشمة، ويشهد به أن لا إله إلا الله.