شعار قسم مدونات

مخيم العروب.. سطور مجد كتبت بدماء أقمارهِ الشهداء

blogs مراد أبو غازي

أَنَا الَّذِي وُلِدَ فِي خَيْمَةِ اللُّجُوءِ، أَنَا الَّذِي صَنَعْتُ مِنْ طُوبِ بَيْتِي سُقُفًا لِأَحْلَامِي، أَنَا لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ إِلَّا المُكُوثَ فِي مَحَطَّةِ الاِنْتِظَارِ لِحِينِ وُصُولِ قِطَارِ العَوْدَةِ. تَابَعْتُ كِتَابَاتِي لِأَرْوِيَ قِصَصًا رَأَيْتُهَا بِأُمِّ عَيْنَي، بَدَأْتُهَا فِي اِسْتِشْهَادِ الفُؤَادِ.. وَمَا أَنْ أَكْتَمِلَ اللَّيْلُ حَتَّى حَمَّلَتْ السَّمَاءُ البَدْرَ عَالِيًا، سَمِعَتْهُمْ يَقُولُونَ عَنْ عَزِيزٍ مُحَمَّدٍ، بُطْلُ جِبَالِ سعِيرٍ، سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ بِأَنْ ذَخِيرَتُهُ خَانَتْهُ بَعْدَ سَبْعِ سَاعَاتِ من المُوَاجَهَةٍ وَأَكْثَر، وَلَمْ تُحْسَمْ هَذِهِ المُوَاجَهَةُ إِلَّا بِسِلَاحِ الطَّيَرَانِ. طَائِرَةٌ صِهْيُونِيَّةٌ ذَاتُ صَنَعَ أَمْرَيْكِي أَطْلَقَتْ صَارُوخُهَا صَوْبَ المحمد لِيَكُونَ أَسَدُ الكَتَائِبَ فِي الخَلِيل.

بَقِيتُ أَقُصَّ بِقَلَمِي قِصَصًا لِهُمْ، وَمَا أَنْ أَقُومَ بِوَضْعِ نُقْطَةٍ لِنِهَايَةِ حِكَايَتِهِمْ فِي دَرْبِ هَذَا المُخَيَّمِ، حَتَّى تَتَجَدَّدُ سَاحَةُ الاِشْتِبَاكِ مِنْ جَدِيد، كُنْتُ حِينَهَا شَاهِدًا عَلَى الدَّبَّابَاتِ والمجنزرات وَحَظْرِ التَّجَوُّلِ فِي المُخَيَّمِ، عَتَبَاتُ المَحَالِّ التِّجَارِيَّةِ تَكَسَّرَتْ لِضِيقِ شَوَارِعِ المُخَيَّمِ، وَكَانَ هُنَاكَ شَابٌّ يُرَاقِبُ الجُنُودَ فِي الحَارَاتِ العُلْوِيَّةَ، بِالمُقَابِلِ ضَابِطٌ صهيونيٌ يَهْوَى القَتْلَ وَالقَنْصَ، وَفِي لَحْظَةِ رَفْعِ التَّجَوُّلِ رَفْعَ سِلَاحَهُ صَوْبَ العلاء وَأَرْدَاهُ شَهِيدًا. وَفِي الشَّارِعِ المُقَابِلِ كَانَ الخَالِدُ يُشْعِلُ فَتِيلَ المُوَاجَهَةِ بِنِيرَانِ زُجَاجَاتِهِ الحَارِقَةِ، كَيْفَ لَا، وَهُوَ مَنْ أَدْخَلَ هَذِهِ الثَّقَافَةُ عَلَى أَجْيَالِ المُخَيَّمِ، اُسْتُشْهِدَ خَالِدُ لَكِنَّ ثَقَافَتُهُ وَصَلَتْ لِثَائِرِ حلايقة وَخَالِدُ جوابرة وَمُرَادٌ أَبُو غَازِي وَمِئَاتُ الأَسْرَى مِمَّنْ اِحْتَوَتْ بُنُودُ لَائِحَةُ الاِتِّهَامِ عَلَى هَذِهِ الثَّقَافَةِ.

سَنَوَاتٌ وَالهُدُوءُ عَمَّ سَمَاءِ المُخَيَّمِ، غَابَتْ عَبِقُ الشَّهَادَةِ عَنْ حِوَارَيْهِ، بَدَأَ هَذَا المُخَيَّمُ أَكْثَرَ جِدِّيَّةٍ مِنْ ذِي قَبْل، كُنْتُ أُتَابِعُ عَامَ أَلْفَيْنِ وَثَلَاثَةَ عَشْرَ، وَكَأَنَّهُ عَامَ اِنْتِفَاضَةٍ وَتَحَوُّلٍ لِلمَشْهَدِ المُقَاوِمِ عُنْوَانِهِ مُخَيَّمِ العروب، شَمَالَ الخَلِيلِ. ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَهَذَا المُخَيّمُ يَحْمِلُ قَضِيَّةَ اللَّاجِئِينَ وَحَقَّ العَوْدَةِ فِي وَقْتِ التَّخَاذُلِ وَالتَّنَازُلِ. هَذِهِ السَّنَوَاتِ تَبَعهَا عامٌ كامل وَفِي شَهْرِ رَمَضَان وَعَلَى أَعْتَابِ العِيدِ، قَهْرٌ وَعَرْبَدَةٌ مُتَوَاصِلَةٌ وَاِنْتِهَاكٌ لِلبَشَرِ لَا يَتَوَقَّفْ، جَيْشٌ يَتَلَذَّذُ بِعَرْقَلَةِ حَرَكَةِ المُوَاطِنِينَ عَلَى هَذِهِ البَوَّابَة، يَتَجَوَّلُ بَيْنَ البُيُوتِ المُجَاوِرَةِ لِلشَّارِعِ الرَّئِيسِيِّ، وَكَانَ هُنَاكَ عِيدٌ أَرْدَا أَحَدُهُمْ عَلَى الأَرْضِ لَا يُقَوِّ عَلَى المُجَابَهَةِ.. لَكِنْ العِيدُ لَمْ يَمْلِكْ سِلَاحًا، بَلْ مَلْكَ سَاعِدَهُ مُقَابِلَ ثَلَاثُونَ رَصَاصَةٍ وَأَكْثَرَ حَتَّى اِرْتَقَى شَهِيدًا عَلَى وَجْهِ مِدْفَعِ الإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ.

أُذَكِّرُ جَيِّدًا خِلَالَ عَامَيْ أَلْفَيْنِ وَاِثْنَيْنِ إِلَى أَلْفَيْنِ وَسَبْعَةٍ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَطْلَبًا لِلجَمِيعِ. كَانَ المُخَيَّمُ فِي كُلِّ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ يَفْتَحُ بَيْتًا لِعِرَسِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَا الحَالِ مِنْ عَامِ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعَةٌ عَشْرٌ حَتَّى عَامِ أَلْفَيْنِ وَسَبْعَةٌ عَشْرٌ. لَكِنَّ فِي هَذِهِ الأَعْوَامَ وَدَعْنَا أَطْفَالًا وَشَبَابًا وَرِجَالًا كَانُوا قَدْ وَصَلَّوْ لِبَرِّ الأَمَانِ بِحَقِّ العَوْدَةِ، لَكِنْ هَذَا الحَقُّ يَحْتَاجُ للتَّضْحِيَةِ وَالفِدَاءِ.

 

عَادَ المُخَيَّمُ لِيَنْعَمَ بِالهُدُوءِ.. هُدُوءٌ مَا قَبْلَ العَاصِفَةِ، أَشْهُرٌ مَضَتْ وَتَمْضِي وَحَمَلَتْ بِرُكَبِهَا الطِّفْلُ الثَّائِرُ ذُو الخَمْسَةَ عَشْرَ عَامًا، مُرَادُ أَبُو غَازِي، وَهُوَ حَامِلًا لِزُجَاجَتِهِ الحَارِقَةِ، وَاُسْتُشْهِدَ عَلَى الفَوْرِ
عَادَ المُخَيَّمُ لِيَنْعَمَ بِالهُدُوءِ.. هُدُوءٌ مَا قَبْلَ العَاصِفَةِ، أَشْهُرٌ مَضَتْ وَتَمْضِي وَحَمَلَتْ بِرُكَبِهَا الطِّفْلُ الثَّائِرُ ذُو الخَمْسَةَ عَشْرَ عَامًا، مُرَادُ أَبُو غَازِي، وَهُوَ حَامِلًا لِزُجَاجَتِهِ الحَارِقَةِ، وَاُسْتُشْهِدَ عَلَى الفَوْرِ
 

فَالمُخَيَّمُ بِجَانِبِ حَقِّهِ الأَسَاسِيّ يَقِفُ مَعَ الشَّعْبِ الفِلَسْطِينِيِّ فِي مُطَالَبَةٍ وَحُقُوقِهِ وَكَذَلِكَ اِنْتِفَاضَاتِهُ، فَعَامُ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعَة عشر، وخمسة عَشْرٌ، وَسِتَّةٌ عَشْرٌ، وَسَبْعَةٌ عَشْرٌ، حَمَلْنَا عَلَى الأَكُفِّ مُحَمَّد عِمَاد.. ذُو الْكُوفِيَّةِ الحَمْرَاءِ المُجَابَهَةِ لِلعَدُوِّ، النِّدِّ لِلنِّدِّ، وَكَذَا الحَالُ خَالِد جوابرة.. ذُو الرُّوحِ الثَّائِرَةِ لِحَرَائِرِ الوَطَنِ اللّوَاتِي اِسْتَشْهَدْنَ عَلَى حَوَاجِزِ الاِحْتِلَالِ، وَذَاكَ الطِّفْلُ بِجِسْمِهِ وَالأَسَدُ بِفِعْلِهِ، عَمَّرَ مَاضِي.. وَالَّذِي حَفِظَ عَهْدًا مِنْ القُرْأنِ بِأَنَّ المَوْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ اِسْمِى الأَمَانِي، لِيَكُونَ عَلَى مُعَسْكَرٍ لِلاِحْتِلَالِ مواجهاً لِهُمْ بِحَجَرِهِ وَلِثَامِهِ.

 

وَكَانَ هُنَاكَ شَيْخٌ يَمْضِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِجَانِبِيَّ يَطْرَحُ عَلَيَّ السَّلَام، لَكِنَّ فِي الوَقْتِ الَّذِي رَدَدْتُ إِلَيْهُ تَحِيَّةَ الإِسْلَامِ كَانَ قَدْ وَصَلَ بِخُطُوَاتِهِ لِلمَدْخَلِ الرَّئِيسِ وَنَفَذَ عَمَلِيَّةَ طَعْنٍ لِجُنُودِ الاِحْتِلَالِ، وَاُسْتُشْهِدَ عَلَى الفَوْرِ، هَذَا الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ براذعية.. أَمَّا شَقِيقُهُ مُصْطَفَى المُعَلِّمُ وَالثَّائِرُ وَالمُرَبَّي للأجيال.. لَمْ يَتَوَانَى عَنْ الثَّأْرِ لِأَخِيهِ بِذَاتِ الطَّرِيقَةِ وَحِينَ اِسْتِشْهَادِهِ اِحْتَجَزَ الاِحْتِلَالُ جُثْمَانَهُ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٌ مُتَوَاصِلَة فِي ثَلَّاجَاتِهِ.

عَادَ المُخَيَّمُ لِيَنْعَمَ بِالهُدُوءِ.. هُدُوءٌ مَا قَبْلَ العَاصِفَةِ، أَشْهُرٌ مَضَتْ وَتَمْضِي وَحَمَلَتْ بِرُكَبِهَا الطِّفْلُ الثَّائِرُ ذُو الخَمْسَةَ عَشْرَ عَامًا، مُرَادُ أَبُو غَازِي، وَهُوَ حَامِلًا لِزُجَاجَتِهِ الحَارِقَةِ، وَاُسْتُشْهِدَ عَلَى الفَوْرِ، أُذَكِّرُ جَيِّدًا جَسَدُهُ النَّحِيفُ كَيْفَ صَارَ مُلَطَّخًا بِدِمَائِهِ فِي ثَوَانٍ مَعْدُودَةٍ، خَمْسُ رَصَاصَاتٍ وَأَكْثَرَ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ عَمَّرَهِ، وَأَقْوَى مِنْ جَسَدِهِ، لَكِنَّهُ وَاجَهَهُمْ بِرُوحِهِ الثَّائِرَةِ وَلَمْ يَتَرَيَّثْ لِشَيْءٍ آخَرَ.

هَذِهِ هِيَ قِصَّةُ المُخَيَّمِ مَعَ شُهَدَائِهِ الَّذِينَ كَانُوا عُنْوَانًا لِمَحَطَّةِ الاِنْتِظَارِ، مُخَيَّمٌ سَيَحْمِلُ صُوَرَهِمْ مَعَهُ حِينَ عَوْدَتُهِ لِدِيَارِهِ المُحْتَلَّةِ عَامَ ثَمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ، خَمْسُونَ شَهِيدًا وَأَكْثَرَ قَدَمُهِمْ هَذِا المُخَيَّمُ عَلَى مَذْبَحِ الحُرِّيَّةِ، وَكُنْتُ قَدْ رَوَيْتُ قِصَصًا لِمَنْ وَأَكْبِتُهُمْ فِي هَذَا المُخَيَّمِ. وَالبَاقِيَ حُفْرَتُ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِجِلَّاتِ التَّارِيخِ لِصُمُودِ هَذَا المُخَيَّمِ. مُخَيَّمُ العروب. قِلَعةُ السَّاجِدِينَ وَقِبْلَةُ الأَحْرَارِ وَصانعُ المَجْدِ.

ولم يكن جّدّي ليعلمَ بأن هناك أجيالاً حملوا حقَّ العودة بدمائهم وأجسادهم، وجزءٌ منهم دخلوا السجنَ عنوةً للدفاعِ عنه. كان يجلس دائمًا على عتبةِ بيته وينتظرُ الأطفال يأتوه ويشكلوا حلقةً حوله ليُحدِثَهم عن ذكرياته وعن بياراته وأراضيه، يريدُ أن يجعلهم في حاضرةِ الذاكرةِ الفلسطينية، كان يعلمُ جيِّدًا بأن الاحتلالَ سيعصف بأذهانهم مع مرورِ الوقت، لذا رأى من الضروري أن يُحدثهم لبعض الشيء عن هذا الحق، ليحفظوه كما حفظ غار حراء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام برفقة الصحابي أبا بكر الصديق. فحقُ العودة لا يسقطُ بالتقادم، فلا يزالُ يُروى بدماء الشهداء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.