شعار قسم مدونات

"زريقة إعلاميّة" في الذكرى السادسةِ للثورةِ التونسيّة

Blogs - Tunisia - Hijab
إثرَ ستِّ سنواتٍ سمانٍ وعجافٍ من تاريخِ المدِّ الثوريِّ تمخّضَ الإعلامُ فولّدَ إعادةَ وجوهِ العهدِ البائدِ. أطلّ علينا بلحسن الطرابلسي و سليم شيبوب وغيرهم لرفعِ الراية البيضاء.

إنّها عودةٌ من بابٍ كبيرٍ حاربَهم ذات يومٍ إثر رحيلِ المخلوعِ، إنّه الإعلامُ عندما يتلوّنُ تلوُّنَ الحرباءِ. وعادت الماكينةُ الإعلاميةُ لترسمَ صورةً مشرقةً لبعضِ من كانوا أداةَ قمعٍ وإرهابٍ بل وتخويفًا للشّعبِ. لكن أتنطلي الحيلةُ على شعبٍ عاشَ الثورة وخبِرَها طولاً وعرضًا شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.

عود على بدإ
نحتت في تضاريس الذاكرة عندما خرج الملايين يوم الرّابع عشر من جانفي سنة 2011. كان يوما مشهودا حين اجتمعنا في العاصمة بعد انفجار الوضع في الجنوب الغربي التونسي. نادى كلّ الشعب "ديقاج" لطرد بن علي و"أزلامِه" وأقاربِ زوجتِه. عصابة لم تحكُمِ البلاد وإنّما أفسدتها. بل إنّ صورةَ احتراقِ محمد البوعزيزي ثمّ صورة وقوفِ المخلوع بن علي في زيارةٍ له بمستشفى حيّنا ببن عروس، وعلى بعد خطواتٍ

تونس بعد أن ثارت، أمام تحدّيات عظام لا بدّ أن تعمل عليها لتخرجها من الضيق إلى أوسع الطريق فالعمل على جودة الإعلام وحرفيّته من أولى أولويّاتنا كي لا تضطرّ بعض القنوات إلى الاعتذار عن خطأ مهني يؤذي سمعتها

معدودةٍ من بيتنا، لهما أكبر معالمِ سقوطِ النظام.

كان الأمنُ الرئاسيُ والأمن التابعُ لوزارةِ الداخليةِ "الحَاكِمْ" هو الذي صوّبَ سلاحَه وقتَل بلا رحمةٍ ولا هوادةٍ وهو الذي تعوّد البطشَ وقد استلمَ من رئيسِه صكَّ أرواحِ كلّ من اعترضَ سبيلَهم ممّن واجهَ ببسالةٍ وبصدورٍ عاريةٍ. وانفجَر سيلُ الدّمِ القاني ليرويَ العلمَ المفدَّى.

الهبّةُ الشعبيةُ كانت يتيمةً وفقدتِ الدّعمَ الإعلاميَّ لأنّ الإعلام في تونس كان مكبّلا رهين السّلطة آنذاك. وهذا ما جعل منها إلهاما جماهيريا لم يقف وراءَها حاكمٌ أو زعيمٌ أو حتى مؤسسةٌ مدنيةٌ أو وسيلةٌ إعلاميّةٌ. نداءاتٌ لمليونيّاتٍ في كافّةِ أرجاءِ البلادِ عبر الفايس بوك. وكلٌّ كانت لهُ أسبابهُ للخروج فالذي سُجِنَ أو هُجِّرمعظمُ أهلِه، وهناك من يعيشُ البطالةَ وهو الذي يعلّقُ على جدرانِ غرفتِه عشراتِ الشهاداتِ التي قد تبلغُ الدكتوراه. ومنهم من خرج لأنّه ظُلمَ في ممتلكاتِه ووو.. والحالاتُ للحصرِ لا للعدِّ.
فهل ينسى الشعبُ التونسيُّ هذه الملحمةَ بتبييضِ بعضِ الوجوهِ.

الإعلامُ المتلوِّنُ
خبِرْنَا المشهدَ الإعلاميَّ كيف يصنعُ وكيف يتكوّنُ كفكرةٍ ربّما يعيشُ عليها أجيالٌ بأكملِها، 23 سنةً حكم فيها بن علي فصنعَ جيلاً من الشبابِ موجّها للتسلية والمتعة والتمييع. عبر قنوات مفرغةٍ من المضمونِ فكانت قناة 21 للشباب خيرَ شاهدٍ وذلك عبرَ برامجِها المقتصرة على الرياضةِ والفنِّ والألعابِ، وهي صناعةٌ بنفسجيّةٌ خالصة (لون شعار الحزب الحاكم آنذاك).
هذه القنواتُ حكمتْ بطريقةٍ أو بأخرى مع المخلوعِ وكانت مصدحَهُ ومصدحَ "التغيير" الفكرةُ التي رفعَها ذاتَ يومٍ ليكسبَ الرّهانَ الانتخابيَّ منذ ثلاثينَ سنة ويقنعَ منتخبيهِ بدولةِ الأمنِ والأمانِ. ثمّ صيّرها جحيما مذ ذلك العهد.

رأينَا نفسَ الإعلام يتبرّأُ من هذه التّبعيّةِ للمخلوع الفارِّ. ويبرِّئ ذمّتَه ويتحجّجُ بأنه كان يعمل تحت ضغوطِ السلطةِ والقمعِ. فأصبح يسبُّ النظامَ البائدَ بل ويلعنُه، فالمشهدُ الإعلاميُّ التونسيُّ مرَّ بعديدِ المنعرجاتِ الهامّةِ منذ الثورة إلى اليوم. ولا يخفى على المتابعين عن كثبٍ كيف شكّلَ أداةً فعّالةٍ أثناء الفترة الانتقاليةِ في التغييراتِ السياسيةِ التي حدثت في البلاد من بينها سقوط حكومتيْنِ. هذا طبعا بالتوازي مع الأحداثِ الارهابيةِ أو العمليّاتِ الاغتياليةِ التي وقعت.
هيئة وسلطة

وكان تأسيسُ الهيئةِ العليا المستقلّةِ للاتصال السمعي والبصري منذ 2013 قرارًا حكيما لتأمينِ الفترة الانتقاليةِ للمشهدِ الإعلاميِّ وتنظيمِ وسائلِ الإعلامِ العموميِّ منها والخاصِّ. وشكّلتْ لفترة وسيلةً فعّالةً لعدم انحيازِ الإعلامِ عن مساره. لكن نلاحظ أنّ دورها اليوم قد تراجع وعادت الدولة اليوم إلى تنظيم وتجديد قطاع الإعلام عبر بعض القوانين والقرارات التي أصدرها المجلس الوزاري المضيق المتعلق بالقطاع على لسان رئيس الحكومة. يوم الرّابع عشر من جانفي-يناير.

ربّما السؤال المطروح هو من المسؤول عن عودة بعض وجوهِ النظام السّابق لتصدّر الشاشة. وهل أنّ حريّة الإعلام تمسح قائمة الشهداء والمتضرّرين على حساب هؤلاء. وكيف لبعض من هظم حقّه من قبلهم أن يرى صوت صاحب المشنقة يصل الإعلام قبله.

صحيح أنّه إثر الثورة تكاثرت وسائل الإعلام وتعدّدت البرامج الحوارية والسياسية بصفة خاصّة وكانت هذه البرامج مثل المنتديات الفكرية التي تطرح الرأي والرأي الآخر. وسمح للجميع بأن يدلي بدلوه في الإعلام سواء العمومي أو الخاص. وتحدّث الإعلام في مواضيع كانت قبل الثورة من التابوهات والممنوعات. وهذا مكسب ثوريّ لا نتنازل عنه.

هل تمرّ "الزرّيقة"؟
لكن العودة لإبراز بعض الشخصيات التي لا يخفى على أحد تورّطها مع النظام السابق هو مثل الحقنة تحت الجلدية لتمرير بعض الرسائل. أهمّها أنّ عودة هذه الشخصيّات هو أمر طبيعي وسيقبله ويتعوّد عليه الشعب التونسي مثلما قبل بعودة ببعض الوجوه السياسية التي عملت جنبا إلى جنب مع بن علي. خاصّة مع بعض التصريحات الضمنيّة من هنا وهناك لإعلاميين وسياسيين تمجيدا لبن علي وأيّامه.
فالتونسيّ الذي صعد في جلسات الاستماع التي نظّمتها هيئة الحقيقة والكرامة، مؤسّسة حقوقية، منذ أشهر وأيّام قريبة. وسمعه القاصي والدّاني في اعترافات تشرح ممارسات قبل الثورة، أبكت الملايين ليس من التونسيين فقط وإنّما من أرجاء العالم. عبر وسائل إعلام تونسية وعربية وأجنبية. ربّما يتصوّر البعض أنّه استوفى حقّه وآن الأوان للاستماع إلى الجلاّد.

لكنّ أنّى يستويان!.
ولا نستطيع أن نختصر صعوبات الإعلام في تونس عند هذا المستوى بل هي تتشعّب لتصل إلى عجز عدد كبير من وسائل الإعلام التي نشأت بعد الثورة أن تحقّق وجودها ومكانها في هذا المشهد الإعلامي. سواء نتيجة توجّهها أو بسبب عجز ميزانياتها، بل أغلق عدد منها لكنّ المتضرّر الأّوّل والأخيرهم الصحفيون.

ولازالت تونس بعد أن ثارت، أمام تحدّيات عظام لا بدّ أن تعمل عليها لتخرجها من الضيق إلى أوسع الطريق فالعمل على جودة الإعلام وحرفيّته من أولى أولويّاتنا كي لا تضطرّ بعض القنوات إلى الاعتذار عن خطأ مهني يؤذي سمعتها. مع الحذر من تنازل الإعلاميين للعودة مرّة أخرى إلى مربّع سيطرة المؤسّسات الإعلامية ورأس المال أو السلطة القائمة نفسها لضرب الحريّة الإعلاميّة، الموضوعية وكذا المصداقية.

اليوم، طرح قضايا إنعاش الاقتصاد وإصلاح البنية التحتية للبلاد وتقوية المؤسسات أهمّ من معالجة الخلافات السياسية التي أغرقت التغطية الإعلاميّة. والحديث عن العمل لإعادة تأسيس البلديات وتنظيف الأحياء لها من الأهميّة مثل تنظيف مجلس الشعب والأحزاب من الأفكار المتطرّفة. بل التركيز على المنظومة القيميّة التي توحّد الشعب التونسي أكثر فاعلية من إثارة فزّاعة الإرهاب أو استفزاز مشاعر التديّن لديه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.