صورة عامة / الكتاب خير جليس
الكتاب خير جليس

إرث ابن خلدون ج1

تتناول الحلقة إرث ابن خلدون، فبعد ستمائة عام على رحيل ذلك المفكر والفلسفي والسياسي, ما هي فاعلية فكره في وقتنا حاضرنا؟

– ابن خلدون والاشتباك مع اللحظة الراهنة
– نظرية الدولة وتبرير الاستبداد

undefined

خالد الحروب: مشاهديّ الكرام مرحبا بكم إلى هذه الحلقة من برنامج الكتاب خير جليس، في هذا المكان العريق في تونس بيت الحكمة المُجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون حيث يحضر التاريخ والتراث ويتجادلان اليوم مع الحداثة والتنوير والمطل على البحر الأبيض المتوسط التقى مفكرون ومثقفون من على ضفتي البحر ليناقشوا فكر العلامة ابن خلدون في مؤتمر دولي بمناسبة الذكرى المئوية السادسة لوفاته.

في تونس وُلد ومنها اتجه غربا إلى الأندلس ثم شرقا إلى مصر وعاش حياة حافلة ازدحمت فيها السياسة بالفكر بالفلسفة بالقضاء وخلالها وعندما كان في أواسط العِقد الأربعيني من عمره ألَّف مؤلفه العبقري مقدمة ابن خلدون، كتبها في أربع سنوات وتجاوز عدد صفحاتها الثمانية آلاف، قال عنه آرنولد توينبي المؤرخ البريطاني المعروف أنه أعظم عقل عرفته البشرية، لكن ما هي راهنية ابن خلدون في الوقت الحالي؟ وهل مازال لفكره ونظرياته نفعٌ للعرب والمسلمين خاصة بعد التقدم الفكري والفلسفي والاجتماعي في سائر العلوم؟ هذا السؤال المركزي سوف نناقشه مع ضيفين أستاذين من حَمَلة لواء الفكر والفلسفة في تونس ابن خلدون هنا أستضيفهما في تونس فأهلا وسهلا بهما، الأستاذ عبد الوهاب بو حديبة الباحث والأكاديمي ومدير بيت الحكمة فأهلا وسهلا به، الأستاذ بو حديبة مؤلف معروف وعالم اجتماع في تونس ومن مؤلفاته العديدة المشهورة الجنسانية في الإسلام وقد صدر منذ سنوات عديدة ونال شهرة عالمية واليوم يصدر باللغة العربية بعد مرور ربع قرن على طبعته الأولى بالفرنسية وحينها شكل حدثا فكريا متميزا باعتبار أن المؤلف كان قد اعتمد في تحليله منهجا علميا دقيقا ورؤية نقدية مفصِّلة للاتجاهات النفسية والدينية التي تطرحها قضية الجنس في الإسلام وحيث يبحث في الجنس والمقدَّس ضمن علاقتهما المتبادلة داخل المجتمعات العربية والإسلامية وكذلك بين يدي كتاب آخر ساهم في تحريره الأستاذ عبد الوهاب بو حديبة عنوانه ثقافة الاقتصاد وفي هذا الكتاب يسعى المؤلف للتعمق فيما تقتضيه الثقافة من مستلزمات معرفية متجددة هي أساس كل حياة اقتصادية وذلك أمام محاولة البعض اعتبار الثقافة بضاعة خاضعة لقانون العرض والطلب وتُعامَل بمعايير السوق، أستضيف الدكتور أبو يعرب المرزوقي وهو باحث مختص في الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية وحاضَرَ في جامعات عديدة فأهلا وسهلا به وقد كتب المرزوقي عن ابن خلدون ودرس فكره بعمق وأصدر عنه كتابين ضمن إصداراته المختلفة، الكتاب الأول عنوانه الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر وفيه يتعرض لما يسميه جوانب الثورة الخلدونية ومشاغل ابن خلدون القريبة من ذاته وموضوعه ومن تلك الجوانب دور وفشل المثقف في السياسة نظرا لافتقاده إلى العصبية التي اشترطها ابن خلدون وهناك أيضا في هذا الكتاب التنظير الخلدوني الشهير لعلم العمران الإنساني والحاجة إلى قراءة التاريخ قراءةً عقلانية اجتماعية، أما الكتاب الثاني فعنوانه المفارقات المعرفية والقيمية في فكر ابن خلدون وفيه يتوقف المرزوقي عندما اتسم به منهج ابن خلدون من مفارقات نظرية وعملية قياسا بالفلسفة الأفلاطونية والأرسطية وكذلك إعادة ترتيب المسائل الفلسفية بتقديم المسألة العملية على المسألة المعرفية والقيمية الوجودية وأهمية معالجة المسألة العملية بكونها مسألة تاريخية لا مجرد تصور ذهني، الأساتذة الأفاضل أهلا بكم في تونس.

عبد الوهاب بو حديبة: مرحبا بك..

خالد الحروب: أستاذ عبد الوهاب إذا بدأت معك حول الاحتفالية نفسها وحول السؤال لماذا ابن خلدون الآن؟ وهل مازال عصريا وهل مازال ذي فائدة علمية ومعرفية؟

ابن خلدون والاشتباك مع اللحظة الراهنة

"
مناقشة فكر ابن خلدون في مؤتمر دولي بمناسبة الذكرى المئوية السادسة لوفاته هدفها إعطاء المفكر العربي مرجعية عربية انبثقت من خصائص المجتمع العربي، والاستنارة بآراء ابن خلدون
"
   عبد الوهاب بو حديبة

عبد الوهاب بو حديبة- أكاديمي وباحث ومدير بيت الحكمة – تونس: هو عصري في أكثر مما كان عليه وما كنت أتصوره، لا أدخل في تفاصيل النظريات الخلدونية، سيقدم صديقي وزميلي الأستاذ أبو يعرب ما استنتجه هو بذكاء ولباقة من التراث الخلدوني حتى يخرج من سجل التراث ويدخل في سجل الحداثة، الذي أردناه بهذه التظاهرة هو في حقيقة الأمر يتنزل في قضيتين أساسيتين، أولا قضية إعطاء المفكر العربي مرجعية عربية انبثقت من مجتمعه ومن خصائص المجتمع العربي، نحن نحاول أن نفهم المجتمع العربي الحالي باستعمال مفاهيم انصهرت اجتماعيا في المجتمعات الغربية في حين أن المفاهيم الخلدونية انبثقت من مجتمعنا وقد يمكن أن تُعبر بالدرجة الأولى عن مشاغل المجتمعات العربية واستمراريتها، أردنا أن نربط الحاضر بالماضي والقضية الثانية أعتقد أننا في حاجة عميقة مُلحة كبيرة لأن نستنير بآراء ابن خلدون، نحن في أزمة عظيمة تضاهي الأزمة التي عاشها ابن خلدون وربما أقول إنها نفس الأزمة، أي أننا منذ قرون نكرر ونعيد ونقتبس من هنا ومن هناك ولكن المجتمعات العربية لم تجد إلى حد الآن مخرجا لأسباب تاريخية وموضوعية مختلفة.

خالد الحروب: إذا سألت الأستاذ أبو يعرب المرزوقي حتى فقط ندخل في النقاش، أحيانا هل نهرب من فشلنا الفكري العام إلى نجاحات ابن خلدون ونستدعيه من القرن الرابع عشر حتى نحاول أن نستنير بفكره، ما الذي يحدث يعني من ناحية إبستمولوجية من ناحية معرفية كلما تعرضنا لأزمة كما ذكر الأستاذ عبد الوهاب نذهب إلى ابن خلدون أو ابن رشد أو الغزالي أو سوى ذلك؟

أبو يعرب المرزوقي- أكاديمي مختص في الفلسفة الإسلامية واليونانية: نعم، أولا هذا.. هذه العودة إلى التأصيل في الفكر الفلسفي أو الديني ليست خاصة بالعرب والمسلمين فجميع الحضارات انبعاثاتها وفتح الآفاق الجديدة في تاريخها تكون دائما بالعودة إلى إعادة تأويل الأصول، حتى ما يسمى بالحداثة لو نظرنا إليه لوجدناه جوابا عن سؤالين، ما هي الأبواب التي سدها الماضي؟ وكيف يمكن أن نفتحها بإعادة تأويل المبادئ التي انطلق منها؟ وسأضرب مثالين، مثلا هناك بابان سدهما الفكر الوسيط وقامت الحداثة الغربية بإعادة فتحهما، الباب الأول هو الباب الذي تمثل في اعتبار أن دراسة اللامتناهي في الرياضيات مستحيلة فاستعاضوا عنه باللامتناهي بالقوة بديلا من اللامتناهي بالفعل وكان الحل أن اكتشفت الرياضيات في القرن السابع عشر خاصةً إمكانية علاج اللامتناهي بالفعل وهذا يسمى حساب التكامل والتفاضل، أما اللامتناهي الثاني الذي أُلغي كذلك في الفلسفة القديمة فهو محاولة اعتبار الفلك البطليموسي إمكانية من الإمكانيات النظرية لفهم الكون الطبيعي لكن قوة النسق البطليموسي والتأسيس الأرسطي للنسق البطليموسي فيما بعد في الفلسفة الوسيطة جعل هذا النسق يصبح كأنه حقيقة نهائية، حدثت الحداثة بتجاوز الفلك البطليموسي، إذا أتينا لابن خلدون الآن فابن خلدون..

خالد الحروب [مقاطعاً]: بإيجاز يعني..

أبو يعرب المرزوقي [متابعاً]: نعم، بسرعة.

خالد الحروب: أنا أعرف أن الموضوعات هاي معقدة..

أبو يعرب المرزوقي: بسرعة كثيرة وفي متناول الجميع..

خالد الحروب: وبأيسر بما تستطيع دكتور أبو يعرب.

أبو يعرب المرزوقي: نعم، ابن خلدون وجد أمرا كان يعتبر مستحيلا في وقته، كيف يمكن للتاريخ أن يكون علما؟ الفلسفة كانت تعتبر ذلك مستحيلا والفكر الديني أيضا كان يعتبر ذلك مستحيلا، الفكر الديني لأن التاريخ بمشيئة الله والفكر الفلسفي لأن التاريخ يتعلق بالأحداث التي لا تنضبط، فقال ابن خلدون إن ذلك يمكن أن يصبح ممكنا إذا وجدنا علما أداةً يُمكِّن من نقد الخبر التاريخي وهذا العلم الأداة الذي يُمكِّن من نقد الخبر التاريخي هو علم العمران البشري والاجتماع الإنساني.

خالد الحروب: نعم، هذا جميل وواضح، عبد الوهاب بو حديبة هناك إحدى المقولات المشهورة عن ابن خلدون وتتردد دائما أن.. مقولته إن المغلوب يُقلد الغالب والحضارة القائدة تقريبا هي تعتبر النموذج وسواها من الحضارات التي خلفها تحاول تقليدها، أحيانا قد يتبادر إلى الذهن أن مثل هذه المقولة قد تتحول إلى عَقَبة معرفية، أنك تريد أن.. لا تريد أن تخضع لهذه المقولة ولا تريد أن تقلد الغالب؟

عبد الوهاب بو حديبة: هو بالفعل الذي نشاهده في مجرى التاريخ العربي وغير العربي الطويل هو أن الغالب بحكم مكانته يفرض بصفة أو بأخرى على المغلوب ولكن لا ننسى وعبد الرحمن بن خلدون لم ينس ذلك أن الجدليات وأن الانتفاع بالآخر في اتجاهين اثنين، أي أن هناك مقولة الحكماء هم الذين يتابعون أهل السياسية والناس على دين أمرائهم ولكن المقولة الأخرى، الأمراء هم على دين شعوبهم، لأنهم يريدون أن يكسِبوا الأنصار أن يتقربوا إليهم، هناك عمليات جدلية وهذا لم يغب بتاتا عن النظرية الخلدونية الذي نجده عند ابن خلدون وهو أمر شيق هي مفاتيح، الذي يمكن بالنسبة إليه وهذا ما درَّسته طويلا لطلابي في الجامعة هو أن ابن خلدون أتى بنظريات واتخذ مواقف ولكن توصل إلى هذه النظريات وهذه المواقف بفضل منهجيته والذي هو أهم من الاستنتاج الطريق الذي يؤدي إلى الاستنتاج وهذه المنهجية تمثل في نظري الرسالة الخالدة لعبد الرحمن بن خلدون.

خالد الحروب: اسمحوا لنا أن نتابع بعد توقف قصير، مشاهدينا الكرام نكون معكم بعد توقف قصير.

[فاصل إعلاني]

خالد الحروب: مشاهدينا الكرام مرحبا بكم، مرة ثانية نواصل معكم حلقة اليوم ونقدمها لكم من بيت الحكمة من تونس عن العلامة بن خلدون، أبو يعرب المرزوقي أريد أن أسألك عن مسألة أيضا أساسية ودائمة التردد وهي مسألة العصبية في الفكر الخلدوني والنظر لها باعتبارها محركا للتاريخ والوصول إلى السلطة وصراع بين عصبيات يفوز بها الأكثر غلبة وقوة؟ ألا يعتبر هذا نوع من التبرير، الاستبداد إذا استُخدم راهنا في الوقت الحالي؟

نظرية الدولة وتبرير الاستبداد

"
العصبية في الفكر الخلدوني أوضحت أن النوع الطبيعي من العمران البشري ينبني على العصبية ولكن النوع الذي يتطور إليه العمران ويسعى إليه يكون عقليا ودينيا
"
    أبو يعرب المرزوقي

أبو يعرب المرزوقي: نعم، يمكن أن يُعتبر كذلك لو كان ابن خلدون قد قال ذلك، لكن ابن خلدون لم يقل أبدا أن العمران البشري ينبني على العصبية فحسب، قال إن النوع الطبيعي من العمران البشري ينبني على العصبية ولكن النوع الذي يتطور إليه العمران ويسعى إليه يمكن أن يكون عقليا ودينيا بحيث إن العصبية من حيث هي الأساس العضوي تحتاج إلى شرعية تستمدها من القوانين العقلية وهي القوانين السياسية العقلية ومن القوانين الدينية والقوانين السياسية العقلية تتعلق بما يمكن أن يسمى الوازع الخارجي أو القانون الوضعي إن شئنا، أما القوانين الروحية فهي تتعلق بالوازع الباطني ومن ثم فإن العمران البشري ينبني على ثلاثة مبادئ، مبدأ طبيعي هو العصبية لكن هذا المبدأ الطبيعي لا يستقر ويصبح عمرانيا إلا إذا انتظم في سياسة عقلية ودينية إما بالجمع أو بالفصل.

خالد الحروب: نعم، بناءً على ذلك لكن باختصار شديد أبو يعرب، هل هناك نظرية للدولة عند ابن خلدون بالمعنى الحديث للمفهوم؟

أبو يعرب المرزوقي: هناك نظريتان للدولة، هناك النظرية الإيجابية التي وصف بها الدولة الحاصلة فعلاً في التاريخ الإسلامي وهناك نظرية سلبية يمكن أن نستنبطها من نقده لهذه الدولة وهذه النظرية السلبية هي المثال الذي يعتبر إصلاح العمران شرطاً لها..

خالد الحروب: إذا..

عبد الوهاب بو حديبة: إضافة لو سمحت..

خالد الحروب: تفضل.

عبد الوهاب بو حديبة: وراء العصبية ووراء الدولة هناك شيء مهم جداً هو اكتشاف أن الحياة والحضارة ينبنيان بالذات وأولاً على العلاقات الاجتماعية وهذا ما اكتشفه الغرب في نهاية القرن التاسع عشر وقضاء كامل القرن العشرين يبحث في نوعية العلاقات بين الأفراد وبين المجموعات وهذا الذي أسس عليه بن خلدون وراء نظرية العصبية والدولة والتنظيم والحكم إلى آخره.

خالد الحروب: انطلاقاً من هذا وإذا عدنا إلى عصر ابن خلدون وعندما بدأ بنظريته، لماذا لم يترسخ الفكر الخلدوني في سياق الصيرورات الفكرية العربية والإسلامية كما لم يترسخ ربما يقول بعضهم الفكر الراشدي مثلاً أو سوى ذلك سيد عبد الوهاب؟

عبد الوهاب بو حديبة: الأسباب كثيرة، أولاً عاش ابن خلدون مثل ابن رشد مثل الشاطبي في فترة تاريخية تغلبت فيها أهمية العلاقات الاجتماعية الميكانيكية الآلية على العلاقات الاجتماعية الأخرى وكان في صراع مرير مع ابن عرفة في تونس والمجتمع العربي في تونس لم يجد صورة لنفسه إلا في نظريات وفي مواقف ابن عرفة فكان بن خلدون أحد القطبين الذين يتأرجح بينهم الفكر عامة والفكر العربي الإسلامي، الفكر النيِّر المتفتح العقلاني والفكر الذي يحاول أن يضع العلاقات الدينية والإيمان والماورائيات في مُصدَّرة أهميات المجتمع.

خالد الحروب: نعم، أبو يعرب المرزوقي أسألك عن فكرة جميلة ومثيرة أيضاً ولها وطيد الصلة بالسجالات الإسلامية في الوقت الراهن وعلاقتها بالسلطة، تقول إن بن خلدون عملياً دحض فكرة الاصطفاء الديني في فصل التصوف وفصل نفي الحاجة للاصطفاء والدين في التشريع لأن القوة وحدها كافية وحتى وإن كانت الشرائع الدينية يمكن أن تضيف بُعدا مُكملاً وتقول إن هذا يعني تكريس للموقف السني من مسألة الإمامة باعتبارها ليست جزءا عَقديا ليست جزءا من العقيدة وربما دحض الموقف الشيعي الذي يقول إن فكرة الاصطفاء والإمام هي في صلب العقيدة؟

أبو يعرب المرزوقي: نظراً.. يمكن أن ننسب هذه الفكرة إلى ابن خلدون إما من حيث هو أشعري أو من حيث هو فيلسوف، فمن حيث هو أشعري وسني بصورة عامة السياسة والدولة من المصالح العامة وهي من اختيار الأمة وليست أمرا ينتسب إلى العقيدة، هذا ما يتميز به علم الكلام السني عامة بحيث كلامياً وعَقدياً موقف ابن خلدون ينتسب إلى النظرية الأشعرية ولكن ليس هذا هو المهم.. المهم هو الدليل الفلسفي على ذلك والدليل الفلسفي على ذلك عند ابن خلدون استقرائي ولكن هو عندئذ لا يعني الدين بإطلاق وإنما الدين الذي له سلطة روحية، أما الدين من حيث هو تعبد طبيعي عند الإنسان بدون سلطة روحية تتوسط بين الإنسان والله فهذا لا يخلو منه مجتمع ولا يمكن لدولة أن تقوم بدونه لأنه هو الوازع الداخلي يعني القانون يضبط العلاقات الخارجية بين البشر ولكن يمكن أن نتحايل مع القانون ولا نستطيع أن نتحايل مع الضمير.. الضمير وازع داخلي ويؤيده العقيدة الروحية، بهذا المعنى الدين لا يخلو منه نظام ولكن بمعنى السلطة الدينية التي تواجه الدولة يقول ابن خلدون إننا في غنى عن ذلك..

عبد الوهاب بو حديبة: ابن خلدون لم يمزج أبداً ثلاثة أشياء نخلط بينهما اليوم ونخبط خبط العشواء، العقيدة الشريعة الفقه يميز بينهما لأنه كان يتعامل مع واقع اجتماعي..

خالد الحروب: فلذلك هو أيٌ من.. أيها كان يُقدِّم على الآخر أم أن لكل منهم مجاله الخاص؟

عبد الوهاب بو حديبة: في تحليله يعطي الأولوية لهذا أو لذاك حسب الواقع الاجتماعي، أما في نظره الخاص كفيلسوف ومفكر وعبقرية ملتزمة فإني أعتقد أنه يميز العقل على كل شيء العقل والنقد والموضوعية.

خالد الحروب: نعم، أنا أريد أن أسأل أبو يعرب المرزوقي مرة أخرى حول الكتاب الأخير الذي أشرت له في المقدمة لأنك تقدم نظرة جديدة لقراءة ابن خلدون وتقول إنه يعني قدَّم منهجا جديدا إصلاح في القيمة وإصلاح في المعرفة، أترك لك أن تقول لنا ما هي النظرة الجديدة؟ ما هي الإضافة إلى تحليل ابن خلدون لكن لأن النص معقد في هذا أريدك أن تقدمه بأيسر طريقة ممكنة للمشاهد؟

أبو يعرب المرزوقي: ممكن بكلمة وجيزة أن نقول إن ابن خلدون حاول أن يُخلِّص علم العمران من المبدأين الأساسيين الذين بنى عليهم اليونان السياسة المدنية، السياسة المدنية بُنيت على بنية النفْس وبنية المنزل، الاقتصاد المنزلي وعلم النفس كما حدده أرسطو في كتاب النفس، هو يقول في المجتمع الأمر ليس ما يجري في النفس أو ما يجري في المنزل بل ما يجري بين النفوس وما يجري بين المنازل وهو الاجتماعي، الاجتماعي هو ما بين النفوس وما بين المنازل وما يجري بين النفوس هو الوجه الذي يتعلق بالتآنس والتنافس في المجتمع وما يجري بين المنازل هو الصدام على المصالح في العمران والصدام على المصالح يقتضي نظرية في الحقوق والصدام على المنازل يقتضي نظرية في الرُتَب، إذاً فالمجتمع ينبغي أن يُصلح نظرية حقوقية لحماية الحقوق حتى يحسم الصراع الاقتصادي في المجتمع ونظرية في الرُتب حتى يحسم التنافس في التآنس في الوجود مع البعض ومن ثم فإن الإصلاح القيَمي ينبغي أن يتعلق بالرزق وبالذوق، تبادل المعاني والقيم والرُتب وبالعمل، ما إحنا ينبغي أن يكون الأجر هو جهد العمل وهنا ينقد نظرية الجاه الذي يمكن أن يصبح آذنيا لا لشيء إلى لأنه قريب وزير أو قريب أمير أو قريب كذا، ينبغي أن تكون الثروة نسبية إلى العمل وهو الأول في التاريخ البشري الذي عرَّف نظرية القيمة بأنها مقدار كُلفة إنتاج البضاعة.

خالد الحروب: نعم، هذا شيء مهم، أستاذ عبد الوهاب بو حديبة منهج ابن خلدون منهج عملي وعقلاني وهو عمليا يهدف فضلا عن التوصيف لكن متضمن لمسألة إيجاد خلاصات على أرض الواقع يعني هو كأنه مهموم بالحلول يعني الواقع الفاسد الذي رآه أو رأى بعض جوانبه، الآن أين تضع هذا المنهج الخلدوني في البحث عن حلول وهو منهج علم اجتماع وأحيانا علم الاجتماع يكاد يكون متحفظا في البحث عن حلول، يريد أن يصف ظاهرة ويقف عند الوصف؟

عبد الوهاب بو حديبة: أنا أعتقد أن هناك توجه أول هو الفهم، فهم الواقع باعتبار الماضي باعتبار ما يجري حول المجتمع، العلاقات الاجتماعية الفردية بين الأفراد أو غير المجتمعات في مختلف المستويات، التحليل الاجتماعي ثم الالتزام، ابن خلدون شخص ملتزم حاول حياته كاملة أن يجد أميرا ينفِّذ ويأخذ قيادة الشعوب ولم يجد أحدا، وجد أشخاص تافهين لا مكانة لهم فلذلك فَقَد الإيمان وفَقَد الأمل في مجتمعه وعلينا اليوم أن نعيد الأمل في المجتمعات العربية باعتبار أن هناك كنوز عقلية طاقات بشرية وأن أهم شيء عندنا هو أن نفهم ما يجري عندنا وما يجري عند أعدائنا أو خصومنا.

خالد الحروب: نعم، أبو يعرب المرزوقي أنت وضعت يدك في الباب السادس في المقدمة التي تصف العلوم المختلفة ويعمل تصنيف شامل للعلوم الفلسفية والطبيعية وسوى ذلك وتقول إن هناك غياب لعرض الفلسفة العملية التقليدية عند ابن خلدون وتصف ذلك باعتباره خللا عند ابن خلدون؟

أبو يعرب المرزوقي: لكنه خلل مقصود، أي أن ابن خلدون كما تلاحظ في الباب السادس يعرض العلوم بصورة تاريخية ثم يخصص أبواب لدحض العلوم الزائفة ومن بين العلوم الزائفة هي العلوم التي استثناها من موسوعة العلوم الفلسفية لأنها ليست علوما أصلا ومنها الفلسفة العملية وقد أشار إليها في فصول سابقة عندما قال إن علم العمران يختلف تماما عن الفلسفة المدنية، بمعنى المدينة الفاضلة لأن هذه المدينة الفاضلة تتعلق بفرضيات ذهنية ولا تتعلق بعلاج علمي للظاهرات الاجتماعية.

خالد الحروب: نعم، الحديث ممتع لكن الوقت انتهى فشكرا جزيلا أستاذ عبد الوهاب بو حديبة، شكرا جزيلا أستاذ أبو يعرب المرزوقي وشكرا لكم مشاهديّ الكرام على متابعتكم لنا وكنا معكم من بيت الحكمة المُجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون نقدم لكم حلقة خاصة عن فكر العلاَّمة ابن خلدون ولكم تحيات زميلي عبد المعطي الجعبة وتحياتي خالد الحروب وإلى أن نلقاكم الأسبوع المقبل مع حلقة أخرى حول نفس الموضوع.