القدس.. بين الدين والسياسة الأميركية

تصميم: القدس: بين الدين والسياسة الأميركية
جاء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإيعازه بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، تتويجا للسياسة التي انتهجتها الخارجية الأميركية على مدى العقود السبعة الماضية، والتي هدفت منذ بداية انخراطها في عملية السلام إلى فرض حل على الفلسطينيين.

عملت الولايات المتحدة الأميركية مرارا على استخدام نفوذها على الساحة الدولية، وفي الشرق الأوسط، لتقويض تطلعات الفلسطينيين إلى إقامة دولتهم المستقلة.

وعلى الرغم من أن واشنطن لم تؤيد علنا بعد حرب يونيو/حزيران 1967 ضم إسرائيل واحتلالها للقدس الشرقية، فإن السياسات الفعلية التي اتبعتها دعمت دائما الاحتلال الإسرائيلي، وما زالت.

يتضمن الدعم الأميركي لإسرائيل حماية إسرائيل في مجلس الأمن الدولي من العديد من القرارات التي تدين احتلالها للأراضي الفلسطينية، ويتجلى الدعم أيضا في الزيادة المشهودة في التمويل العسكري لها، وأيضا السياسات الضريبية التي تشجع الأميركيين على تمويل توسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

وعلى نسق قرار ترمب الأخير بشأن القدس، فإن علاقة واشنطن الوثيقة مع إسرائيل منذ العام 1948 عكست مصالح السياسة الخارجية والداخلية الأميركية. وهذا يدل على تأثير الدين والمال على السياسة الأميركية الداخلية والخارجية وعلى الانتخابات.

كثيرا ما تشهد الدوائر الانتخابية للمرشحين الجمهوريين المدعومين من الإيفانجليّين خلال الانتخابات التمهيدية والانتخابات العامة تنظيمًا واندفاعا مشهودا

نبوءات ومعتقدات
ففي حين شكل الاحتلال الإسرائيلي وضم القدس الشرقية عام 1967 صدمة ونكسة للفلسطينيين، رأى المسيحيون الإيفانجليّون في الاستيلاء الإسرائيلي على الأماكن المقدسة في المدينة القديمة تحقيقا جزئياً لنبوءة معتقداتهم ولما ورد في الكتاب المقدس. وهذا الأمر ساهم في مشاركة سياسية أكبر من قبل المسيحيين الإيفانجليّين في سياسات الولايات المتحدة الأميركية الداخلية والخارجية
.

شكل الإيفانجليّون منحى مهما في التحول المحافظ في السياسة الأميركية التي بدأت مع رئاسة ريتشارد نيكسون. وعلى مدى العقود الخمسة التي تلت تلك الحقبة، تنامى تأثير الإيفانجليّين على الحزب الجمهوري وعلى السياسة الأميركية من خلال دعم مرشحين محددين وسياسات محددة في الانتخابات الرئاسية والانتخابات الأخرى التي تعقد لاختيار أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس النواب وأعضاء المجالس المحلية في الولايات والمقاطعات الأميركية.

وكثيرا ما تشهد الدوائر الانتخابية للمرشحين الجمهوريين المدعومين من الإيفانجليّين خلال الانتخابات التمهيدية والانتخابات العامة تنظيما واندفاعاً مشهوداً.

وطدت إدارتا رونالد ريغان وجورج بوش الابن علاقتهما بالايفانجليّين، الذين صوتوا بأعداد كبيرة في انتخابات 2016 لدونالد ترمب

وطدت إدارتا الرئيسان رونالد ريغان وجورج بوش الابن علاقتهما بالإيفانجليّين، الذين صوتوا أيضا بأعداد كبيرة في انتخابات 2016 لترمب، على الرغم من أنه لم يظهر أي تأييد أو مشاطرة لمبادئهم ومعتقداتهم أو قيمهم.

فبالنسبة للناخبين الإيفانجليين، واءمت أجندة ترمب السياسية أجندة الحزب الجمهوري ولاقت دعمهم، في الوقت الذي ناصبوا العداء العلني لمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، وهذا العداء يعود إلى فترة رئاسة زوجها بيل كلينتون.

دعا القادة الإيفانجليّون بعد تنصيب ترمب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية إلى وجوب اعتراف أميركا بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة من تل أبيب إلى القدس. قرار ترمب لقي ترحيبا من قبل القس جون هاغي أحد القيادات الدينية البارزة في منظمة "المسيحيون المتحدون لدعم إسرائيل"، والذي أشار إلى أن قرار ترمب يظهر للعالم أن القدس عاصمة لإسرائيل ليس أمرا مطروحا للتفاوض وأن أميركا ستبقى دائما حليفا مخلصا لإسرائيل.

تطابقت الرؤى الإيفانجلية للقدس مع حملات جمع التبرعات الانتخابية في الولايات المتحدة وبالتحديد الدعم المالي الذي قدمه الملياردير شيلدون أديلسون الذي يُعد بمثابة مانح رئيسي للحزب الجمهوري.

أديلسون يُعد بمثابة جسر بين الحزب الجمهوري الأميركي وحزب الليكود الإسرائيلي، ولديه علاقات وثيقة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وفي العام 2016 تبرع أديلسون بحوالي 25 مليون دولار للمجموعات السياسية المعارضة لمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون.

تلعب التبرعات والهبات المالية دوراً بارزاً في الحملات الانتخابية الأميركية المختلفة. توظف تلك التبرعات للضغط على السياسة الداخلية في الولايات المتحدة

دعم الاستيطان
لا تقتصر نشاطات أديلسون على الحملات السياسية الداخلية الأميركية، إذ يعتبر مساهما رئيسيا وداعما للمستوطنات الإسرائيلية، وهذا يشمل تبرعه عام 2017 بمبلغ 25 مليون دولار لكلية الطب بجامعة أريئيل. هذه الجامعة مقامة في مستوطنة أريئيل، التي هي بدورها بُنيت على أراض فلسطينية محتلة وفي موقع إستراتيجي في عمق الضفة الغربية المحتلة بين رام الله ونابلس
.

تلعب التبرعات والهبات المالية دورا بارزا في الحملات الانتخابية الأميركية المختلفة. توظف تلك التبرعات للضغط على السياسة الداخلية في الولايات المتحدة، وتعكس التأثير النافذ للجهات المانحة البارزة، مثل أديلسون، في السياسة وفي علاقات الولايات المتحدة الخارجية.

فنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس شكّل بالنسبة لأديلسون قضية أولوية. فإذا أراد الجمهوريون الحفاظ على الأغلبية في مقاعد الكونغرس، فإنهم سيحتاجون إلى مانحين مثل أديلسون لدعم حملتهم في عامي 2018 و2020. ومع تراجع ترمب في نتائج الاستطلاع، فإن آماله في إعادة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية سوف تتطلب إرضاء المانحين البارزين والنافذين. 

رغم أن استطلاع الرأي الذي جرى مؤخرا أظهر أن غالبية كبيرة من الديمقراطيين عارضت إعلان ترامب، فإنه قد يلقى ترحيبا من بعض المانحين البارزين

حظي إعلان ترمب بشأن القدس بدعم من الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة الأميركية. ومن بين المؤيدين الديمقراطيين لإعلان ترمب عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي وزعيم الأقلية في المجلس تشارلز شومر.

وعلى الرغم من أن استطلاع الرأي الذي جرى مؤخرا أظهر أن غالبية كبيرة من الديمقراطيين عارضت إعلان ترمب، إلا أنه قد يلقى ترحيبا من بعض المانحين البارزين. على سبيل المثال، صرح حاييم صابان أحد عمالقة الإعلام الأميركي وأبرز الداعمين الرئيسيين في الحزب الديمقراطي عام 2010 قائلاً "أنا رجل ليس له إلا قضية واحدة، وقضيتي هي إسرائيل"، وأعرب علناً عن تأييده لحل الدولتين وتقسيم القدس في اتفاق نهائي مع الفلسطينيين، لكنه لم يظهر أي نقد علني لقرار ترمب.

وفي وقتٍ سابق على إعلان ترمب، استضاف منتدى حاييم صابان، الذي ينظمه معهد بروكينغز للأبحاث، جاريد كوشنر صهر ترمب. أعرب صابان في المنتدى عن شكره لكوشنر وجهوده الذي بذلها في العام الماضي لتقويض قرار مجلس الأمن الدولي الذي ينتقد بناء المستوطنات الإسرائيلية، وقال "بقدر ما أعرف أنه لا شيء غير قانوني هناك، ولكن أعتقد أني وهذا الجمهور نريد أن نشكركم على بذل هذا الجهد".

حتى لو هزم ترمب في الانتخابات، فإنه من غير المحتمل أن يتراجع أي من المتنافسين المحتملين في الحزب الديمقراطي لعام 2020 عن الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل

وكان التدخل في السياسة العامة من قبل الرئيس المنتخب ترمب في جهود إدارة الرئيس باراك أوباما المتأخرة والخجولة، وقبل انتخابه رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، لم يسبق له مثيل في السياسة الأميركية، وربما شكل في مكان ما انتهاكا للقانون الأميركي. ومع ذلك فإن دعم الديمقراطيين لإعلان ترمب يشير إلى أنه والحزب الجمهوري قد يكونان أكثر جاذبية للناخبين للمناصرين لإسرائيل على مستوى الولايات الأميركية الرئيسية التي تشهد فيها الانتخابات تنافساً متزايداً بسبب التغيرات الديمغرافية. إلا أنه حتى لو هزم ترمب في الانتخابات، فإنه من غير المحتمل أن يتراجع أي من المتنافسين المحتملين في الحزب الديمقراطي لعام 2020 عن الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل.

في الواقع، فإن قرار ترمب نقل السفارة سبقه إعلان مرشحي رئاسة سابقين عن دعمهم لنقل السفارة أثناء حملاتهم الانتخابية، ولكن ربطوا تأجيل الخطوات العملية لهذا الإجراء إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وهذا ما أعلن عنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في خطابه عام 2008 أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك)، والذي أعلن فيه أن القدس "يجب أن تكون عاصمة لإسرائيل، ويجب أن تبقى غير مقسمة".

درس مرير
يعتبر إعلان ترمب بالنسبة للفلسطينيين درسا آخر مريرا في واقع السياسة الخارجية الأميركية والعلاقة الوثيقة بينها وبين وإسرائيل. وهو يعكس أيضا الديناميات الإقليمية المتغيرة، بعد تحالف المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة علنا مع إسرائيل ضد إيران.

على الرغم من الانتصارات الرمزية الداعمة لفلسطين في أروقة الأمم المتحدة، يواصل الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي وفي الشتات دفع ثمن الإستراتيجية الفاشلة لقيادتهم

هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الفلسطينيون لسياسات الضغط والقوة من قبل بعض الدول العربية والقوى العظمى. في الماضي، تلاعبت بعض الدول العربية، مثل مصر وسوريا والعراق، بالأحزاب السياسية الفلسطينية المتنافسة، ووظفتها لخدمة تطلعاتها وأجندة أعمالها الإقليمية. في حين أظهرت بلدان أخرى، مثل الأردن ولبنان، العداء للقومية الفلسطينية. وكثيرا ما سعت واشنطن من قبل عبر دول عربية للضغط على القيادة الفلسطينية، وكان لذلك نتائج مختلفة ومتفاوتة.

يمكن القول إن الفلسطينيين في موقف أضعف بكثير اليوم من أي وقت مضى منذ النكبة. وعلى الرغم من أن سياسات أميركا المتحيزة لإسرائيل كانت غير معلنة، فإن القيادة الفلسطينية اعتمدت منذ ما يقارب ثلاثة عقود أولوية المفاوضات والسياسة النخبوية. عمدت القيادة الفلسطينية لإعمال برنامجها السياسي عبر ضمان ولاء الفلسطينيين من خلال اعتماد سياسة المحسوبية للمواليين والقمع للمعارضين.

كما عملت القيادة الفلسطينية على تقويض الحراك الشعبي وقمعه، في سياسة تطلعت فيها إلى استجداء رضا واستحسان الولايات المتحدة وإسرائيل على جهودها. في الوقت نفسه، حرصت سياسات هذه القيادة على إبقاء الزمرة التي تنتفع وتتربح من عملية السلام والاحتلال الإسرائيلي.

على الرغم من الانتصارات الرمزية الداعمة لفلسطين في أروقة الأمم المتحدة، يواصل الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي وفي الشتات دفع ثمن الإستراتيجية الفاشلة لقيادتهم.

المصدر : الجزيرة