فتح وغياب القائد الرمز

undefined

حسن الكاشف

أجّل فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني تفاقم الأزمة الداخلية لحركة فتح، وجاء الصراع على الصلاحيات بين فتح وحماس، بعد تشكيل حماس لحكومتها، وما تبعه من تجاذب وصل إلى حالة المواجهة المسلحة ليكرس تأجيل فتح لأزماتها الداخلية.

ولم يكن هذا هو التأجيل الأول لمواجهة تفاقم الأزمة الداخلية، فقد سبقه تأجيل فرضه موت قائد فتح ياسر عرفات، حيث تسبب ذلك الموت، لبعض الوقت، في اندفاع أعضاء اللجنة المركزية والمجلس الثوري والكادر الأساسي نحو التماسك وملء الفراغ بتوافق إجماعي على تولية أبو مازن (محمود عباس) للموقع الأول في السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، وكذلك توليه المركز الفتحاوي الأول داخل الأراضي الفلسطينية حيث أغلبية أعضاء اللجنة المركزية (أبو مازن، أحمد قريع، هاني الحسن، الطيب عبد الرحيم، حكم بلعاوي، عباس زكي، انتصار الوزير، نبيل شعث، زكريا الأغا، وعبد الله الإفرنجي).

بوادر أزمة فتح
عرفات القائد الرمز
حركة فتح وغياب القائد

بوادر أزمة فتح

كانت الأزمة الداخلية لحركة فتح قد تجلت واضحة عشية الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، ووصلت الأزمة ذروتها مع الإعلان عن وجود قائمتين لحركة فتح، واحدة تضم أعضاء اللجنة المركزية وعدداً من الكوادر، والثانية تضم الكادر الأساسي برئاسة مروان البرغوثي. وبالفعل تم تسجيل القائمتين لدى اللجنة المركزية للانتخابات رسمياً، ولولا جهود التوفيق، والشعور المتأخر بأخطار الفشل في الانتخابات، لما تم التوصل إلى اتفاق اللحظة الأخيرة بين رموز القائمتين وتشكيل قائمة واحدة لحركة فتح.

وقبل تجلي الأزمة الداخلية عشية انتخابات المجلس التشريعي، كانت هناك محطة أخرى تجلى فيها الصراع الداخلي، حدث ذلك قبيل وفاة عرفات حين قررت حركة فتح إجراء الانتخابات التمهيدية الداخلية لمؤتمرها العام. وحين انعقدت المؤتمرات الانتخابية للمناطق في قطاع غزة أواخر 2004 وأوائل 2005 جاءت النتائج لصالح تيار الشباب وبشكل كبير، وكان ذلك مؤشراً على ضعف وزن وتأثير اللجنة المركزية ومن معها من الكادر الأساسي. فقد انغمس ذلك التيار في المسؤولية الرسمية والمواقع الأساسية في وزارات ومؤسسات السلطة الفلسطينية، وأهمل دوره في التنظيم والتواصل مع القاعدة.

وكان اندلاع انتفاضة الأقصى في الثلث الأخير من عام 2000 العامل الحاسم في حالة الاستقطاب الداخلي، فقد نهض بمهام وقيادة الانتفاضة كادر الداخل الذي قاد الانتفاضة الأولى، في حين ظل فريق اللجنة المركزية ومن معها في إطار العمل الرسمي، ومع استمرار الانتفاضة لسنوات، وتشكيل كتائب شهداء الأقصى وفعاليتها في الانتفاضة، اتضحت الأوزان والأدوار والمواقف.

كانت قنوات اتصال ودعم الرئيس عرفات مع قيادات الانتفاضة مفتوحة، وكانت قيادة فتح الشابة تغتنم الفرصة التاريخية وتعزز دورها في القاعدة الفتحاوية والشارع، وقدمت تلك القيادة الشهداء والجرحى والأسرى والمطاردين. في حين شهدت مكانة فريق اللجنة المركزية تراجعاً واضحاً، وفقد ذلك الفريق تأثيره المعنوي على قواعد فتح بعد أن استسلم لانعدام وزنه ودوره داخل تلك القواعد.

وكانت قضية الفساد عاملاً أساسيا مضافاً أسهم في عملية الفرز، فقد حامت اتهامات الفساد والفشل في بناء وقيادة المؤسسات الرسمية للسلطة الوطنية، فوق بعض رؤوس الصف القيادي الأول في حركة فتح، ومع غياب المحاسبة، رغم فضائح فساد كبيرة وشواهد فشل كثيرة، تعمق الاستقطاب، وسادت أوساط الحركة حالة من الاحتجاج والاعتراض العلني، مما عمق الأزمة الداخلية ودفعها نحو طريق ظلت اللجنة المركزية تغلقه بإصرار يتجاهل أخطار الانفجار.

عرفات القائد الرمز

"
شخصية ياسر عرفات وجماهيريته الطاغية وقدرته غير المسبوقة على إبقاء خطوطه مفتوحة على كل الاتجاهات عوامل خلقت حالة توازن داخل فتح وجعلته قادراً على التأثير والتحكم في كافة القيادات والاتجاهات
"

كانت قيادة فتح متوازنة رغم تعدد الأقطاب، لكن غياب معظم الأقطاب بالموت والاغتيال مثل أبو يوسف النجار، كمال عدوان، ماجد أبو شرار، خالد الحسن، خليل الوزير، صلاح خلف وأبو الهول، أنهى حالة التوازن التي أغنت رؤى ومواقف الحركة على مدى عقدين ونصف العقد من الزمن تقريباً.

ومع وراثة رئيس الحركة ياسر عرفات للمسؤوليات الأساسية بعد غياب الأقطاب، انتهت مرحلة التوازن ودخلت قيادة فتح حالة القائد الرمز مطلق الصلاحيات ومصدر القرار والمتحكم بالإمكانات، وساعد في استقرار حالة القائد الرمز مطلق الصلاحيات عوامل عدة في مقدمتها شخصية ياسر وجماهيريته الطاغية، وقدرته غير المسبوقة على إبقاء خطوطه مفتوحة على كل الاتجاهات، دون أن يفرط بأي اتجاه أو حتى مجموعة ذات دور.. هكذا خلق عرفات حالة توازن داخل أطر الحركة، وظل قادراً على التأثير والتحكم في كافة القيادات والاتجاهات.

مع غياب عرفات انتهت مرحلة طويلة من عمر التجربة الوطنية الفلسطينية وعمر ومسيرة الحركة، وانتهى إجماع فتح على قائدها الرمز وقبولها، أو تسليمها، بصلاحيات مطلقة للموقع الأول، ولهذا ترافق التوافق القيادي الفتحاوي على تولية أبو مازن لرئاسة السلطة ومنظمة التحرير، مع قرار من اللجنة المركزية بعقد المؤتمر العام للحركة والبدء بالإجراءات التحضيرية لعقد هذا المؤتمر الذي سينتخب المجلس الثوري واللجنة المركزية بما يعكس موازين القوى الجديدة داخل حركة فتح.

جدير بالتوقف والتأمل غياب البعد الفكري في الخلافات والاجتهادات داخل فتح، فالحركة لم تتبنَّ إيديولوجية محددة. وجدير بالتوقف والتأمل غياب التقاليد الحزبية الصارمة كالحياة الداخلية لحركة فتح وفي غياب الفكر الموحد والانضباط التنظيمي ووحدة الموقف القيادي، ظل تنظيم فتح وما يزال حالة وطنية عريقة أكثر من كونه تنظيماً حزبياً متماسكاً يسوده الانضباط، ودون وحدة الفكر والتماس والانضباط الداخلي تبرز وتتفشى مظاهر الخلاف والتجمع على أسس سياسية حيناً، واعتراضية حيناً آخر، وجهوية حيناً ثالثاً.

ونتيجة لهيمنة فتح على منظمة التحرير ومؤسساتها، وعلى السلطة الوطنية ومؤسساتها، نشأت وتكرست، بل وتكلست، طبقة من كبار المسؤولين في مؤسسات المنظمة والسلطة، وكان هؤلاء وما زالوا هم أنفسهم من صفوف المجلس الثوري لفتح ومن الكادر الأساسي للحركة، وبديهي أن مصالح وامتيازات كبيرة وطويلة ظلت حكراً على هؤلاء، دون أن يخضعوا للمحاسبة في حالتي الفساد والفشل، ودون أن يجري استبدالهم بكادر من أجيال أثبت وجوده وقدراته.

يشكل هؤلاء المسؤولون حالة قيادية يهددها أي تغيير في بنية فتح وهياكلها، إذا ما انعقد المؤتمر العام للحركة، في ذات الوقت الذي يتحكم هؤلاء أنفسهم بقرار المجلس الثوري، والمفارقة أن هذه الحالة تستمر في وقت حرج لفتح. وفي وقت يواجه فيه المشروع الوطني الفلسطيني أخطارا كبيرة وجدية.

كل الحقائق والأزمات تطالب قيادة فتح بضرورة وسرعة إجراء مراجعة شاملة لرؤيتها وبنيتها، فقد مر على آخر مؤتمر عام للحركة سبعة عشر عاماً، وهذا زمن طويل شهد تحولات وتغييرات عصفت بالساحتين الدولية والعربية، كما عصفت بالساحة الفلسطينية. لكن المراجعة لم تحدث حتى الآن، ولا حدثت محاسبة، ولا جرى التغيير الذي تفرضه دروس سنوات السلطة وسنوات التفاوض، كما تفرضه هزيمة فتح في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وفوز حماس وتشكيلها للحكومة.

حركة فتح وغياب القائد

"
إذا كان غياب ياسر عرفات نهاية لمرحلة القائد الرمز مطلق الصلاحيات، فإن وصول فتح إلى حالة القيادة الجماعية لا يبدو هو الآخر قريباً، فقد ورث أبو مازن صلاحيات ياسر، كما ورث نظاماً سياسياً عرفاتياً، إضافة لوراثته لقيادة فتح بكل أزماتها القديمة والمقيمة
"

من الموضوعية والإنصاف الإقرار بأن فتح تعيش أزماتها في ظرف ساخن تفرضه الآن تحديات المواجهة مع حركة حماس، هذه المواجهة التي بدأت سياسية وإعلامية قبل أن تنتقل إلى حالة ازدواجية سلطة ثم إلى اشتباكات مسلحة تنذر بحرب أهلية، ولهذا فإن هذا الظرف يفرض على فتح التعايش مع أزماتها حتى تتمكن من مواجهة الأزمة مع حماس وتحديات البقاء موحدة الموقف والصف.

فتح بعد غياب ياسر تتغير بشكل بطيء، وبانتظار المؤتمر العام القادم الذي لا يبدو قريباً حتى الآن، تراوح الحركة في دائرة أزماتها ودائرة تحديات كبيرة وخطيرة، وإذا كان غياب عرفات نهاية لمرحلة القائد الرمز مطلق الصلاحيات، فإن وصول فتح إلى حالة القيادة الجماعية لا يبدو هو الآخر قريباً، فقد ورث أبو مازن صلاحيات ياسر، كما ورث نظاماً سياسياً عرفاتياً، إضافة لوراثته لقيادة حركة فتح بكل أزماتها القديمة والمقيمة.

كان أبو مازن (محمود عباس) هو الحل الفتحاوي الممكن والأفضل لحظة غياب عرفات، وسلمت له كافة الاتجاهات الفتحاوية والتفت حوله موحدة، وضمنت له الفوز في الانتخابات الرئاسية.

صار أبو مازن الحل الفتحاوي الأفضل بعد خسارة فتح لقيادتها للسلطة الوطنية بعد خسارتها الانتخابات التشريعية، ومن خلال موقعه كرئيس منتخب أصبح عباس الضمانة الرسمية الأساسية لبقاء فتح في دائرة المسؤولية الرسمية، كما أصبح ضمانة استمرار كادر الحركة القيادي في مواقعه المسؤولة داخل المؤسسات المدنية والأمنية للسلطة الوطنية، وهذا ما يعزز قيادة الرئيس محمود عباس لحركة فتح في غياب شبه مطلق لأي رمز قيادي فتحاوي منافس.

وأصبح عباس مركز استقطاب لكل التأييد والدعم العربي والدولي الرسمي بعد تشكيل حماس لحكومتها، ورفضها الاستجابة للمطالب العربية والدولية التي لا تتوقف عن المناداة بضرورة اعتراف حماس بالقرارات والاتفاقات التي وقعتها وقبلتها والتزمت بها قيادة السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير.

وكلما اشتدت الأزمات السياسية والمالية والأمنية داخل الساحة الفلسطينية.. وكلما احتدمت التجاذبات بين حركتي فتح وحماس، يزداد الرئيس عباس قوة، ويبدو أمام الأوساط السياسية الدولية والإقليمية والعربية أنه الطرف الوحيد المؤهل الذي يستحق الدعم السياسي والمالي.

ويتصاعد هذا الدعم الخارجي للرئيس أبو مازن كلما أكدت حماس تمسكها بمواقفها، وكلما أكد عباس انسجامه مع المواقف والتوجهات الدولية والعربية، ولا يتوقف رئيس السلطة عن تأكيد مواقفه (قبوله بقرارات الشرعية الدولية، قبوله وتمسكه بخارطة الطريق، قبوله بالمبادرة العربية، اعتماده المفاوضات كطريق وحيد للوصول إلى حل الدولتين الذي طرحه الرئيس الأميركي جورج بوش، ورفضه لكل أشكال المقاومة المسلحة، ورفضه لبقاء السلاح خارج يد السلطة الرسمية).

الرئيس عباس يؤكد انسجامه وتوافقه مع التوجهات السياسية الدولية (أميركا وأوروبا) والعربية (السعودية، مصر والأردن، والمغرب) ومع نهاية حقبة تعدد مراكز الاستقطاب العربي يظل هناك طريق عربي وحيد مفتوح، فقد انتهت مرحلة التسابق الرسمي العربي على احتضان فصائل المقاومة ودعمها، وأغلقت الحدود العربية أبوابها بوجه المقاومة الفلسطينية المسلحة، كما انتهت الثنائية القطبية في الساحة الدولية مع تفكك الاتحاد السوفياتي ونهاية المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو.

"
كلما اشتدت الأزمات السياسية والمالية والأمنية داخل الساحة الفلسطينية وكلما احتدمت التجاذبات بين حركتي فتح وحماس، يزداد الرئيس محمود عباس قوة
"

الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 هي الساحة الرئيسية للعمل الفلسطيني، وهي الساحة التي ستقرر المصير والمستقبل الفلسطيني، فقد تراجع كثيراً دور الساحات الخارجية المحيطة بعد الخروج من الأردن (1970-1971) والخروج من لبنان (1982-1983) كما تراجع كثيراً تأثير ووزن عديد من الفصائل والرموز القيادية في الخارج والداخل، وكل هذا يؤكد أن حقبة جديدة من العمل الوطني الفلسطيني ومن حياة حركة فتح تفرض شروطها، وهذه الحقبة هي هي وحدها التي ستفرض رموزها ونوع أدواتها، وأشكال العمل الممكنة.

لحركة فتح الآن قائد هو محمود عباس، وهو قائد بدون قيادة (اللجنة المركزية) ولا يوجد لهذا (الرئيس القائد) منافس، ولا يشكل تيار الشباب منافساً له، بل إن هذا التيار هو الذي يواجه حماس على الأرض ليؤكد ثقله غير القابل للتجاهل، وهو الذي يفاوض قيادة حماس من مواقع مواجهاتها، وهنا تبرز حاجة الطرفين (عباس وتيار الشباب) لبعضهما.

تعيش فتح، منذ سنوات، حالة تحول، وإذا كان الميدان يسلم بحقائق التحول والمتغير في الرموز والقوى والأدوار، فإن ترسيم حقائق الأرض وحقائق السياسة بقيادات جديدة وهياكل جديدة، يظل المسألة الوحيدة على جدول أعمال تلك الحركة، وهي مسألة مؤجلة حتى الآن.. تؤجلها أزمات وتحديات الواقع قدر ما تؤجلها رغبات ومخاوف قيادات فقدت أوزانها وتأثيرها رغم احتفاظها بمواقعها.

وحتى إشعار آخر تظل حركة فتح برأس واحد (أبو مازن) ويظل أبو مازن مستمداً قوته من كونه الحل الفتحاوي الأمثل بعد غياب عرفات.. بعد حضور حماس، وفي ظل انسجامه المعلن مع السياسات والتوجهات الدولية والعربية.
_______________
كاتب ومحلل فلسطيني

المصدر : الجزيرة