إشكالية فهم الآخر بين الغرب والإسلام

إشكالية فهم الآخر بين الغرب والإسلام



عادل لطيفي

من عوائق الفهم الغربي للإسلام
عوائق الفهم الإسلامي للغرب
دور التاريخ للخروج من المأزق

هزة أخرى في العلاقات بين الغرب والإسلام ولدتها آراء بابا الفاتيكان الأخيرة التي اعتبرت مسيئة للإسلام والمسلمين. إذ ما كاد الشارع في العالم الإسلامي يهدأ من جراء تبعات قضية الرسوم الدانماركية حتى وجد نفسه مجبرا على التعاطي مع تحد أكثر جدية، وذلك بالنظر إلى مكانة البابا الرمزية سواء في المخيلة الغربية أو في الصورة التي كونها المسلمون عن الغرب.

لقد جاءت قطيعة اليوم وليدة أفكار لرمز قد كلف أصلا بتفادي التباعد الذي خلقته السياسة والسياسيون. تصريحات البابا أو آرائه تطرح من جديد إشكالية فهم الغرب للإسلام والتي مازال يحكمها موروث ثقافي قديم يحاول أن يجد له منفذا للواقع السياسي الحالي.

غير أن الوجه الآخر لهذه الإشكالية مرتبط بالمسلمين أنفسهم، ويتمثل في عوائق فهمهم للغرب. لقد أضحي جهل الآخر حالة فكرية مشتركة بين الغرب والإسلام تعود إلى تراكمات تاريخية تم تحيينها في سياق سياسي مشحون.

"
استحضار الموروث التاريخي وبشكل انتقائي جعل البابا يبدو وكأنه يتجاهل حقائق تاريخية حول هذه المسألة. إذ يكفي أن نذكر في هذا السياق بالدور البارز لرواد المنزع العقلي من المعتزلة الذين حاولوا تأسيس لاهوت إسلامي عقلاني
"

من عوائق الفهم الغربي للإسلام
وردت مواقف البابا بنديكت السادس عشر من الإسلام في إطار محاضرة عن اللاهوت المسيحي ألقاها في جمع من الطلبة في إحدى الجامعات الألمانية. وفي سياقها قال بما معناه أن المسيحية ترتكز على مبادئ العقل والحب في حين أن الإسلام انتشر بحد السيف مما يفسر الطابع العنيف للإسلام.

مثل هذا الرأي يستوقفنا أولا لما فيه من تعدي على التاريخ ولما فيه كذلك من بساطة الاستحضار لصورة نمطية عن الإسلام تعود في جذورها الأولى إلى عصور الصدام بين الرموز السياسية للديانتين.

ليس من باب الصدفة أن يستشهد البابا بمقولات من العصور الوسطى، إذ يبدو أن غايته تبقى استحضار نفس سياق الصدام والتعارض الذي حكم رموز الديانتين في فترة ما من تاريخهما المشترك.

فهذه التصريحات تعود بنا إلى أجواء سادت مدينة طليطلة الأندلسية بعد استرجاعها من المسلمين خلال القرن الثاني عشر. ففي خضم النشوة بالانتصار العسكري أراد بعض رجال الكنيسة الكاثوليكية أن يعززوا التفوق الميداني للمسيحية عن طريق حرب ثقافية.

ومن بين الرموز التي رعت هذا التوجه نجد الأب بيار المهيب الذي كان وراء أول ترجمة للقرآن إلى اللاتينية سنة 1143م، علق عليها من خلال رسالة بعنوان "الأدلة على الهرطقة المحمدية البغيضة والمضرة".

وقد ورد في هذه الترجمة رسم متخيل لصورة نبي الإسلام يستوحى من خلاله أن مبادئ هذه الديانة لا تعدو أن تكون أفكارا شيطانية. هذه البداية جعلت الهدف من انفتاح أوروبا على الإسلام هو التأسيس الفكري للتعارض وليس فهم هذه الديانة وهذه الثقافة.

لهذا لا نستبعد أن يبقى بابا الفاتيكان وفيا لتلك الصورة الموروثة عن كنيسة العصور الوسطى، خاصة وقد عرف عنه تزمته في المسائل اللاهوتية.

إن استحضار هذا الموروث التاريخي وبشكل انتقائي جعل البابا يبدو وكأنه يتجاهل حقائق تاريخية حول هذه المسألة. إذ يكفي أن نذكر في هذا السياق بالدور البارز لرواد المنزع العقلي من المعتزلة الذين حاولوا تأسيس لاهوت إسلامي عقلاني.

كما نذكر بأن الكنيسة كانت قد منعت كتب ابن رشد، وهو أحد إفرازات هذه الثقافة الإسلامية، في بعض البلدان الأوروبية بسبب نزعته العقلانية. كما أننا لسنا في حاجة إلى التذكير بأن العقل الوضعي لم يترسخ في أوروبا إلا بتجاوز اللاهوت الكنسي الكاثوليكي.

إلى جانب هذه الصورة الموروثة عن حقب تاريخية بائدة، فإن التصور الأوروبي حول الإسلام يتغذى كذلك من الواقع السياسي الحالي والذي تقدمه له وسائل الإعلام.

هذا ما نلاحظه من خلال طبيعة حضور الإسلام في الإعلام الأوروبي. فهذه الديانة والثقافة التي أفرزتها تختزل اليوم في الإعلام الغربي في مجرد صور باهتة لجمهور المصلين وللحى والحجاب، أو صور بعض الأشخاص المدججين بالسلاح والمهددين بزرع الموت في كل مكان.

إنه إسلام عنيف يشاهد ولا يحاور. مثل هذه الصورة تتناغم مع ما تريده الأوساط الكنسية المحافظة واليمين السياسي في أوروبا لأنها تدعم مواقفهم وخياراتهم على مستوى السياسة الخارجية (قضية انضمام تركيا للمجموعة الأوروبية) كما تدعم بعض خياراتهم في السياسة الداخلية (ملف الهجرة والمهاجرين).

مقابل هذه المسؤولية الأوروبية عن فبركة صورة الإسلام، لنا أن نتساءل إن لم يكن للطرف الإسلامي نفسه دور في هذه الفبركة. أعتقد أن هذه المسؤولية حقيقة لا يمكن إنكارها.

وهذا يبرز أولا من خلال اختزال حركات الإسلام السياسي عموما والجهادي خصوصا للإسلام في محاربة الآخر وكذلك في بعض المسائل الإجرائية مثل الحدود. كما يبرز ثانيا من خلال غياب النفس العقلاني في الرد على جهل الغرب بالإسلام.

فإثبات العمق العقلاني للثقافة الإسلامية، يحتم النظرة إلى الإسلام في تنوعه لا في تجانسه اللاتاريخي. إن قول البابا بغياب البعد العقلي في الإسلام يتطلب من المسلم توسيع نظرته للفكر الإسلامي لتتسع إلى رموز هذا المنزع من أمثال المعتزلة وإخوان الصفا وابن رشد وابن خلدون. أي من خلال نظرة تاريخية للإسلام تتجاوز طوق البعد الإيماني.

"
رسخت مأساة الشعب الفلسطيني الشعور بالإحباط ودفعت إلى استبطان معطى الهزيمة العسكرية لاستحضاره في كل مناسبة للتعامل مع الآخر. هذا ما أدى إلى إفراز عقدة المؤامرة التي من خلالها نحاول أن يفهم المسلم مختلف التحديات
"

عوائق الفهم الإسلامي للغرب
الجانب الثاني في إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب يتعلق بنظرة المسلمين أنفسهم إلى هذا الغرب. فلدى الطرف الإسلامي كذلك عوائق تحول دون فهمه للآخر.

وتعود هذه العوائق في جانب منها إلى طبيعة سياسة الغرب تجاه عالم الإسلام منذ بدأت أوروبا تبدي نزعة توسعية مع بداية القرن الخامس عشر. كما أنها تعود إلى طبيعة الصورة التي يحملها المسلمون عن أنفسهم والتي يحددون من خلالها طبيعة فهمهم للآخر.

لقد تأثر المسلمون أيما تأثر بهذا الفصل الجديد من المواجهة العسكرية الذي قلب ميزان القوى لتنتهي أغلب المواجهات بهزيمة بلاد الإسلام. بدأ ذلك مع صعود القوى الأوروبية الاستعمارية بداية من البرتغاليين والإسبان والهولنديين، ثم بأكثر حدة مع الفرنسيين والإنجليز إلى حدود أواسط الخمسينيات في فترة الاستعمار المباشر.

تجربة الاستقلال التي أعقبت هذه المرحلة عمقت الإحساس بمرارة الهزيمة لدى المسلمين وقد مثلت القضية الفلسطينية أبرز تجسيد لهذه الهزيمة.

لقد رسخت مأساة الشعب الفلسطيني الشعور بالإحباط ودفعت إلى استبطان معطى الهزيمة العسكرية لاستحضاره في كل مناسبة للتعامل مع الآخر. هذا ما أدى إلى اختزال صورة ذلك الغرب في مستوى العلاقة السياسية وإلى إفراز عقدة المؤامرة التي من خلالها نحاول أن يفهم المسلم مختلف التحديات.

مع ذلك علينا أن نقر أن فكرة المؤامرة تستمد جزءا من شرعيتها من سياسة غربية تتعارض مع المبادئ التي يرى الغرب أنها جزء من تكوينه. فحقوق الإنسان أضحت أحيانا وسيلة للهيمنة أكثر منها مشروعا لإقامة مجتمع بديل. كما أن مبدأ المقاومة، المستخدم دوما في الغرب لإعادة إحياء مفهوم الأمة، أصبح في الحالة العربية والإسلامية إرهابا في حين صار الاستعمار شكلا من أشكال الدفاع عن النفس.

أما العائق الثاني فمرتبط بطبيعة نظرة المسلمين لذاتهم ولهويتهم ولدينهم، والتي تمثل في نفس الوقت أرضية لتكوين صورة للآخر. في هذا السياق لا بد من التمييز بين صنفين على الأقل من المسلمين.

صنف أول يشمل عامة الشارع الإسلامي حيث العلاقة مع الدين علاقة عفوية ويهيمن عليها الفهم المحلي أحيانا. ثم من جهة ثانية المسلمون الأكثر بروزا وفاعلية أي تلك النخب المتعلمة التي أنتجت حركات الإسلام الاحتجاجي المؤطر تنظيميا في شكل أحزاب.

لقد أهلها موقعها النخبوي وبساطة خطابها بالإضافة إلى تمكنها من وسائل الدعاية من تحويل صورة الغرب من عدو إمبريالي إلى عدو إيماني. إن صورة الغرب التي أنتجتها هذه النخبة الحركية تعد في جانب كبير منها وليدة ذلك الاستبطان لعقدة الهزيمة العسكرية.

فالاستحضار اللاواعي لهذه العقدة يجعل من نظرة المسلمين للذات، وبالتالي للإسلام، وكذلك للآخر مختزلة في المستوى السياسي. أي أن تصور العلاقة مع الآخر الغربي محكوم أكثر بواقع المواجهة والتعارض مع ما يستوجبه ذلك من استنفار لكل عناصر التمايز عنه.

وهذا ما يفسر أن ما تستحضره هذه الفئة كرموز للإسلام يكاد ينحصر كله في مفاهيم الجهاد والفتوى وقوامة الرجل وكذلك الشرع. إنها مفاهيم تستبعد الآخر من خلال تحديد الخطوط الفاصلة معه أكثر من تعبيرها عن لبّ الإسلام كدين وكثقافة.

وليس ثمة في مختلف الثقافات وسيلة أكثر فاعلية للتعبير عن الخصوصية من العنصر العقائدي والإيماني. ومن هنا يأتي دور هذه العناصر في ظرف المواجهة السياسية مع الغرب.

الخطر هنا هو أن هذا الاختزال وهذه الانتقائية في فهم الإسلام، تحرم المسلم من ثراء التجربة التاريخية للإسلام، هذا إضافة إلى أنه يعيد دون وعي إنتاج مقولات غربية تنفي عن الإسلام، لا كدين فقط بل كتاريخ، كل محتوى عقلي أو فلسفي.

"
يجب الاعتراف بأن الديانات لا تلتقي على أرضية القداسة المؤسسة على الامتلاك الحصري للحقيقة المطلقة، وإن كان للديانات أن تتحاور فلن يكون ذلك إلا في ظل فهم للدين يعطي الأولوية للأبعاد الثقافية والتاريخية
"

دور التاريخ للخروج من المأزق
كيف يمكننا، في ظل هذه العوائق المتنوعة والمرتبطة بالذاتية الغربية وكذلك بالذاتية الإسلامية، أن نتصور مخرجا لهذا التنافر؟ إن الحل المقترح اليوم والذي يستفيد من المساندة الرسمية ومن الضخ الإعلامي يتمثل في فضائي حوار الحضارات وحوار الأديان.

لكن لكلا الفضائين عديد من النقائص التي تجعل من الصعب الوصول من خلالهما إلى تحقيق تقارب أو تفاهم ما. وهذا يعود إلى جملة من العوامل المرتبطة بخطأ على مستوى المنطلقات ذاتها.

فالقول بحوار الحضارات فيه الكثير من الابتداع لأن الحضارات لا تتحاور فيما بينها بل إنها تتفاعل مع بعضها في سياقات تاريخية متنوعة ومعقدة.

والشعوب تأخذ من الحضارات الأخرى ما هي في حاجة إليه بكل عفوية ودون وضع إطار مركب لذلك ودون الحاجة إلى خطاب نخبوي، معرفي كان أو أيديولوجي.

أما حوار الأديان فهو شعار استهلاكي أكثر منه مبادرة مبدعة. إذ كيف يمكن تصور حوار ما بين ديانتين؟ ماذا سيقول هذا الدين أو ذاك للآخر؟ فكل دين يحدد نظرته لذاته وللآخر من خلال مبدأ الحقيقة المطلقة، وبطبيعة الحال فلكل دين حقيقته الإيمانية. إن الحقيقة الإيمانية باعتبارها مقدسا لا يمكن أن تكون إلا نفيا للآخر، وهذا ما يجعل من مشروع حوار الأديان مشروعا يحمل في طياته بذور فشلة.

يجب الاعتراف بأن الديانات لا تلتقي على أرضية القداسة المؤسسة على الامتلاك الحصري للحقيقة المطلقة. وإن كان للديانات أن تتحاور فلن يكون ذلك إلا في ظل فهم للدين يعطي الأولوية للأبعاد الثقافية والتاريخية.

فالتاريخ، بمعنى تلك المعرفة العقلانية بالذات وبالآخر، يمثل الأرضية المثلى للتقارب بين الأديان وذلك لقدرته على تحييد خصوصية الحقائق الإطلاقية.

إن الأديان بهذا المعنى هي تجارب تاريخية تتوازى مسيرتها أحيانا وتتقاطع لتؤلف تراثا مشتركا. فمن الضروري إذن لتجاوز التجاذبات بين الغرب، بمكوناته المختلفة بما فيها المسيحية، والمسلمين هو العودة إلى أرضية التاريخ لضمان فهم عقلاني محايد يؤسس لوعي معرفي بتنوع التجربة الإنسانية.

لكن أين نحن اليوم من هذا المشروع في ظل تصريحات بابا الفاتيكان والرئيس الأميركي وفي ظل الدعوة لقتال النصارى باسم الجهاد.
ــــــــــ
كاتب تونسي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.