العدالة في البوسنة ولو بعد حين

ديفيد شيفر الاقتباس : "الدرس الذي ينبغي لسياسيي أوروبا والولايات المتحدة ووغيرهما استنباطه من الحكم على رادوفان كراديتش هو أنهم يلعبون بالنار في السعي وراء مزايا انتخابية من خلال مهاجمة المسلمين" الصورة الخلفية : رادوفان كراديتش أمام المحكمة

ديفد شيفر*

في 24 مارس/آذار الجاري حكمت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة على رادوفان كراديتش، الزعيم السياسي لصرب البوسنة خلال حرب التسعينيات في البلقان، بالسجن أربعين سنة بتهمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب. وهو الحكم الذي من شأنه أن يؤثر تأثيرا عميقا على القانون الدولي، ويردع أولئك الذين قد يرتكبون فظائع أخرى، ويفتح إمكانية المصالحة السياسية في البوسنة. 

نتذكر الآن قادة خارجين على القانون، في سوريا والسودان وجنوب السودان وروسيا وتنظيم الدولة الإسلامية، بالإمكان إخضاعهم للعدالة الدولية. وليس مجرمو الحرب وحدهم من عليهم التفكير مليا في هذا الحكم.

ولا تزال آراء كراديتش الحارقة "لا يمكن للمسلمين أن يعيشوا مع الآخرين"، كما قال ذات مرة يتردد صداها في زوايا مظلمة من أوروبا خائفة وهي تكافح من أجل إسكان مئات الآلاف من اللاجئين المسلمين، كما يتردد صدى الحملات الرئاسية لكل من دونالد ترامب وتيد كروز في الولايات المتحدة.

فقبل عشرين عاما، في سنة 1996، كنت مستشارا لمادلين أولبرايت ثم سفير أميركا لدى الأمم المتحدة بعد ذلك، لقد بذلنا أقصى جهدنا في مجلس الأمن القومي الأميركي لاعتقال كراديتش وكان قد تم توجيه الاتهام إليه من قبل المحكمة الجنائية الدولية قبل ذلك بسنة، وكان اٍلى جانبه الجنرال راتكو ملاديتش من صرب البوسنة، والذي لا تزال محاكمته في لاهاي جارية.

لسنوات، كان من الصعب القبض على كل منهما، وحدث ذلك جزئيا بسبب العديد من المسؤولين في حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الذين لم يكونوا على استعداد بعد لقبول المخاطر المرتبطة بإلقاء القبض عليهم.

كان ذلك الخجل خطأ؛ فقد سمح لكراديتش وملاديتش بالتأثير على السياسة في البوسنة والافتخار في تحد لحكم القانون لسنوات، وبعد القبض عليهما في صربيا قبل أقل من عشر سنوات، كشفت محاكمتهم أدلة أعمال وحشية لم تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

كانت جرائم كراديتش السبب الرئيسي في خلق الرئيس بيل كلينتون منصب سفير الولايات المتحدة لقضايا جرائم الحرب، ولهذا وافق مجلس الشيوخ على تعيني لشغل هذا المنصب خلال فترة كلينتون الثانية. وأغرق كراديتش بلاده في أعماق الجحيم، وبعد ذلك وبعد أن اتهم بالجرائم التي قام بها، كان قد هرب.

وكانت الولايات المتحدة بحاجة إلى مبعوث متفرغ للمساعدة في بناء ودعم المحاكم التي من شأنها أن تقدمه هو وغيره من مدبري الأعمال الوحشية إلى العدالة في نهاية المطاف. وهو ما كشف عن دور حاسم لعبته الولايات المتحدة في السعي لتحقيق العدالة الدولية، بدءا من نورمبرغ وحتى يومنا هذا.

لا تزال آراء كراديتش الحارقة "لا يمكن للمسلمين أن يعيشوا مع الآخرين" كما قال ذات مرة يتردد صداها في زوايا مظلمة من أوروبا خائفة وهي تكافح من أجل إسكان مئات الآلاف من اللاجئين المسلمين

الانتظار عقودا
وانتظر ضحايا البوسنة المسلمين عقودا قبل اعتبار المحكمة الدولية التطهير العرقي إبادة جماعية، وهو ما عانوا منه خاصة عام 1992، الذي كان أسوأ عام من الصراع والإبادة الجماعية.

ومن الجدير بالذكر أن المحكمة وجدت كراديتش مرتكبا جرائم ضد الإنسانية خلال الحرب، وكانت هذه الأنواع من أكثر الجرائم وحشية مثل الإبادة الجماعية، ووجدت المحكمة أيضا أن أعمال الإبادة الجماعية (قتل المسلمين وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم) ارتكبت عندما هاجم صرب البوسنة سبع بلديات ذات أغلبية مسلمة عام 1992.

وتعرضت سراييفو العاصمة لثلاث سنوات من تكتيكات القنص والقصف والمجاعة التي أودت بحياة الآلاف من مسلمي البوسنة، ومع ارتباك الغرب واصل كراديتش الحصار، وسعى لإبادة سكان المدينة، وأدانته المحكمة "بنشر الإرهاب" وقتل المدنيين في سراييفو، وهو بوصفه إرهابيا لا يختلف عن هؤلاء الذين يدمرون حياة المسلمين والإيزيديين والمسيحيين في العراق وسوريا اليوم.

وحكم القضاة أنه لا يوجد ما يكفي من الأدلة ضد تدمير كراديتش جزءا أو كل الشعب المسلم في البلاد، لكي يدان بالإبادة الجماعية، لكنهم أدانوه بالإبادة الجماعية في مذبحة سربرنيتشا عام 1995.

وأخيرا، فإن التكتيك الفظ الذي اعتمده كراديتش في مايو/أيار 1995 بالاستيلاء على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة رهائن من أجل تخويف حلف شمال الأطلسي (ناتو) أكسبه حكم إدانة آخر بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وهذا سيتذكره الجميع بالنظر إلى أن هدف قوات حفظ السلام هو إدارة حالات الصراع في كل أنحاء العالم.

ويمكن أن تكون لدى هذا الحكم انعكاسات مهمة على المستقبل السياسي في البوسنة. إن اتفاقيات دايتون للسلام التي أنهت الحرب عام 1995، لا يزال بإمكانها توحيد المجموعات العرقية في البوسنة. ومن خلال زياراتي البوسنة قال لي ضحايا جرائم كراديتش إنهم في حاجة إلى كشف الحقيقة وإدانة القتلة أولا قبل أن يتمكنوا من التصالح مع جيرانهم الصرب.

حتى الآن، كانت خطى الوصول إلى الحقيقة بطيئة، ويستخدم ميلوراد دوديك رئيس جمهورية صرب البوسنة إنكار الإبادة الجماعية للحفاظ على سلطته واعتماد الانفصالية المليئة بالكراهية، لكن إدانة كراديتش بالإبادة الجماعية قوضت دعايته. وانطلاقا من هذا الحكم، يمكن للتقارب بين المسلمين والصرب أن يتحقق في النهاية.

إن الدرس الذي ينبغي للسياسيين في أوروبا والولايات المتحدة وأماكن أخرى استنباطه من هذا الحكم هو أنهم يلعبون بالنار في السعي وراء مزايا انتخابية من خلال مهاجمة المسلمين، وكما أظهرت الأحداث في البوسنة في التسعينيات، وتظهر الأحداث في سوريا والعراق اليوم بشكل مأساوي جدا، فيمكن بسهولة أن يتحول اللهيب الذي يثيره الطغاة إلى حرائق هائلة.

سيستأنف كراديتش الحكم، لكن في نهاية المطاف سيكون الناجون من فظائعه قادرين على تجاوز العيش في الماضي والتطلع إلى المستقبل.

ــــــــــــــــــــ
أستاذ القانون في جامعة نورث وسترن والسفير المتجول الأميركي السابق لقضايا جرائم الحرب، وهو مؤلف كتاب "النفوس المفقودة: التاريخ الشخصي لمحاكم جرائم الحرب".

المصدر : بروجيكت سينديكيت