سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس

كتاب - سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمرة
سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمرة

عرض/محمود الفطافطة

إن توثيق الفعل الوطني الفلسطيني وتوطيد الذاكرة المدافعة عن الأرض وعن رمز مقدس عنوانه: القدس التي هي "مدينة الله"، يعد من أشكال النضال العديدة التي يخوضها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال. هذا التوثيق يساعد، تراكميا، في خلق مساهمة نظرية؛ تفسر الكفاح الشعبي المقدسي وآفاقه، وهذا ما نجده -في جزء منه- في دراسة الباحث أحمد عز الدين أسعد الذي توقف فيها أمام رمزية القدس التي لا تقبل بالمساومة، والفعل المندفع للذود عنها.

مثل هذه الدراسة تميزت بالنزاهة الفكرية عبر تناول الواقع وما يعيشه المقدسيون، دون أن يقع الباحث في خيارات حزبية ضيقة أو تصادر منظوره أيديولوجيات جاهزة، تتقن الكلام أكثر مما تعرف الفعل.

فالباحث استطاع، في مراجعته العملية والنظرية، أن يتجاوز البدهية القائلة: الاحتلال يولد المقاومة، التي تتسم بشيء من العمومية، وأن يقرأ "العالم الداخلي المقدسي المحتل"، الذي تجتمع فيه أزمنة ماضية وحاضرة وأزمنة قادمة، لا يرى نفسه فيها خارج القدس أو بمنأى عنها.

‪الكتاب: سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمرة‬ الكتاب: سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمرةالمؤلف: أحمد عز الدين أسعدالناشر: مركز أبحاث منظمة التحرير/ رام اللهالطبعة: الأولى، 2018عدد الصفحات: 96
‪الكتاب: سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمرة‬ الكتاب: سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمرةالمؤلف: أحمد عز الدين أسعدالناشر: مركز أبحاث منظمة التحرير/ رام اللهالطبعة: الأولى، 2018عدد الصفحات: 96

يتكون الكتاب من تقديم كتبه الناقد والأكاديمي فيصل دراج ومقدمة وأربعة فصول، إضافة إلى الاستنتاجات وقائمة المصادر والمراجع والملاحق.

في التقديم يذكر دراج أن الأسباب التي تدعو إلى قراءة هذا الكتاب عديدة، فهو يقوم على دراسة شاملة تتضمن وقائع الكفاح التي جسدتها فئات فلسطينية متعددة العقائد والأصول، ومتباينة الأعمار ومختلفة الجنس، ومتنوعة في انتماءاتها الحزبية السابقة أو اللاحقة. ويشير دراج إلى أن الفلسطيني يستطيع أن يرى في هذا الكتاب "ملحمة القدس"، وأن يقرأ في الملحمة-المأساة أوضاع الفلسطينيين في عموم فلسطين المحتلة.

جدلية التنظير والحضور
في المقدمة، يبين المؤلف أن الهدف من دراسته يكمن في تقديم قراءة سوسيولوجية تحليلية للأحداث التي وقعت في مدينة القدس في شهر تموز من العام 2017، في حين أن أهميتها تنبع من أهمية موضوعها الذي يبحث في آليات المقاومة المقدسة، والمحاولة في استكشاف بنية المقاومة والصمود التي مكنت المقدسيين من الانتصار وردع إجراءات الاستعمار الإسرائيلي الجديدة بحق المسجد الأقصى، إلى جانب توظيف الدراسة لنظريات سوسيولوجية تفسر المقاومات الجديدة التي أبدعها المقدسيون والجماهير المشاركة معهم في التصدي للممارسات الاحتلالية.

الفلسطينيون عندما يطورون معرفة أفضل بمنظومة المراقبة الإسرائيلية يصبحون قادرين على كسر هذه المنظومة

الفصل الأول جاء تحت عنوان "سوسيولوجيا المقاومة والحراك.. الجدل النظري والمنهجي". وفيه يسرد ويشرح الباحث الجدل الحاد والدائم في ما يتعلق بثنائية السلطة والمقاومة. وفي هذا الصدد يركز على مجموعة من المفكرين والباحثين كميشيل فوكو الذي يرى أن المقاومة توجد حينما توجد سلطة، وأن كل سلطة تمتلك قوة وهيمنة وسيطرة وتخوض صراعات خفية وظاهرة، وأن المقاومة هي رد على هيمنة السلطة.

كما جادلت نورهان أبو جدي بأن الفلسطينيين يشكلون من خلال مقاومتهم، فاعلية حقيقية في صياغة هندسة الصراع. وتبين أن الفلسطينيين عندما يطورون معرفة أفضل بمنظومة المراقبة الإسرائيلية يصبحون قادرين على كسر هذه المنظومة والنفاذ منها لتسيير شؤون حياتهم اليومية.

كذلك، يورد الباحث رؤية المفكر عزمي بشارة في هذا الخصوص التي تؤكد أن المعركة مع الاستعمار الإسرائيلي هي معركة ضد استعمار استيطاني وليست حربا دينية على المقدسات.

من هنا، فإن معركة القدس الأخيرة ليست انتفاضة دينية، بل انتفاضة وطنية شاملة اتخذت من الحرم القدسي الشريف رمزا لها، والأقصى مقدس للمتدينين وغير المتدينين كرمز وطني فلسطيني، والخلاف مع إسرائيل ليس على قدسيته للمسلمين، بل على احتلاله من قبل إسرائيل.

وفي هذا الفصل يؤكد الباحث أن الحراك المقدسي من حيث دوافع المشاركة والحشد وفن الحضور والممارسة كسياسة في الشوارع والميادين العامة هي أقرب في التصنيف إلى حالة اللاحركات اجتماعية منها إلى حركة اجتماعية، وهذا مرده إلى أن الانتساب إلى حركات اجتماعية سابقا والمشاركة في فعالياتها أكسب جزءا من المقدسيين الخبرة والتكتيك في الانخراط في الحركات الاجتماعية التي تتميز بالقيادة وتوجيه الحراك بالفعل وليس بالأيديولوجيا.

شهدت القدس عددا من أنماط المقاومة تاريخيا، فهبة البراق عام 1929 شهدت مقاومات مسلحة وأخرى غير مسلحة

سياسات ومقاومة
الفصل الثاني "القدس.. سياسات الاستعمار، وأنماط الصمود والمقاومة" يتطرق الكاتب إلى محورين؛ الأول يناقش فيه سياسات الاستعمار الإسرائيلي في القدس، مجملا الأعمال الاستعمارية التي مارستها إسرائيل بحق المدينة المقدسة في مصطلح "تطهير الهوية الفلسطينية في القدس"؛ أي تطهير الفلسطنة والتي تشمل: التطهير العرقي، والتطهير المكاني، والتطهير الاجتماعي، والتطهير الثقافي والاسمي.

أما المحور الثاني، فسيرد فيه الكاتب تحولات أنماط المقاومة في القدس، إذ شهدت القدس عددا من أنماط المقاومة تاريخيا، فهبة البراق عام 1929 شهدت مقاومات مسلحة وأخرى غير مسلحة، كما كان لثورة عام 1936 طابع العصيان المدني الذي عم كل فلسطين بما فيه القدس، ومورس خلالها العمل المسلح، أيضا. وشهدت القدس حراكا مقاوما بعد النكبة، وتصاعد الحراك المقاوم فيها بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965.

أما إبان الانتفاضة الشعبية عام 1987 فقد ساد القدس نمط المقاومة الشعبية. ويؤكد الباحث أنه لا يمكن الجزم بأن هناك نمطا أو أنماطا محددة للمقاومة في القدس، وإنما هناك مزج بين عدد من الأنواع والأنماط خلال عمليات المقاومة المختلفة، وفي فتراتها التاريخية.

الفصل الثالث جاء تحت عنوان "محاولة في تأطير سياسة/ثقافة المقاومة في القدس" يذكر فيه الباحث أن غالبية المبحوثين يجمعون على أن دافع الحراك والانتفاض ليس فقط بسبب تركيب البوابات الإلكترونية، وإنما يتمثل الدافع في الممارسات الإسرائيلية بكل أشكالها من إغلاق الحرم والعبث بمحتوياته وفرض منع التجوال، ونية إسرائيل المبيتة لتحقيق التقسيم المكاني والزماني في المسجد الأقصى.

كل ذلك -وفق الكاتب- دفع المقدسيين لرفض البوابات وسائر التغييرات على الوضع القائم، كونهم تعلموا جيدا الدرس مما حدث للحرم الابراهيمي في الخليل، وإنهم خاضوا الحراك خوفا من التحركات السياسية التي يخسر الفلسطينيون فيها دائما، كما أن رمزية الأقصى الدينية والوطنية والثقافية تشكل محفزا قويا للتحرك والرفض والثورة.

الشعب الفلسطيني في كل الجغرافيات الاستعمارية هو شعب واحد رغم كل التمزقات

السمات والفاعلين
وفي هذا الفصل، وهو الأوسع، يتطرق الكاتب إلى عديد المحاور المتعلقة بذلك الحراك، وأهمها: سمات الحراك، وأبرزها: السلمية، العفوية، والعناد والإصرار والصمود، وتكاملية الهبة وشموليتها، ولا حزبية الهبة، وطابعها كلاحركة اجتماعيه، والمقاومة كحياة يومية، وانتشار الضمير الجمعي، والعلاقات الاجتماعية القوية، والقدرة على النصر.

كذلك، من المحاور: فلسطينيو عام 1948 ودورهم في الحراك؛ إذ شكلوا جزءا من بنيته، وغذوا تشكيلاته الاجتماعية. وهذه المشاركة حملت إشارات ورسائل هامة، منها: أن الشعب الفلسطيني في كل الجغرافيات الاستعمارية هو شعب واحد؛ رغم كل التمزقات السياسية والجغرافية والأيديولوجية، وأن الفلسطينيين الخاضعين للاستعمار الاستيطاني أسقطوا كل الاحكام المسبقة والصور النمطية المزدوجة المروجة عنهم فلسطينيا وإسرائيليا؛ بأنهم انخرطوا وتماهوا مع المجتمع الإسرائيلي ونظامه الدولاني؛ إلا أن مواقفهم وخطابهم وسلوكهم يؤكد يوما بعد يوم، أن بوصلتهم تشير إلى القدس.

وفيما يتعلق بمحور دور الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، فالدراسة تشير إلى انقسام آراء المبحوثين، إذ تراوحت الآراء بين عدم وجود أي دور أو وجود دور هامشي، وآراء وضحت أن هناك أدوارا محدودة، في حين بيّن بعض المبحوثين أن هناك دورا لوجستيا وإسناديا قامت به بعض المؤسسات مثل برج اللقلق ومقر الجالية الأفريقية، كما أشار بعض المبحوثين إلى أن غالبية المشاركين من الأحزاب كانت بناء على قرار شخصي وليس التزاما بقرار التنظيم.

وبخصوص الموقف الرسمي الفلسطيني، فقد اختلف المبحوثون في تعبيرهم عن طبيعة هذا الموقف، فمنهم من أكد على وجود دور وموقف رسمي هام وفاعل، ومنهم من رأى الموقف ضعيفا ومتأخرا، وآخرون لم يروا أي دور أو موقف للجانب الرسمي، أو أنه غير فاعل؛ لأن المرابطين والمصلين كانوا لا ينتظرون هذا العمل.

أما بشأن محور الشباب والمرجعيات الدينية، فقد أجمع المبحوثون على الدور التكاملي للشباب والمرجعيات الدينية في قيادة الهبة بالقدس وتوجيهها وتعزيزها ومراكمتها. وقد تبين أن هناك تقاسما عمليا وظيفيا بين الشباب الذين تولوا مسؤوليات ميدانية، مقابل تولي المرجعيات أدوارا توجيهية وإرشادية ودبلوماسية.

وفي ما يتعلق بدور الوسائل الإعلامية في الحراك، فقد أجمع غالبية المبحوثين على أن للإعلام دورا مركزيا في الحراك المقدسي، سواء أكان الإعلام التقليدي أو الإعلام الجديد. إذ رأوا أن الإعلام كان السلاح الوحيد الذي نقل رسالة الحراك وأهدافه إلى العالم.

هناك تنوع سوسيولوجي للنخبة المقاومة في القدس إبان الحراك، وهناك نخب تشكلت في الميدان

المقاومة بالحيلة!!
في الفصل الرابع "ما بين الميدان والنظرية.. مقاربة سوسيولوجية تحليلية"، يرى الباحث أن المعركة في فضاءات القدس لم تنحصر، بل إنها، وبفعل الإعلام الجديد والتقليدي انتقلت من القدس إلى شتى بقاع العالم، وبلغات مختلفة، ونجح الفلسطينيون في نقل الأحداث وتوثيقها بالصوت والصورة، وبالكتابة.

في الاستنتاجات يؤكد المؤلف أسعد أن هناك تنوعا سوسيولوجيا للنخبة المقاومة في القدس إبان الحراك، وأن هناك نخبا تشكلت في الميدان لم تأخذ المفهوم الكلاسيكي للنخبة.

ويذكر الكاتب أن الحراك شهد ما يعرف بـ"المقاومة بالحيلة"، وتمثلت في مجموعة من النكشات والنكت والحيل والسلوك والأعمال والأصوات والصلوات والأكلات، التي كانت تغضب وتستفز وتخيف الجنود الإسرائيليين والشرطة.

في الخاتمة، يوضح الكاتب أن معركة القدس وفلسطين لم تنته، بانتصار هنا أو هزيمة هناك؛ بل هي حرب إزالة بمنطق باترك وولف، فما دام هناك قدس عربية وفلسطينيون أصلانيون، فإن الحرب عليهم مستمرة، والمقاومة فيهم مستمرة كذلك. ويبين أن درس الحراك أظهر أن للقدس شبابها وبناتها وشيبها ومرابطيها ومرابطاتها يدافعون عنها في كل مكان وزمان.

وبهذا، فإن ميزات الدراسة عديدة؛ أهمها: أن الباحث منح المبحوثين مساحة كبيرة من أجل سماع روايتهم وحكاياتهم عن الأحداث والمقاومة كحياة يومية في القدس، وهذا الأسلوب مهم في إظهار المبحوثين كفاعلين وذوات، إضافة إلى إستنادها لكتب وروايات أرشيفية صدرت حديثا من مقدسيين عايشوا المشهد ووثقوه.

المصدر : الجزيرة