خليل فرعون.. ضرير مقدسي يقاوم بالكعك

عاطف دغلس-العيزرية (شرق القدس)

بخطى الواثق يسير بمحاذاة الرصيف ملكا، يسترشد الطريق ويتحسسها بعجلة عربته الأمامية، لا تخرج عن الطريق الذي أبصره قلب الرجل قبل عينيه، وبصوته الحاد يصيح مناديا "كعك كعك"؛ إنه الكفيف الفلسطيني خليل فرعون.

عند السابعة صباح كل يوم تكون سيارة الأجرة المحملة بالكعك المقدسي القادم من منطقة باب حطة (أحد أبواب المسجد الأقصى) قد حطت رحالها أمام منزل خليل في بلدة العيزرية (شرق القدس المحتلة)، يكون الرجل الأربعيني قد أعدَّ جيدا عربته ووضع "فرش" الكعك فوقها، إضافة إلى الفلافل والبيض المسلوق اللذين جهَّزهما وأعدهما سابقا مع توابل الكعك.

كل ذلك لا يستغرق الوقت الكثير بالنسبة لرجل في حالة خليل، فهو تمرَّس بعمله في بيع الكعك جيدا، وصار وسيلته لكسب قوته وقوت أطفاله الاثنين ووالدته التي ولجت عقدها الثامن وهي تعيش معه داخل بيته، تعرفه أيضا أزقة البلدة وشوارعها التي تزدحم بالناس والمركبات، لا سيما في أوقات الصباح والظهيرة.

رائحة القدس
رغم حرقتها تبدد شمس الصباح همَّ الرجل وغمه، وتتقاطر فوق جبينه حبات العرق بفعل مشوار طويل بالنسبة له يمتد لكيلومترين من المنزل وحتى نقاط بيعه، فالصباح وقت الذروة لبيع الكعك (خبز بالسمسم)، فزبائنه من السياح والمواطنين يفضلون فطورا شهيا وخفيفا في الوقت ذاته.

يغلف خليل كعكه ليحافظ على جودته (الجزيرة)
يغلف خليل كعكه ليحافظ على جودته (الجزيرة)

واعتاد الناس ذلك منذ أمد، وهم يقصدونه رغم كثرة المخابز التي تُعد الكعك في بلدته العيزرية، ويقول مخبرا الجزيرة نت إنه يحافظ على مهنة "عريقة تحمل نكهة القدس ورائحتها الطيبة"، وإن اسمه ارتبط ببعض معالم البلدة التي يتخذها نقاط بيع له، كدوار جامع حمزة وساحة الكنيسة، وهناك ينتظره الزبائن ليبتاعوا كعكهم منه.

وعانت العيزرية كغيرها من قرى ومناطق شرق القدس من عزل عنصري إسرائيلي تمثل في بناء الجدار الفاصل مطلع انتفاضة الأقصى عام 2000 وحرمان السكان من التواصل مع مدينتهم الأم واستمرار ملاحقتهم والتضييق عليهم بهدم منازلهم ومنعهم من تراخيص البناء.

زاول خليل مهنته ببيع الكعك قبل أن يُصاب بالعمى بسنتين، كان ذلك عام 2004 نتيجة حادث عرضي بالعمل أدى إلى إصابة إحدى عينيه ثم ما لبث أن انتقل المرض لعينه الأخرى فأدماها، لكن ذلك لم يقعده عن طلب رزقه ليمنع نفسه سؤال الناس، رافعا شعاره "طالما وُجد العقل فلا عجز".

برزت حنكة خليل أكثر في شعاره "أنا أعمى، هذا مصدر دخلي الوحيد" الذي خطه على سترته وعربته الخشبية بلغات عالمية كالبولونية والإسبانية والإنجليزية التي يحفظ أيضا بعض كلماتها لينادي بها زبائنه. ويقول خليل إنه يلفت نظرهم بهذه الطريقة، لا سيما أولئك الأجانب الذي يقصدون البلدة لزيارة معالمها السياحية.

أسقط الرجل كذلك ما اكتسبه من خبرات في عمله سابقا في التزيين وتنسيق الورود قبل أن يغدو ضريرا، فألصق فوق جدران عربته صورا للفلافل والكعك بطريقة تجذب الزبائن.

يمكنه أيضا أن يُميّز العملات النقدية وقيمة كل قطعة كالورق والمعدن، يقلبها بين يديه ثم يدسها في جيبه ليضيفها إلى مبلغ من المال يجمعه آخر النهار لسداد ثمن الكعك الذي اشتراه وينتفع وأسرته ببقية المبلغ.

 السياح الأجانب الذين يزورون بلدة العيزرية يبتاعون الكعك من خليل فرعون (الجزيرة)
 السياح الأجانب الذين يزورون بلدة العيزرية يبتاعون الكعك من خليل فرعون (الجزيرة)

فطور الحي
يدرك حمزة أبو زياد، أحد زبائن خليل، مهمة خليل وتحديه لكل "الظروف القاهرة" ويحرص على شراء الكعك منه بشكل شبه يومي، ويقول إنهم ينتظرون "كعك القدس" بفارغ الصبر، فبه يستذكرون مدينتهم التي يحرمهم الاحتلال من دخولها.

وهي حال المواطن يونس حمد سائق إحدى الحافلات التي تقل السياح، والذي "لا يفوت يوما" دون أن يشتري كعكا من خليل، ويبتاع لعائلته ولزملائه في العمل، الذين يعدونه وجبة إفطارهم في معظم الأيام، ويقول "إن الحي بأكمله اعتاد شراء الكعك، خاصة في أوقات الصباح".

مع أوقات الظهيرة يكون خليل قد باع الجزء الأكبر من كعكه أو جميعه، ولهذا تجده يغلفه ليمنع عنه أشعة الشمس وليحافظ على طراوته وهو ما يجعله مميزا ويرفع حجم مبيعاته.

في العيزرية من لا يدرك القدس يدرك كعكها، وهنا يحرص خليل ببصيرة قلبه للمحافظة على تقليد اعتادته البلدة منذ سنوات وصار بالنسبة له أكثر من تجارة ووسيلة لكسب الرزق.

المصدر : الجزيرة