سبعون من العار يا قدس وأنت في شموخ

سبعون من العار يا قدسُ وأنتِ في شموخ
هذه أيام عصيبة على القدس، ليست كباقي الأيام؛ فإن كانت الأيام -كما يقولون- دولا فإنها ما دالت منذ سبعين خريفا حطت على أعجاز النظام العربي الرسمي. منذ سبعين عارا والعار هو العار؛ لم يختلف إلا بزيادة الوزن، ولم يتغير إلا بدس كاتم الصوت في أحلام الشعوب العربية المنتظرة على حافة الوديان وفي قيعان الجبال وعند حاويات الجوع، وما تبقى هناك من خطط لاسترجاع أكاذيب الساسة العرب في التحرير المزيف.

سبعون -يا سادة القدس الكاذبين- ونحن عبيد لفكرة التحرير، فأضحينا عبيدا لمن قال لنا: دعوا التحرير علينا، وأنتم انشغلوا فقط بالتصفيق لنا؛ ومن شدة قبحنا صدقناهم وأرسلنا الأيادي تلو الأيادي فأقاموا لها مجازر تقطيع وحفلات زار تنتهي بالكي وطلب المغفرة و(بوس التوبة) كي لا نعيدها!

سبعون نعم؛ من العار الثقيل على كل الذين تنطعوا للقدس فأضاعوا باسمها فلسطين كلها؛ ولكنها سبعون من الشموخ والمعجزات التي لا تتكرر من الصمود، وفتح دفاتر أصحاب الصفقات الذين تدربوا جيدا على البيع والشراء، وما استطاعوا أن يتدربوا على مسح التاريخ المكتوب بالضمائر التي لا تموت ولو كان السلاح الموجه إليها نوويا!

أمة كأمة العرب أهدرت مالها وعمرها ووزنها وهي تبحث عن أسياد من خصومها لتقبل أياديهم

ماذا يقول أولئك العرب التجار الفجار بعد أن شاخت سمعتهم وبال عليها الرائح والغادي بعد سبعين هزيمة ورثوها عن أكابرهم (الصغار) الذين أقاموا الحد على الجائعين بأوطانهم ولم يقيموا الحد على الأعداء؟ أولئك العرب الذين تتغير مقاسات بناطيلهم كل يوم لنقص في طولهم الوهمي وعودتهم أقزاما لنقص (العملقة) المفترضة في القادة عادة.

أولئك الذين تتغير مقاسات أحذيتهم كل ساعتين لتورم أقدامهم من المشي الحثيث نحو أسيادهم لعلهم يفتحون لهم بابا للرضا الذي يزول مع زيارة قائد كاذب آخر يقنعهم بأن حل القدس النهائي لديه وأن الشعوب ملك يمينه وهو (لا يمون) على ذرة تراب علقت في نعال طفل مقدسي يتمتع بشمس فلسطين التي لا تغيب ولو ركب نهارها وليلها مليار صهيوني يستأنسون بذل قادة لنا زعموا أنهم زعماء وما زعمهم إلا أباطيل لا تحتاج إلى دليل بعد رؤيا العين!

ترعبني النكبة السبعون؛ لا أنكر ذلك رغم تمسكي بأن الأمل لن يسقط من الشعوب حتى وهي ترزح تحت كل إحباط؛ لكن أمة كأمة العرب أهدرت مالها وعمرها ووزنها وهي تبحث عن أسياد من خصومها لتقبل أياديهم.

رجل في أربعينيات عمره مثلي؛ قضى النصف الأول من العمر وهو يصدق أنه سيصلي في القدس، وصدق أن علم فلسطين سيرفرف هناك فوق أعالي الأعالي، وأقنعوه وقتَ نشوة أن (الأمم لا تقاس بالسنين)، ولكنه اكتشف بعد ذهاب النشوة أن الصلاة في القدس مرهونة بحراب الأعداء، وأن القدس الشرقية ستلحق بأختها الغربية، وأن عبارة (الأمم لا تقاس بالسنين) قصد بها الثوار الكاذبون (الأبد) نعم (الأبد) الذي لا نهاية له!

كل الأمم تجاوزت محنتها في سنوات قليلة إلا أمة القدس المحنة عندها تصبح محنا، كل الأمم ينقصها المال والثروات والرجال والعدة والعتاد لتبني أوطانها، إلا نحن أمة القدس لا ينقصنا مال ولا رجال ولا عقيدة، ومع ذلك تصغر أوطاننا كل يوم ويتسع خرق القدس على الراتق! أية أمة تضمحل من غير مبررات إلا نحن؟! أية أمة تموت بالمجان كل يوم إلا نحن؟! أية أمة للآن تسلم أمرها للذين تعلم تماما أنهم لا يملكون لها حلا حقيقيا إلا نحن؟!

القدس لا تعترف بكل ألاعيبكم ولم تعطوها الوقت لتستعد لمعركة لم تسمحوا لها للآن بأن تدخلها

ها هي السبعون قد غزتكم، واستقرت في تفاصيل قصوركم، وها هي ترفع إشارة نصرها فوق رؤوسكم؛ رأسا رأسا، لكنها لا ولن تستطيع الاقتراب من القدس ذاتها لأنها تعلم أن الهزيمة لكم وحدكم، وأن القدس لا تعترف بكل ألاعيبكم ولم تعطوها -أصلا- الوقت لتستعد لمعركة لم تسمحوا لها للآن بأن تدخلها، وكل ما تفعله الحزينة هو أنها تقاوم وتقاوم وستقاوم ولن تهزم ما دام لديها رصيد بلا حدود من الشهداء الأحياء، ومن سلاح المكان الذي يدافع معهم، ومعها أيضا شيء تسمعون عنه ولا تعرفونه: الشرف الرفيع. أما أنتم فابقوا في حسابات السنين وحسابات أرصدة القهر التي توزعونها على شعوبكم باسم تحرير القدس والقدس منكم براء.

سبعون قهرا يا قدس والصادقون يخلفون لك الصادقين ويورثونهم مفاتيح الأبواب، وبوصلة القدس التي لا تتغير مع كل الجهات ومع كل الصفقات ومع كل الغرف المغلقة والمفتوحة، سبعون والذين هربوا منك ليتسلموا مكافأة هربهم يخلفون لنا الهاربين الجدد، والذين يرون في القبض على من يهربون الدخان نصرا مؤزرا ما بعده نصر وأهم من تحرير القدس، سبعون من الصمود هناك والقعود هنا، سبعون من الأسلحة التي تقتل أبناءها كالثورات الرسمية المزيفة، وسبعون من الترحال الذي سيكون آخره شد الرحال إليك رغم أنف الذين أوقفوا حاسة الشم في أنوفهم؛ فتساوت لديهم رائحة الشهادة ورائحة العار الذي يأكل معهم في صحن واحد وهم يقهقهون معه ويضربون كفهم بكفه كأنه أخوهم في الرضاعة.

المصدر : الجزيرة