هل أدركت مصر ما يتهدد سيناء؟

أليات عسكرية في سيناء


يمكن أن تكون مصر قد بدأت تفكر في مقاربة مختلفة للوضع في غزة تختلف عن المقاربة الحالية القائمة من بين أمور أخرى على فتح المعابر لأيام معدودة بحسبان أن هذا يكفي لتنفيس الضغط المتفاقم في غزة على مدى أشهر، بل وسنوات.

يتوجب أن تدرك مصر أن هذا الضغط جعلها تجاور قنبلة موقوتة لن تقدر على مجابهتها؛ والقنبلة ليست ما أقامه نحو ألف وخمسمائة مسلح تحت مسمى "ولاية سيناء" ومبايعتهم لما يسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، بل إمكانية تحول هذه "الولاية" لمقر لتلك الدولة بعد القضاء عليها في الشام والعراق.

والقضاء على "داعش" بمعنى اقتلاعها من معقلها في سوريا والعراق بات مسألة وقت، بعد اتفاق كافة الأطراف الدولية وبعض أهم القوى الإقليمية على كونه أولوية بما لا يقل عن شن حرب عليها، بالأصالة للبعض وبالوكالة لآخرين.ولكن هذا الاقتلاع لن يشكل نهاية الداعشية، بل ستتفتق حيثما وجدت حاضنة مواتية مهما صغرت مقومات تلك المواتاة، وستجذب أنصارا وتجند مقاتلين من العالم مستعدين لقطع مئات وآلاف الأميال والتحايل لعبور كل الحدود مهما شددت إجراءات عبورها للانضمام للتنظيم الذي لا ينتمي لقومية ولا لأرض ولا لقضية، ولا حتى لثقافة بعينها بدليل رفض الغالبية الساحقة من المسلمين لها.. فالتجنيد يجري بمعادلة مبسّطة تقدم الموت على الحياة، ما يجذب القتلة كما الانتحاريين الذين يريدون لموتهم أن يحدث ضجة، كونهم في الحياة غير قادرين على أحداث أي فارق ولو لأنفسهم.

القضاء على "داعش" بمعنى اقتلاعها من معقلها في سوريا والعراق بات مسألة وقت، بعد اتفاق كافة الأطراف على كونه أولوية بما لا يقل عن شن حرب عليها، ولكن هذا الاقتلاع لن يشكل نهاية الداعشية، بل ستتفتق حيثما وجدت حاضنة مواتية

ولكن كون الداعشية حالة نفسية شهد العالم مثلها الكثير "بلبوسات" دينية أو أيديولوجية مختلفة، لا ينفي حقيقة أنها أقدر على استقطاب المسلمين من العالم العربي بالذات بتوظيفها للتاريخ العربي الإسلامي في نسخة تخلط المكون التاريخي والسياسي، وباستحضار بعض أسوأ وأعنف الممارسات السياسة التي جاء بعضها نتاج عصور كانت تقبل فيها مثل تلك الممارسات، بالمكون العقدي الديني بانتقائية غير أمينة يصعب على المسلم البسيط أن تبينها.

وقد ثبت أن أغلب القابلين "للتدعيش" هم من قطاع المظلومين فاقدي الأمل، وجلهم موطّنون على أشكال معلنة أو غير معلنة من العنف. وهؤلاء لا تلزم غالبيتهم أية درجة من الإقناع، بل يكفي غضبهم المتراكم الذي لا يجد متنفسا، أوهم يجندون فقط باعتبار أن التجنيد يمثل وظيفة ليائسين ممن لا يملكون قوت يومهم، هذا في مقابل قطاع آخر موسر ولكنه أقل يبحث عن الإثارة. ولكن المشترك بين كل هؤلاء أن عليهم إعلان قناعاتهم بالفكر الداعشي وولاءهم المطلق للخليفة، والالتزام العسكري بكل الأوامر والتعليمات بحرفيتها، ما يؤدي بهم لطريق لا عودة منه في الأغلب الأعم.

وهذا الأمر أثبتته دراسات عديدة لواقع قطاع المجندين للقتال مع داعش. ولهذا فإن أول ما يجب عمله لوقف "التدعيش" هو تجنب وجود حالات ظلم أو عزل اجتماعي أو سياسي في أية بقعة من العالم. والأهم أن لا يغض الطرف، أو يجري التواطؤ على خلق بيئة ظلم وحرمان جديدة وتكريسها في قلب العالم العربي الإسلامي بما يجعله مرشحا لأن يكون "ولاية" داعشية، أو مغريا لفكرة نقل مقر "الخلافة" له بعد تصفية المقر الحالي في سوريا والعراق.

وهذا الظلم والعزل يجري الآن لقطاع غزة، وبجانبها تتأهل سيناء بصحرائها -كما تأهلت الصحراء السورية العراقية ومن قبلها جبال طورا بورا وجبال باكستان– لاحتضان إمارة كهذه جغرافيا.. والأخطر أنها تتأهل سكانيا أيضا. فجنوب سيناء شحيح السكان، ولكن مهمل تنمويا من الحكومات المصرية منذ عهد مبارك وإلى يومنا هذا. وهؤلاء المهمشون باتوا يتصلون بقطاع غزة المحاصر من كل الجهات حد إغلاقه كليا على مليوني إنسان لا يجدون قوت يومهم وحليب أطفالهم ودوائهم، ولا أمل للقطاع الأوسع من شبابه ولا مستقبل لهم سوى تكرار قصفه وهدم البيوت عليه كما يحصل منذ فترة طويلة، ولا يبدو أن شيئا سيتغير إلا للأسوأ.

التقارير الجديدة التي تستصرخ العالم تشير لتحول القطاع الأعلى كثافة سكانية في العالم لما يشبه "معسكر إبادة" للغزيين. وكما في السجون شديدة الحراسة ومتردية الحال في حقوق الإنسان، يجري فتح كوة لجهة مصر بضعة أيام في كل سنة أو أكثر، لتمرير بعض اللوازم أو خروج قلة من طلبه العلم الذين أمكنهم الحصول على مقعد جامعي خارج غزة. وهذا مؤشر على أنه حتى "العلم" الذي تتطور به المجتمعات يقطع عمدا عن غزة. والطالب داخلها ليس أوفر حظا، فهو لا يجد وسيلة مواصلات، كما لا يجدها العامل الذي أمكنه إيجاد فرصة عمل سوى ركوب مزدوج لدراجات نارية في طرق غير مؤهلة، ما يؤدي لحوادث تنتج وفيات وإصابات معيقة. وهذا نزر يسير من الحال المأساوي الذي يعيش في ظله مليونا إنسان، ومن نتائجه الحتمية الأخطر التي وصلتنا أنباؤها، إدمان متنام لبعض مسكنات ألم رخيصة كالترامادول.

السؤال هنا عمن يوفر هذا المسكن دون الغذاء والعلاجات، يليه سؤال أهم هو: إذا لم يتمكن الناس من الحصول على المسكن الرخيص، ألن يلجأ بعض ذوي الألم النفسي والجسدي العميق لمخدرات أخطر تخرج الإنسان من طبيعته الإنسانية؟ ويقال لنا (كوننا في الأردن نشهد حملة مكافحة مخدرات) إنها أرخص أنواع المخدرات؛ كونها يمكن أن تصنع "على الرصيف" من خليط مواد يكفي أن تعرفه حفنة مجرمة، لتنشر نتاجها بصورة لا يمكن أن تهدد متعاطيها وحده، بل أسرته وبيئته، والعالم الخارجي كله لحظة يتصل المتعاطي مع هذا العالم في أية بقعة فيه.. فكيف إن توفر له الاتصال بتنظيم داعش الذي يريد ضرب العالم حيثما وبقدر ما يستطيع دون تمييز. إذا كان الأردن المفتوح على العالم، والذي لا تكاد تذكر صعوبات الحياة التي تواجه مواطنيه مقارنة بجحيم العيش في غزة، يعترف بوجود مشكلة مخدرات بل وقرع جرس الإنذار.. فكيف بغزة؟

مصر كانت وينبغي أن تعود دولة عربية قيادية كما كانت في عهد عبد الناصر، حين حملت غزة في حضنها دون أن تشكل الأخيرة أي عبء عليها، ولكنها أصبحت عبئا الآن لأسباب عديدة في مقدمتها ما فعله حسني مبارك حين تخلى عنها لتركيا، فسقط مبارك وصعد أردوغان

الكاتب الذي أطلق نداء استغاثة ببيان ما تمر به غزة بسبب حصارها، لا يطعن في الغزيين ولا بمقاومتهم التي أخرجت المحتل منها، كونه لم يعد يقدر على كلفة ذلك الاحتلال، واتضح الآن أنه نوى استبداله بتحويل غزة لمحرقة، وهو أمر لا يمكن تنفيذه دون تواطؤ أخوة عرب، أو جرّهم له غير واعين بتداعيات هذا الفعل عربيا وإقليميا وعالميا. فليس بين العرب من يعنى فعليا بغزة سوى دولة قطر، وفي هذا ظلت ذات السلطة الفلسطينية تضيق عليها.

والآن، فإن محمود عباس الذي يعلن للعالم أنه لا يستطيع دخول بيته في غزة لا يريد حقيقة دخول غزة؛ بل يعلّق على تردي الأحوال في غزة عدم قيام "الدولة الفلسطينية"، بزعم أن نصف أرضها "المحررة" في حال أسوأ من حال الضفة "المحتلة"! فعذر المفاوضات استهلك بأطول مما يمكن تبريره، ومن قبله استهلكت الفترة التجريبية الواردة في أوسلو بأضعاف طولها.

ولكن نأمل من مصر أن تكون وعت لحقيقة أن ضرورات الحياة، ومنها السلاح الذي يستعمل للدفاع عن النفس والأرض، هو ما يجبر الغزيين على التعامل مع كل من يمكنه مدها به. وأن ما أصبح يسمى نفسه "ولاية" تابعة لداعش، كان في الأصل تنظيما تحريريا تحت اسم "أنصار بيت المقدس".. وأن التغيير ليس كلّه ذاتيا، بل بعضه نتيجة حتمية لما تمر به المنطقة مما مكن من قيام "داعش" ذاتها، وتحولها لحالة هائمة تبحث عن بقعة تتوطن فيها.

والفرصة لم تفت لتحاشي ذلك في سيناء، بل على العكس أتيحت باعتراف كبريات دول العالم بهذا الخطر المتجول واستعدادها للتصدي له حماية لذاتها وهي الأبعد عنه.. فيما لا يمكن لمصر أن تحل مشكلتها في جنوب سيناء إن لم تفتح حوارا جادا مع حماس يستثمر هذا التحول التاريخي لصالح الطرفين.

فمصر كانت وينبغي أن تعود دولة عربية قيادية كما كانت في عهد عبد الناصر، حين حملت غزة في حضنها دون أن تشكل الأخيرة أي عبء عليها، ولكنها أصبحت عبئا الآن لأسباب عديدة في مقدمتها ما فعله حسني مبارك من الذهاب لتركيا ليلقي بغزة في الحضن العثماني عند تعرضها لهجمة إسرائيلية مدانة دوليا لم يطلب فيها الغزيون خلالها سوى الدعم السياسي والإنساني من الشقيقة الكبرى.. فصغُر مبارك وسقط، فيما صعد أردوغان عربيا ودوليا، ولو لحين، على حساب مصر أولا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.