الإيلاف القرشي.. والمحاولات الأوروبية للسيطرة على البحر الأحمر

بقلم/ علي إسماعيل نصار

undefined

لا يغيب قط أن اليمين الأوروبي الحديث المفعم بمشاعر وبرامج الكراهية القومية ظل ينهل دائما من إرث التاريخ القديم، الذي تنوء تحته العلاقات العربية-الأوروبية. فالحروب الصليبية (1096-1291م) التي انتهت باندحار "الإمارات" الاستيطانية الأوروبية في المشرق العربي، زرعت الكراهية وكرست التدافع الجيوسياسي والانفصال الثقافي بين ضفتي المتوسط.

وبعد التفافهم حول أفريقيا في العام 1498، انهمك الفاتحون الأوروبيون بتدمير الخط التقليدي العريق للتجارة الآسيوية-العربية-الأوروبية "نظام الإيلاف القرشي" الذي ظل قرونا طويلة عنوان التعايش والاندماج بين الأمم الإسلامية المتنوعة في الإيكومين العربي/ الفارسي/ التركي ونظيريه الهندي والصيني.

تحويل خط التجارة


وبعد معركة ديو البحرية استعاد البرتغاليون زمام المبادرة الحربية ضد المسلمين في المحيط الهندي، وتمكنوا من عبور باب المندب صعودا في البحر الأحمر، حيث بلغوا ميناء جدة

سجل المؤرخ اليمني بامخرمة مشاهداته عن المحاولات البرتغالية للسيطرة على البحر الأحمر في كتابه "قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر" الذي ينتهي تاريخه في العام 1517م.

ووصف فيه بامخرمة بعضا من أعمال التدمير الوحشية التي نفذها الغزاة الأوروبيون ضد العمران العربي والإسلامي والهندي، لحظة بلوغهم سواحل اليمن والهند وكذلك البحر الأحمر. يقول بامخرمة "وفي هذه السنة ظهرت مراكب الفرنج في البحر بطريق الهند وهرموز وتلك النواحي، وأخذوا نحو سبعة مراكب، وقتلوا أهلها وأسروا بعضهم". وقد حصل ذلك العدوان في أكتوبر/ تشرين الأول 1502م، ونفذه الأسطول البرتغالي بقيادة فاسكو دي غاما ضد عدد من السفن التي تخص العرب والمسلمين، ومن بينها سفينة تجارية كبيرة تابعة لسلطان مصر المملوكي، أسرها دي غاما مع حمولتها من البضائع والحجاج الذين كانوا في طريقهم نحو الحجاز.

وبعد أربع سنوات في العام 1506م. لاحظ بامخرمة ازدياد بأس البحرية الغازية، وكتب قائلا "وفي هذه السنة قويت شوكة الفرنج، وحصل منهم على المسلمين ضرر عظيم في ناحية الهند وهرموز، أهلكهم الله". وكان البرتغاليون قد جردوا حملة بحرية جديدة بقيادة تريستان داكونها، كان من بين أهدافها في الطريق نحو الهند، مهاجمة عدن وجدة وإحكام السيطرة على باب المندب، كذلك، كان من بين أهداف تلك الحملة السيطرة على هرمز، وهو ما حصل فعلا في نهاية العام 1507م. كما وقعت مواجهات عنيفة قبل أن يستولي البرتغاليون على جزيرة سوقطرة اليمنية تمهيدا للهجوم على عدن.

وقد قاوم اليمنيون العدوان البحري الأوروبي بمواردهم المتوفرة. ونقلا عن أحد المصادر التي استقى بامخرمة معلوماته منها، فإن السلطان اليمني الظافر عامر الثاني قد "بذل الأموال العظيمة لمن يتجهز" لقتال البرتغاليين، ما سمح بانطلاق حملة بحرية مضادة من مدينة عدن، ضمت 600 من المقاتلين اليمنيين، وقد "توجه معهم الفقيه الحرداني، والشيخ عثمان العمودي، وجماعة من طلبة العلم للجهاد في سبيل الله تعالى".

وثمة غموض في المعلومات عن مصير هؤلاء المجاهدين الشجعان، الذين قد يكونون أسروا أو أغرقوا مع أسطولهم المؤلف من "14" زروقا "بين كبير وصغير". لكن من الواضح أن عجز القوى اليمنية الذاتية عن دفع مخاطر الاعتداءات البحرية قد حمل السلطان اليمني وكلا من صاحب قاليقوط، وسلطان كجرات في الهند، على طلب المساعدة من مصر المملوكية التي كانت تحت حكم قانصوه الغوري.

ويقول بامخرمة إنه في هذه السنة (13 مايو/ أيار 1507) "وصل حسين الكردي أمير صاحب مصر من جدة" في أسطول ضم ثلاث سفن حربية وبعض الزوارق الصغيرة. وبعد تزوده بالإمدادات اللازمة في ميناء عدن، "توجه … إلى الديو [مرفأ على الساحل الغربي للهند] لقتال الإفرنج الذين ظهروا في البحر وقطعوا الطرق على المسلمين…". وقد تمكن الأسطول المصري بالتعاون مع الهنود، من هزيمة الأسطول البرتغالي وقتل قائده في معركة شول البحرية عام 1508 م. لكن قليلا من البرتغاليين عززوا قواتهم، واستطاعوا هزيمة خصومهم المصريين في معركة ديو البحرية في فبراير/ شباط 1509.

وبعد هذه المعركة استعاد البرتغاليون زمام المبادرة الحربية ضد المسلمين في المحيط الهندي. ويقول بامخرمة إنه "في هذه السنة [1509م] تغيرت مراكب السلطان على خروجها من الهند، ولم يسلم منها إلا مركب واحد". ومع أن المعتدين البرتغاليين قد فشلوا في احتلال عدن وبعض المدن اليمنية الساحلية (25 مارس/ آذار 1513م.) إذ جوبهوا بمقاومة يمنية باسلة، فإنهم تمكنوا من عبور باب المندب صعودا في البحر الأحمر، حيث بلغوا ميناء جدة.

ويرى الكثير من الباحثين والمؤرخين، أن تلك الفتوحات التي شكلت إرهاصات ظهور الرأسمالية في أوروبا، لم يكن من هدف لها سوى نشر التفاوت في المناطق غير الأوروبية لصالح تفوق أوروبا، حيث استبدل "بنظام الإيلاف القرشي" النظام الرأسمالي الحديث: الحاضنة الأولية للكراهية القومية.

تكتيك المسالمة وظروف الغزو


لم يكن الخطر البحري الأوروبي في المياه العربية الجنوبية ليشكل عنصر إقلاق للعثمانيين، إذ كان لديهم خط تجاري مع أوروبا خاص بهم، يمر عبر آسيا الوسطى إلى الهند والصين

وإبان المراحل الأولى لوصولهم، حاذر الأوروبيون الاقتراب من السواحل العربية الجنوبية ومداخل البحر الأحمر والخليج العربي. وانحصر طريقهم في منطقة تمتد بين جنوبي القرن الأفريقي والساحل الغربي للهند. كما كانوا شديدي الحرص على مغادرة السواحل الهندية قبيل وصول سفن المسلمين إليها. كذلك تجنب الأوروبيون الدخول في معارك مع حكام وأهالي المناطق الهندية التي وصلوا إليها، ونهى فاسكو دي غاما رجاله عن مهاجمة السفن التجارية للعرب والمسلمين التي كانوا يشاهدونها تبحر محملة بالسلع الثمينة، وهم في طريقهم ما بين الهند وشرقي أفريقيا، بل إن دي غاما نفسه قبل حتى بشراء توابل رديئة بأسعار عالية من حاكم قاليقوط, كي ينفي عنه صفة العدو.

وخلال الفترة الممتدة بين وصولهم (1498) وحتى اكتشاف حكام مصر المملوكية للوجود الحربي البحري للأوروبيين في المياه العربية الجنوبية (1502)، فقد واظب الأوروبيون على التعامل مع مدن وموانئ الساحل الشرقي لأفريقيا مع تجنب المياه العربية. وربما يكون هذا الأسلوب قد ساعدهم على إخفاء نواياهم، وسمح لهم في هذه الآونة خاصة بمضاعفة أعداد قطع الأسطول الحربي وتوسيع رقعة انتشاره في مياه المحيط الهندي. كما أن هذا الدخول الصامت قد ساعدهم على إنشاء المراكز التجارية والقلاع والحصون في المحيط الهندي، قبل خوض مواجهة مع السفن العربية، أو قبل القيام بإغلاق منافذ البحر الأحمر والخليج العربي، أو خوض مواجهات مع أمراء الساحل العربي الجنوبي، حسب ما فعلوا لاحقا.

لم يكن نجاح التكتيك الأوروبي ممكنا لولا ضعف مصر المملوكية التي كانت نافذة في النواحي التي ولجها الأوروبيون، فقد تضافرت مجموعة من العوامل الطبيعية والسياسية التي جعلت دولة المماليك في القاهرة -وفي الشام أيضا- منذ نهاية القرن الهجري التاسع وبداية العاشر (الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين) في حالة من الضعف والتفكك وخاصة بعد عهد قايتباي، كان القحط والأوبئة وما تبعهما من غلاء فاحش وارتفاع في الضرائب، من العوامل الأساسية التي أدخلت البلاد والدولة في حالة من الاضطراب السياسي، زاد من أضرارها خلافات الأمراء المماليك ونزاعاتهم، ما أدى لتولي خمسة من السلاطين زمام الحكم خلال السنوات الخمس التي أعقبت وفاة قايتباي. وهذه الظروف المضطربة جعلت عهد السلطان المملوكي السادس والأخير وهو قانصوه الغوري (906-922هجرية/ 1501-1516م) منذرا بنهاية محتمة للدولة المملوكية.

بالإضافة للأسباب الداخلية، فإن عوامل التدهور جاءت من محيط الدولة المملوكية ما عزز فرص نجاح الغزو البحري الأوروبي للمؤخرة العربية، فقد تضافرت ظروف دولية صعبة تمثلت بزيادة نشاط القراصنة الفرنج، وهم من بقايا الحملات الصليبية، في الإغارة على التجارة البحرية المملوكية في البحر المتوسط، إضافة إلى تفاقم الصراع العثماني-الصفوي في معسكر المسلمين، والذي كان المنتصر فيه سيحصل على مصر. كما أن سياسة السلطان العثماني سليم الأول كانت تنتظر الظروف الملائمة لفتح الشام ومصر، ولم يكن الخطر البحري الأوروبي في المياه العربية الجنوبية ليشكل عنصر إقلاق للعثمانيين، إذ كان لديهم خط تجاري مع أوروبا خاص بهم. وهذا الخط الذي يمر عبر آسيا الوسطى إلى الهند والصين، جعل العثمانيين من الناحية الإستراتيجية غير معنيين بحماية "نظام الإيلاف القرشي"، ولا باستمرار التجارة البحرية من شبه الجزيرة العربية إلى مصر والشام ثم أوروبا عبر المتوسط. هذا التدهور الشامل سيؤدي إلى انهيار طبقة التجار "الكارمية" (الطبقة التي شكلت العنصر الوطني في استمرار نشاط التجارة البعيدة) وانحطاط التقاليد التجارية بعد لجوء سلاطين المماليك لاحتكار التجارة والغش في البضائع ورفع الأسعار وتزوير المسكوكات النقدية. ناهيك عن ذلك، فقد تخلف تكنيك وتكتيك الحرب لدى المماليك، وانحسر اهتمامهم بركوب البحر، وأهمل الأسطول، حتى إنه لم يعد هناك ديوان للأسطول، بل إن العمل في الأسطول صار عارا كما يقول المقريزي.

إن تأخر علم السلطان المملوكي قانصوه الغوري بأمر الخطر البحري الأوروبي حتى العام 1502م.، بعد خمس سنوات من نجاح حركة الدوران الأوروبي حول أفريقيا، لم يمنع أمراء وسلاطين اليمن وحكام الهند من التوجه إليه طالبين المساعدة لرد الخطر الوافد. وهذه الملاحظة التي يسجلها بامخرمة، تشير إلى قوة الجذب الجيوبوليتيكي الذي تتمتع به مصر في مواجهة الأخطار الخارجية قديما وحديثا.

الغزو والتجارة والثقافة


بعد الالتفاف الأوروبي حول "مؤخرة" البلاد العربية، تفكك نظام "الإيلاف القرشي" التجاري العريق، وبدأت المرحلة الميركنتيلية التي يحسبها الكثير من المؤرخين والمفكرين مقدمة نشوء النظام الرأسمالي في أوروبا

لم يستطع الأوروبيون أن يأتلفوا ضمن حركة نظام "الإيلاف القرشي" الذي كان يتوسط خط التجارة البعيدة ما بين آسيا القصية وأوروبا، من ناحيتي اليمن في الجنوب وكل من مصر والشام من الشمال عبر شبه الجزيرة العربية. ليس لأن أهدافهم كانت تتعدى التجارة إلى الهيمنة والسيطرة الاقتصادية فحسب، وإنما لأن الأوروبيين قد شحنوا متن سفنهم بكل المقومات المادية والرمزية للكراهية الثقافية، حيث كان من بين أهدافهم "اكتشاف أقطار مسيحية جديدة ورد ذكرها في الأساطير الأوروبية عن مملكة الكاهن يوحنا، وتدمير العتبات المقدسة في الحجاز".

ورغم كل أسباب الضعف وأحوال الوهن، فقد أجبر الأوروبيون على اعتماد تكتيك المسالمة بسبب استمرار العرب والمسلمين والهنود أيضا على قدر من القوة وحفاظهم على بعض من التوازن، الأمر الذي تجلى في انتصار المماليك على الأوروبيين البرتغاليين في معركة شول البحرية سنة 1508.

إن المسالمة لم تكن إذن، سوى مجرد تكتيك لفرض الهيمنة، وهي ليست من مكونات الوعي الثقافي الأوروبي، كما هو حال "أعدائهم" المسلمين أو سواهم من الأمم الآسيوية وكذلك سكان أميركا الأصليون. ومن الواضح أن هذا التكتيك الذي اعتمده الأوروبيون كان لإخفاء هدفهم بفرض الحصار الاقتصادي على مصر من الجنوب، والسيطرة على تجارة التوابل مع الهند والصين وجنوب شرق آسيا، وانتزاعها من يد العرب والمسلمين. واللافت أن هذه التجربة الأوروبية مع مسائل السيطرة والهيمنة كانت تستند إلى الخبرات والإمكانيات الجديدة التي كانت القوى الأوروبية لا تزال تكتسبها من تجربتها ضد سكان أميركا الأصليين (1492)، ضمن سياق تكون عوامل الغلبة والتفاوت في النظام الرأسمالي الدولي. وقد أوضح أحد الباحثين الأوروبيين العلاقة الوثيقة بين السلوك الأوروبي مع الأمم غير الأوروبية والثقافة اليهودية-المسيحية التي هيمنت على الضمير الأوروبي منذ القرون الوسطى.

وتدل المقارنة بين بعض الوقائع الواردة في "قلادة النحر" ومصادر عربية أخرى، والوقائع التي أوردها مصدر أوروبي حديث تناول موضوع "فتح أميركا ومسألة الآخر" على أن الخداع والتمويه والقسوة والجشع والكراهية سمات قد ميزت الثقافة المذكورة منذ بداية "التاريخ الحديث" الرأسمالي، فمن قبل نزول لوبوسواريز قائد الأسطول البرتغالي في ميناء عدن (1402)، محييا ومدعيا أنه جاء لإنقاذ اليمنيين من المماليك، كان القرصان الإسباني كورتيس قد جرب نفس التكتيك مع قبائل أميركا التي كانت تقاتل بعضها (1530)، وهكذا سيفعل نابليون بونابرت في مصر بعد قرنين ونصف (1798).

بعد هذا الالتفاف الأوروبي حول "مؤخرة" البلاد العربية، الذي نقل أو خرب خطوط تجارة العالم القديم، تفكك نظام "الإيلاف القرشي" التجاري العريق، وبدأت المرحلة الميركنتيلية التي يحسبها الكثير من المؤرخين والمفكرين مقدمة نشوء النظام الرأسمالي في أوروبا. وذلك لأن حركة الدوران حول "رأس الرجاء الصالح" قد تلازمت مع حركتين كبيرتين نفذهما الأوروبيون أيضا، الأولى حروب الأندلس التي أسفرت عن إفناء إسبانيا الإسلامية (سياسيا عام 1492، وديموغرافيا حتى القرن الثامن عشر)، والثانية اجتياز المحيط الأطلسي صوب القارة الأميركية، حيث قام كريستوف كولمبس أو كريستوبال دي كولون (أي المستوطن) بوضع الخطوات الأولى لإفناء مجتمعات السكان الأصليين، والاستيلاء على خيرات وموارد "العالم الجديد"، متذرعا بالرغبة في "نشر المسيحية" و"تحرير القدس".

ولكن هذا الغزو مثلث الأطراف، وإن كان قد أرسى أسس التفاوت اللاحق في التطور المادي بين الأمم الأوروبية وغير الأوروبية، فإنه لم يجلب التفوق لا في العلاقات العربية-الأوروبية، ولا في العلاقات الإسلامية-الأوروبية، حيث ظلت كلتاهما ضمن حيز التوازن النسبي. ونقلا عن مارشال هودجسون (تصور تاريخ العالم)، إنه "في القرن السادس عشر من عصرنا كان يمكن لزائر من المريخ أن يعتقد تمام الاعتقاد أن عالم الإنسان على وشك أن يصبح مسلما، وكان سيسند حكمه على نحو جزئي إلى الميزات الإستراتيجية والسياسية للمسلمين وإلى حيوية ثقافتهم العامة". وتلاحظ مصادر تاريخية أن هذا التوازن إن لم نقل التفوق كان محل دراية النخب الإسلامية الحاكمة.

وتبعا لرؤية عربية فإن القوة العسكرية للدول الإسلامية قد بقيت حتى القرن الـ17 تفوق القوة العسكرية للإمبراطوريات الأوروبية. ويقول شارل عيساوي (تأملات في التاريخ العربي) "صحيح أن الإسبان قد غزوا العالم الجديد في حين سيطر البرتغاليون والهولنديون على المحيط الهندي وسواحل أفريقيا، من خلال السيطرة على بعض الجزر ذات الموقع الإستراتيجي وبعض الموانئ الحصينة، إلا أن العثمانيين قد حافظوا على قوتهم إزاء النمسا وحاصروا فيينا [أول مرة] في العام 1683، وهزموا بطرس الأكبر في بروث في العام 1711، كما سلب التتار القرميون موسكو في العام 1571، وهزموا جيش غولستين الكبير في أوكرانيا في العام 1689، وطرد الأفارقة الشماليون [أي عرب المغرب] الإسبان والبرتغاليين في القرن الـ16، وشنوا غارات على جنوب إنجلترا وإيرلندا في القرن الـ17، كما طرد الصفويون البرتغاليين، بمساعدة من الإنجليز، من قشم وهرمز، ولم يكن البريطانيون ولا الفرنسيون ليحلموا بإقامة قاعدة قوية في الهند قبل القرن الـ18. غير أن القوة العسكرية الإسلامية لم تعتمد فقط على التفوق العددي، وإنما كانت تعتمد أيضا على البقاء على مستوى التقدم نفسه مع التقانة العسكرية الأوروبية".

هذا التوازن بالبقاء "على مستوى التقدم نفسه" مع القوى الأوروبية، الذي كان يشير إلى قوة نمط الإنتاج الخراجي وكفاءته في تنظيم حياة المسلمين، سينقلب في منتصف القرن الثامن عشر، لأن أوروبا بفضل الثورة الصناعية ستتوقف عن الاعتماد على الإنتاج الزراعي في تحصيل معاشها وأرزاقها. وهذا التحول، وهو ثمرة انطلاق ما دعاه هودجسن "التحول الغربي العظيم" ما بين عامي 1600-1800م، سيدفع السلطنة العثمانية، وهي آخر دولة إسلامية مركزية أدركت العصر الرأسمالي الحديث إلى حالة احتضار بدءا من مطلع القرن الثامن عشر.

لقد نشأ النظام الرأسمالي الدولي ضمن موجات من حملات الكراهية العسكرية والسياسية والأيديولوجية التي نفذتها القوى الأوروبية في سائر أرجاء أميركا وأفريقيا وآسيا، بعدما مكن اكتساب المهارة التقانية أوروبا الغربية من تحرير نفسها من قيود نمط الإنتاج الزراعي، والمضي في توسيع التجارة الأوروبية، وتوطيد نظام الاحتلال الكولونيالي. وهذه التغيرات الشاملة وضعت حدا لتناسب القوى القديم بين الأوروبيين وغير الأوروبيين في القارات المذكورة، خصوصا الشعوب المنتشرة في الإيكومين الإسلامي، وكذلك في الإيكومين الهندي والصيني.

إن رؤية هذا البعد التاريخي في العلاقات العربية-الأوروبية تستدعيه طبيعة الرأسمالية وتاريخ النظام الدولي الحديث، وخصوصا المرحلة الراهنة من تطوره، إذ لا يمكن تحليل ظاهرة اليمين المتطرف في أوروبا من دون العودة إلى هذا البعد، حيث تكمن الصورة النمطية للعربي والمسلم في الضمير الأوروبي. وقد لاحظنا بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، كيف حول اليمين الأوروبي هذه الحوادث إلى منعطفات سياسية/ نفسية وثقافية أيضا. ويعرف اليمين الأوروبي كيف يستغل هذه الحوادث حتى يثير القلق مما يجري في الضفة الشرقية/ الجنوبية للبحر المتوسط، حيث يشكل الوطن العربي نواة الجذب الروحي/ الديني للدول والمجتمعات الإسلامية، حتى يدق النفير من عواقب توقف صعود أوروبا، أو الخوف من فقدان تفوقها الذي كسبته خلال حملات الكراهية المتعاقبة عبر مراحل تكون النظام الرأسمالي.

يقول ألبرت حوراني (الإسلام في الفكر الأوروبي) إن "ما يبدو لنا، الآن [عام 1979]، أنه كان حدثا حاسما، مثل الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، قد يكون للوهلة الأولى [انعكس، آنذاك، في الوعي العربي، كمرحلة إضافية في الصراع الطويل للسيطرة على مرافئ شمال أفريقيا. ولم لا وقبله بأربعين سنة، فقط، استولى داي الجزائر على أوران من الإسبان".

إن إحدى الملاحظات الأساسية التي يفصح عنها كلام حوراني، هي استمرار الشعور العربي والإسلامي بالندية مع الأوروبيين رغم تفوقهم المادي. وهذا الشعور الذي عبر عنه كفاح الحركة القومية العربية بكل تنوعها الاجتماعي والفكري، واستمر إبان الاحتلال الكولونيالي الأوروبي، وبعد الحرب العالمية الثانية، سوف يتأجج بالتأكيد طالما أن "صعود اليمين الأوروبي المتطرف يغذيه بشكل رئيسي أنصار الانتماءات الحزبية المؤسسة على الانقسامات الطبقية والدينية" في المجتمعات الأوروبية نفسها. وهؤلاء العنصريون هم حلفاء النظام العنصري الصهيوني في فلسطين، وهم كذلك، أنصار كراهية الآخر واستضعافه وقهره بالغلبة والتفاوت ضمن آليات النظام الرأسمالي العالمي.
ـــــــــــــــ
كاتب لبناني

** المقالة عموما هي قراءة في ضوء كتاب يحمل عنوان "البحر الأحمر والمحاولات البرتغالية الأولى للسيطرة عليه" نصوص جديدة مستخلصة من مشاهدات المؤرخ اليمني بامخرمة, كما سجلها في مخطوط قلادة النحر, دراسة وتحقيق د. محمد عبد العال أحمد, جامعة القاهرة 1980″. وبامخرمة هو العلامة عفيف الدين أبو محمد عبد الله الطيب بن عبد الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن بامخرمة الحميري الشيباني الهجراني الحضرمي العدني الشافعي. ولد في الثاني عشر من ربيع الثاني سنة 870 هجرية/ 1465م، وتوفي سنة 947 هجرية/ 1540م. نشأ في عدن وتلقى العلم فيها عن والده وغيره من علماء عدن وقضاتها. تفنن في العلوم وبرع, كما تصدى للفتوى، وشارك في كثير من العلوم كالفقه والتفسير والحديث والنحو واللغة وغيرها. تولى القضاء في مدينة عدن رغم كبر سنه وضعف قواه، ويقال إنه قبل هذا المنصب بعد إلحاح، وإنه اضطر إلى ذلك لشدة فقره واحتياجه، فصار عمدة الفتوى في عدن. صنف ستة كتب منها "تاريخ ثُغر عدن" و"قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر" موضوع المقالة والتي ينتهي تاريخها في سنة 923هجرية/1517م.
______________

المصادر:
1- مارشال هودجسون، تصور تاريخ العالم، مجلة الاجتهاد اللبنانية، العددان 26/27 ، شتاء وربيع 1995/1415.
2- شارل عيساوي، تأملات في التاريخ العربي، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت، ط1- أكتوبر/تشرين الأول 1991. ص 111-112.

المصدر : غير معروف