فلسطين تحت المجهر

أقوى من الكلام

يتواصلون بعضهم مع بعض ومع العالم الخارجي بلغة الإشارات، لكنهم يملكون قدرات وطاقات تفوق أحيانا تلك التي يملكها الناس الذين يتكلمون ويسمعون. إنهم شريحة الصم في غزة.

كأنهم خارج السياق، يعبرون هكذا في الهوامش، دون أن نبصرهم ونتحسس آلامهم، صببنا عليهم نظرة استعطاف، تخيلنا أننا أوصياء عليهم، حددنا مكانهم كيف يحلمون؟ كيف يفكرون؟ وكيف يتزاوجون؟

امتدت الفجوة بيننا، تركناهم يعيشون في دائرة مغلقة، زرعنا بيننا وبينهم غربة، هؤلاء المعذبون خلف صمتهم تجارب إبداعية إنسانية، تستحق أن ننتصر لها، وأن نسلط الضوء على معاناة أصحابها وشعورهم الأبدي بالعزلة والإقصاء.

أثناء زياراتي قبل سنتين لمدرسة مصطفى صادق الرافعي، التي أنشئت حديثا كأول مدرسة ثانوية للصم في قطاع غزة، لتنفيذ تنويه دعائي يتناول اعتماد لغة الإشارة في البنوك الفلسطينية، اقتربت منهم، فاكتشفت أنهم أسرة واحدة متحابة، جسد واحد، يعبرون عن أحاسيسهم بإيماءات بصرية تحكي الكثير. شعارهم: نسمع بأعيننا ونتكلم بأيدينا.

أثناء تصوير التنويه، شعرت بأن هؤلاء الناس يتدفقون مشاعر ويستحقون تسليط الضوء على حكاياتهم. وجالت في ذهني أسئلة كثيرة:

لماذا تقتصر علاقاتهم على علاقة بعضهم ببعض؟

كيف يعبرون عن مشاعرهم؟

كيف يتدبرون أمورهم أثناء انقطاع الكهرباء ليلا؟

ما مشاكلهم في الزواج والتعليم والعمل؟

كيف تتعامل الأم مع طفلها الحديث الولادة؟

لم يحرمون من التعليم الجامعي؟

كيف ينظرون للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟

بدأت عملية البحث ودراسة واقعهم لاختيار النماذج، فاكتشفت عالما جميلا وأناسا أقوياء معطائين، يعيشون حالة من التهميش ويوسمون بالضعف، تصادر حقوقهم، خاصة الفتيات، حيث لا يسمح لهن بالزواج من صم، كما يرفضهن الناطقون رفضا قاطعا، مع أنهن مبادرات وقادرات على بناء أسرة مميزة.

تجاوزت مرحلة البحث والدراسة أكثر من ستة أشهر، وخرجت بخلاصة أنهم لا يثقون في الناطقين، والسر في ذلك أننا لا نعيرهم أدنى اهتمام ونسعى لتعلم لغات العالم دون التفكير ولو  مرة، في تعلم لغتهم والتواصل معهم.

شعرت بشعورهم، تفهمت مأساتهم وبدأت بكتابة تصور مبدئي للفيلم يرفض الصورة الانهزامية التي تطاردهم وتقدمهم بما لا يليق بهم.

اعتمدت في السيناريو على اختيار البدء بتقديمهم على أنهم أناس يعيشون حياة طبيعية قبل أن أصارح المشاهد بأنهم صم وأرى كيف ستتغير نظرتهم للأمر قبل الدخول إلى عمق عالمهم الخاص.

ومن أجل أن يرى العمل النور، طرقت كل الأبواب. لكن محاولاتي باءت بالفشل. خشيت أن تموت الفكرة وأصابني الإحباط حتى تواصلت مع طاقم برنامج "فلسطين تحت المجهر" الذي أكد لي استعداده لإنتاج العمل. حينها شعرت بالغبطة والسعادة وعدت للصم أخبرهم أنني سأقوم بإخراج العمل لصالح شبكة الجزيرة وسأنقل أوضاعهم إلى العالم. واصلت التحري ودراسة الحالات بعمق وبشكل مكثف وأعددت القصة وتم بناء السيناريو.

تعمدت أن أشرك كل الصم من رفح حتى بيت حانون لأمنح العمل قوة وأعبر عن كل قضايا الصم.

مراحل العمل كانت ممتعة جدا، فقد كنا نكتشف كل يوم خصائص ومميزات هذه الشريحة المتفاعلة. لقد مكنتنا هذه التجربة من الكثير من المعارف حيث نفذ الفيلم، الذي غلبت عليه روح العمل الجماعي، بترو وبدقة وحرفية عالية. كان معي جيش من المخلصين سندا لتقديم الأفضل، فشكرا لكل الزملاء لمساهماتهم الطيبة في إنجاح هذا العمل الذي نتمنى أن يكون صوت الصم في فلسطين والعالم.

المخرج: مصطفى النبيه