خطة يمين ألمانيا لترحيل "الغرباء" في ميزان انتخابات 2025

صور التقطت بكاميرا سرية لاجتماع سري عقده أقطاب حزب البديل الألماني في فندق على بحيرة ليبنتز ببوتسدام لبحث ترحيل ملايين الألمان من أصول أجنبية المصدر موقع كوريكتيف
صور التقطت بكاميرا سرية لاجتماع أقطاب حزب البديل الألماني ويمينيين آخرين سرا في فندق على بحيرة ليبنتز ببوتسدام في نوفمبر/تشرين الثاني لبحث ترحيل ملايين الألمان من أصول أجنبية (موقع كوريكتيف)
صور التقطت بكاميرا سرية لاجتماع أقطاب حزب البديل الألماني ويمينيين آخرين سرا في فندق على بحيرة ليبنتز ببوتسدام في نوفمبر/تشرين الثاني لبحث ترحيل ملايين الألمان من أصول أجنبية (موقع كوريكتيف)

في يوم بارد من أيام يناير/كانون الثاني 2024، عادت لوس، ابنة الأحد عشر عاما، من مدرستها على غير عادتها مرتبكة خائفة ولديها أسئلة كثيرة حول قضية عصية على الفهم بالنسبة لطفلة في عمرها.

أحد الأسئلة التي شغلتها خلال نقاش طويل مع العائلة انتهت الإجابة عليه بالبكاء: هل ستأتي معي ومع أمي إلى الأرجنتين عندما يقرر حزب يميني متطرف يدعى "البديل" ترحيلنا من ألمانيا؟

ابتسم الأب وحاول طمأنتها بالقول إن ذلك لن يحدث وانتهى النقاش.

لوس بقيت قلقة رغم هذه التطمينات التي جاءت بعد يوم غير عادي في مدرسة "فيربيلينزي" (Werbellinsee) الواقعة في حي "شونِبرغ" وسط برلين. ففي هذا اليوم، قررت إحدى المدرسات اغتنام استراحة الفطور لمناقشة قضية تشغل ألمانيا منذ أسابيع. شغّلت التلفزيون واختارت البرنامج الإخباري "لوغو" الذي تخصصه قناة الأطفال "كيكا" للتعريف بالقضايا السياسية، وغادرت الصف كعادتها.

بعد انتهاء البرنامج، عادت المعلمة إلى الصف لتسأل طلابها عن رأيهم فيه ولتناقشهم حول محتواه. ورغم أن موضوع هذا البرنامج بدا وكأنه أكبر من أعمار التلاميذ، فإن المدارس في ألمانيا لا تتردد في غالب الأحيان في مناقشة مواضيع سياسية معقدة خاصة عندما يطفو نقاش سياسي ساخن على سطح القضايا التي تشغل الرأي العام.

في مثل هذه الحالات، لا تبدأ المرجعيات الفكرية فحسب بطرح هذا النقاش للتداول، بل تشمل المناقشات كذلك النخب السياسية والإعلامية والمجالس بمختلف ألوانها والمدارس والجامعات أيضا.

في هذه المرة، لم يكن ما يعرف بنقاش "الهجرة العكسية" صادما فحسب لأنه يلخص خطة شاملة لترحيل ملايين البشر من ألمانيا، بل احتل عناوين الصحف الرئيسية وانتشر على جميع منصات التواصل الاجتماعي وخيم على سجالات الأحزاب السياسية وليس من المبالغة القول إنه دخل فعليا إلى كل بيت.

Members of AfD are holding a banner that reads ''Remigration Now'' at Zoo Square in Duesseldorf, Germany, on March 16, 2024, as the Duesseldorf government plans to add additional refugee housing in that area. (Photo by Ying Tang/NurPhoto via Getty Images)
أعضاء في حزب البديل لأجل ألمانيا يرفعون لافتة في حديقة بمدينة دسلدروف في مارس/آذار الماضي كتب عليها "إعادة تهجير حالا" (غيتي)

السؤال الأبرز الذي حضر إلى ذهن لوس وزملائها في مدرسة "فيربيلينزي" بعد مشاهدة البرنامج كان التالي: إلى أين سأذهب إذا وصل الحزب اليميني المتطرف (البديل) إلى السلطة وقرر ترحيلنا؟ ولكن كان هناك أسئلة أخرى تتعلق بفقدان الأطفال أشياء يحبونها كالأصدقاء والمدرسة والحارة وبعض الحلويات الألمانية التقليدية وقبل كل شيء، كان التساؤل الأكثر غموضا بالنسبة لهم تلك المفارقة في أن يكونوا ألمانا وغرباء في نفس الوقت، أي سؤال الهوية المهم؟. فمن ناحية، لم يفكروا قبل هذا اليوم قط أنه ليسوا ألمانا ومن ناحية أخرى، لا يفهمون لماذا يجب عليهم المغادرة.

بالنسبة للوس كانت الإجابة جاهزة: نذهب إلى الأرجنتين لأن أمي أرجنتينية رغم أن أبي ألماني. ولكن ماذا عن ليو؟ بالطبع إلى جنوب أفريقيا لأن والديه ينحدران من هناك. وماذا عن محمد؟ إلى إسطنبول. وروز؟ إلى الولايات المتحدة وعمر؟ إلى سوريا وأليفيا إلى بولندا.

في نهاية النقاش وبعد سماعهم أسماء عدة بلدان لم يعرفوها من قبل، خطر على بال التلاميذ سؤال صادم وهو من يحق له البقاء في ألمانيا بحسب تعريف حزب (البديل) لـ"المواطن الصالح"؟

بعد استعراض كل طفل البلد الأصلي لوالديه أو في البيوت المختلطة لبلد الأم أو الأب، تبين أن ثلاثة تلاميذ ألمان خالصين (ألمان بالدم) فقط هم توماس وشتيفان وشارلوت تنطبق عليهم شروط الحزب اليميني المتطرف للبقاء في ألمانيا، وذلك من بين 25 تلميذا العدد الإجمالي لتلاميذ الصف.

هذه الأعداد قد تثير الاستغراب للوهلة الأولى، لكنها واقع تدلل عليه الأرقام في العديد من المناطق حيث تشير أرقام الموقع المختص (Gymnasien in Berlin) إلى أن نسبة التلاميذ من أصول مهاجرة (ألمان بالمواطنة) تتعدى في برلين في بعض المدارس 90 بالمئة، وذلك نظرا لأن المهاجرين والأجانب يتركزون غالبا في المدن الكبيرة.

ولكن هذا الواقع ينسجم مع أرقام مكتب الإحصاءات الألماني الاتحادي الذي يؤكد أن نسبة تلاميذ المدارس من أصول أجنبية آخذة في الأعوام الماضية في الارتفاع بشكل لافت وبلغت في العام الدراسي 2022/ 2023 في جميع المدن والبلدات الألمانية 40 بالمئة، بينما بلغت نسبة التلاميذ الذين يحملون هم أو أهلهم جوازات سفر أجنبية في العام الدراسي ذاته 14 بالمئة.

شعور لوس وبقية التلاميذ أنهم ليسوا ألمانا وشكوكهم لأول مرة في انتمائهم لهذا البلد أحدث عندهم نوعا من الصدمة، ولكن أيضا حالة من الغضب والتمرد. ففي اليوم التالي، انهالوا أمام المعلمة بالشتائم على كل شيء ألماني فاقترحت المعلمة عليهم المشاركة في مظاهرات ستخرج في نهاية الأسبوع ضد الحزب اليميني المتطرف. فوافقوا واتفقوا بعد المدرسة مع أهلهم على المشاركة وهذا بالفعل ما حدث ليعرفوا لأول مرة أن الانتماء لهذا البلد ليس أمرا بديهيا.

بالفعل، امتلأت الشوارع الألمانية في أسابيع متتالية بملايين المتظاهرين الذين صبوا جماح غضبهم على اليمين المتطرف وعلى ما بات يعرف هنا ب "الخطة الشاملة للهجرة العكسية" التي شارك أعضاء من حزب (البديل) في تقديمها في اجتماع سري بالقرب من برلين.

COBURG, GERMANY - 2024/03/17: Protesters hold a banner and placards during the demonstration. An anti-Alternative for Germany (AfD - a German nationalist, far-right political party) demonstration took place in Coburg, featuring speakers from various political parties and community groups addressing a large crowd gathered in Schlossplatz. The event concluded with participants forming a chain of lights using the torches of their mobile phones. Among the speakers were representatives from the Green Party, labor unions, and local organizations, alongside immigrants who have been residents of Germany for several years. (Photo by Liam Cleary/SOPA Images/LightRocket via Getty Images)
متظاهرون بكوبورغ خرجوا في مارس/آذار للتنديد بخطة حزب البديل لأجل ألمانيا (غيتي)

كيف تخطط لطرد الملايين؟

هذا الاجتماع الذي نُظم في فندق ريفي يقع على بحيرة  لينتز بمدينة بوتسدام القريبة من برلين، ظنّ منظموه أنهم يستطيعون خلسة مناقشة آليات طرد ملايين "الغرباء" من ذوي "البشرة الخطأ" أو "الأصل الخطأ". باختصار طرد قرابة 25 مليون شخص: لاجئون ومهاجرون وألمان بالمواطنة.

ولولا تسلل صحفي عنيد يعمل في القسم الاستقصائي للموقع الإخباري (كورِكتيف) CORRETIV إلى هذا الفندق وكشفه عن تفاصيل هذا الاجتماع في تقرير متقن، لبقيت الخطة طي الكتمان بانتظار تمكّن حزب (البديل) أكثر من السلطة، وذلك في وقت يحلق فيه الحزب عاليا في استطلاعات الرأي.

جان بيترز الذي أشرف على فريق صحفي مكون من 18 زميلا وتمكن من تفجير "قنبلة صحفية" أسّست لحركة شعبية مناهضة لليمين المتطرف كشف للجزيرة عن معلومات يبوح بها لأول مرة حول هذا الاجتماع الذي عقد في 25 نوفمبر 2023 . ويقول الصحفي إن عملية الاستقصاء التي جاءت بعد تسلم موقع (كورِكتيف) رسالة من جهة ما استمرت عدة أشهر، الأمر الذي عقبه نقاش طويل مع الزملاء ومدير التحرير في الموقع حول مدى أهمية هذا الكشف للرأي العام.

وبعد التأكد من جدوى الموضوع للقراء واتخاذ قرار التقصي حول هذه القضية، حجز الصحفي غرفة في نفس الفندق المعروف باسم  "لاندهاوس أدلون"وقام بالتعاون مع منظمة (غرين بيس) بتركيب كاميرتين على سيارتين تم ركنهما أمام الفندق لتصوير كل من يدخل ويخرج من الفندق وللتعرف على هويات الأشخاص المشاركين في الاجتماع.

إضافة إلى ذلك، استأجر الصحفي قاربا سياحيا أوقفه قبالة الفندق لالتقاط الصور للمجتمعين وتمكن من تركيب كاميرا رابعة في ساعته والتجول في أروقة الفندق، ليصبح الاجتماع مراقبا من 4 كاميرات.

20 شخصا

وقدر جان بيترز أعداد المشاركين بحوالي 20 شخصا يختلفون في انتمائهم الحزبي ولكنهم يجتمعون على شيء واحد وهو مناقشة خطة ترحيل ملايين البشر من ألمانيا. بعضهم أعضاء في حزب (البديل) وقيادات في حركة (الهوية) اليمينية المتطرفة وروابط طلابية وبرجوازيون ومحامون وسياسيون ورجال أعمال وأطباء إضافة إلى عضوين في حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي وهما عضوان في (اتحاد القيم) الأقرب لليمين المتشدد داخل الحزب.

ومن خلال تفحص الأسماء المشاركة، يمكن تقسيم الحاضرين لثلاث فئات: يمينيون متطرفون بينهم نازيون جدد وسياسيون وفئة ثالثة لديها قدرات مالية كبيرة. هذا المزيج من النفوذ والمال الأفكار اليمينية المتطرفة يوفر أرضية مثالية لتحقيق الهدف الرئيسي لهذا الاجتماع وهو: إذا كنا نريد أن ننجو، فعلينا أن نبدأ بمناقشة خطة شاملة تؤدي إلى البدء بالعمل على تنفيذ مشروع الهجرة العكسية لملايين البشر.

ثلاث مجموعات مستهدفة

صور التقطت بكاميرا سرية لاجتماع سري عقده أقطاب حزب البديل الألماني في فندق على بحيرة ليبنتز ببوتسدام لبحث ترحيل ملايين الألمان من أصول أجنبية المصدر موقع كوريكتيف
لقطة أخرى لاجتماع أقطاب حزب البديل الألماني ويمينيين آخرين في فندق على بحيرة ليبنتز ببوتسدام لبحث ترحيل ملايين الألمان من أصول أجنبية (كوريكتيف)
لقطة أخرى لاجتماع أقطاب حزب البديل الألماني ويمينيين آخرين في فندق على بحيرة ليبنتز ببوتسدام لبحث ترحيل ملايين الألمان من أصول أجنبية (كوريكتيف)

ووفق تسجيلات الصحفي، بدأ الاجتماع في حلقته الأولى بشرح قدمه اليميني النمساوي المتطرف وخبير التسويق الاستراتيجي، مارتين زيلنر الذي قسم الأشخاص الذين يجب ترحيلهم إلى ثلاث مجموعات الأولى تتكون من طالبي اللجوء والثانية من الأجانب المتمتعين بحق الإقامة والثالثة من المواطنين الألمان من أصول أجنبية (الألمان بالمواطنة) أو الذين يحملون الجنسية الألمانية. ووفق زيلنر فإن ترحيل الفئة الثالثة، أي المواطنين يشكل "المشكلة الكبرى".

التسجيلات تؤكد كذلك أن جميع المشاركين لم يعارضوا هذه الأفكار، ولكن الشكوك ساورت بعضهم حول قابلية تطبيقها، الأمر الذي علقت عليه إحدى المشاركات بالقول إن امتلاك أحد "الغرباء" جواز سفر ألماني سيجعل ترحيله مستحيلا. ولكن زيلنر لا يعتبر ذلك عائقا أمام الترحيل ويقول إنه من الضروري ممارسة ما وصفها ب "ضغوط تكيف عالية" وقبل كل شيء العمل في إطار.

"كل شيء يجب أن يكون شرعيا"

وحول هذه الجزئية المفصلية في الخطة، يقول بيترز إن المجتمعين كانوا حريصين على ضرورة تطبيق الخطة في إطار دولة القانون والنظام الديمقراطي، الأمر الذي يُذكّره بـ (بوتوكول فانزي) الذي حدد في عام 1942 تفاصيل إبادة اليهود (هولوكوست) وعنونته الحكومة النازية في حينها بعبارة "كل شيء يجب أن يكون شرعيا". وهذا يتطلب تفصيل قوانين على المقاس وجعل الظروف في المناطق التي يعيش فيها "الغرباء" غير جذابة وممارسة ضغوط قوية جدا عليهم، الأمر الذي سيؤدي تلقائيا إلى رحيلهم بشكل طوعي حتى لو استمر ذلك عقدا كاملا.

أستاذ القانون الدستوري، البروفيسور أولريش باتس يرى في هذا الصدد قواسم مشتركة بين جميع الأحزاب اليمينية التي تسعى إلى السلطة. ويضيف في مقابلة مع الجزيرة إن هذا اللقاء أثبت أنه عندما يجلس اليمينيون المتطرفون في حلقات صغيرة ومغلقة، فإنهم يكشفون عن وجههم الحقيقي ولا يخفون رغبتهم في التخطيط لارتكاب جرائم مخالفة للدستور وجرائم.

من فكرة إلى إستراتيجية؟

في الحلقة التالية للاجتماع، تناول المجتمعون كيفية تحويل فكرة "الهجرة العكسية" إلى استراتيجية سياسية. من أجل ذلك، تمت مناقشة سبل تغيير أجواء الرأي العام وتهيئته لقبول فكرة الترحيل، الأمر الذي يتطلب تدفق الأموال من أجل تمويل مشاريع للمؤثرين (الإنفلونسر) وللبروباغندا ولتنظيم الفعاليات والأنشطة ولبناء رأي عام يميني متطرف ومضاد.

ولكن الأمر يتطلب بحسب التسجيلات إضعاف النظام الديمقراطي من خلال التشكيك في الانتخابات وتهميش القضاء والضرب في مصداقية المحاكم الدستورية وقمع حرية الرأي ومحاربة وسائل الإعلام العامة.

زيلنر لديه أيضا فكرة عن الدولة التي ستستقبل هذا العدد الكبير من المرحلين ويقترح ما وصفها ب "الدولة النموذجية" في شمال أفريقيا التي يمكن أن تستوعب مليوني شخص، حيث يمكن أن توفر لهم هذه الدولة جميع شروط الحياة كالتعليم والصحة وحتى الرياضة.

صور التقطت بكاميرا سرية لاجتماع سري عقده أقطاب حزب البديل الألماني في فندق على بحيرة ليبنتز ببوتسدام لبحث ترحيل ملايين الألمان من أصول أجنبية المصدر موقع كوريكتيف
في الجلسة الثانية من المداولات السرية نوقش موضوع تحويل الهجرة العكسية إلى إستراتيجية سياسية (كوريكتيف)

جميع هذه التحضيرات وشرط توفر المال اللازم للقيام بها وتحويلها إلى استراتيجية سياسية يتطلب إنشاء حزب سياسي ينقل هذه الاستراتيجية في ثوب حمل إلى البرلمانات والمناقشات السياسية. هذا الحزب موجود وعندما عقد الاجتماع السري في نهاية العام الماضي كان هذا الحزب (البديل) قد اجتاز مرحلة التحول من تيار سياسي أسسته مجموعة من أساتذة الاقتصاد غير المعجبين بالعملة الأوروبية الموحدة وبالفكرة الأوروبية إلى حزب يميني متطرف وضع موضوع الهجرة واللجوء في صميم برامجه الانتخابية.

"البديل"... من تيار سياسي معاد لليورو إلى حزب يميني متطرف

في 25 مارس/آذار 2010 بررت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في كلمة ألقتها أمام البرلمان الاتحادي (بوندستاغ) ولاحقا في القمة الأوروبية ببروكسل قرار تقديم الحزمة الأوروبية الأولى من المساعدات المالية لليونان بالقول إنه "لا بديل" عن تقديم هذه المساعدات إذا أراد الاتحاد الأوروبي إنقاذ الدولة اليونانية ونفسه من الإفلاس.

عبارة لا بديل أطلقتها ميركل أولا في سياق الحديث عن مساعدة اليونان (الأوروبية)

هذا الوصف (لا بديل) تحول في الأعوام القليلة اللاحقة إلى شمّاعة علّقت عليها مجموعة من أساتذة الاقتصاد جميع المشاكل المالية التي عانى منها الاتحاد الأوروبي. أحد هؤلاء الأساتذة كان بيرنت لوكه الذي تلقف هذا الوصف وأسس مع اقتصاديين آخرين ما عرف بـ (الاجتماع العام للاقتصاديين) وتمكن مع آخرين من تأسيس لائحة انتخابية باسم "البديل الانتخابي 2013" وذلك تحضيرا للمشاركة في لانتخابات البرلمانية التي أجريت في عام 2013. وفي 13 أبريل من العام ذاته، عُقد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب جديد انبثق عن هذه اللائحة وأطلق عليه اسم "البديل من أجل ألمانيا" (Alternative für Deutschland) اختصارا "إيه إف دي" (AFD).

شماعة الهجرة واللجوء

An AfD banner is being displayed at Zoo Square in Dusseldorf, Germany, on March 16, 2024, as the Dusseldorf government is planning to add additional refugee housing in that area. (Photo by Ying Tang/NurPhoto via Getty Images)
شعار حزب البديل مرفوعا في أحد منتزهات دوسلدرورف(غيتي-أرشيف)
شعار حزب البديل مرفوعا في أحد منتزهات دوسلدرورف(غيتي-أرشيف)

أستاذ القانون الدستوري البروفيسور أولريش باتِس يتذكر هذه المرحلة جيدا بالقول في مقابلة مع الجزيرة إن هذا الحزب تم تأسيسه من قبل مجموعة من أساتذة الاقتصاد، الأمر الذي يعني ضمنيا ظهور خلافات بين الأعضاء المؤسسين، في إشارة منه إلى توق الأساتذة الجامعيين إلى الاختلاف مقارنة مع غيرهم من النخب.

وهذا بالفعل ما حدث. فمع الوقت، تحول حزب غير متطرف أنشئ على أساس معاداة العملة الأوروبية الموحدة (يورو) لأسباب بعضها مقنع إلى حزب يميني متطرف ليتم خطوة بعد خطوة "طرد" و"تحجيم" جميع الأعضاء المؤسسين ويحل مكانهم يمينيون متطرفون يجاهرون بأفكارهم الفاشية.

وبعد خروج الحزب في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في عام 2013 خالي الوفاض واشتداد جولات الصراع على السلطة، تبين لقيادة الحزب في انتخابات ألمانية محلية أجريت في عام 2014 أنه كلما ابتعد عن خطاب معاداة اليورو والفكرة الأوروبية واقترب من نهج ناقد لسياسة الهجرة واللجوء، كلما ارتفعت أسهمه لدى الناخبين.

ففي الانتخابات المحلية التي أجريت في صيف عام 2014 في الولايات الشرقية ساكسونيا وتورنغن وبراندنبورغ، وضع الحزب الهجرة واللجوء في صميم برنامجه الانتخابي ليتمكن من الحصول في كل ولاية على حدة على قرابة 10 بالمئة من الأصوات، الأمر الذي كان سببا في تقوية شوكة الجناح المتطرف فيه وإصراره على وضع الهجرة في مقدمة الملفات الانتخابية لاسيما بعد تجرؤ المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في خريف 2015 على فتح الحدود أمام مئات آلاف اللاجئين وظهور ما بات بعرف بـ "أزمة اللجوء".

"أزمة اللجوء".. هدية ستجلب معها التحول

هذه الأزمة وصفها أحد القياديين المحسوبين على التيار اليميني المتطرف في الحزب (ألكسندر غاولاند) بالهدية التي ستجلب معها تحولا أكيدا في شعبية الحزب. فبعد قرار ميركل فتح الحدود أمام لاجئين معظمهم من الشرق الأوسط والهجمات الإرهابية التي هزت في عامي 2015 و2016 باريس وبروكسل ونيس وبرلين والخلافات داخل الائتلاف الحكومي بشأن الهجرة وجهر بعض الشخصيات السياسية المهمة بمعارضة سياسة ميركل، كل ذلك كان سببا في حصول حزب (البديل) في بعض الانتخابات المحلية لاسيما في ولايات شرقية على أكثر من 24% (ساكسونيا 24.3%) من أصوات الناخبين.

WEGSCHEID, GERMANY - NOVEMBER 18: Refugees cross the border between Austria and Germany, on November 18, 2015 near Wegscheid, Germany. (Photo by Lukas Barth/Anadolu Agency/Getty Images)
قرار ميركل استقبال اللاجئين عام 2015 رفع نسب التصويت لحزب البديل في الولايات الشرقية (الأناضول)

وبعد حصول الحزب في الانتخابات البرلمانية في عام 2018 على 94 مقعدا في البرلمان الاتحادي (بوندستاغ) وتحالف المحافظين بقيادة ميركل مع الاشتراكيين الديمقراطيين، أصبح (البديل) أكبر حزب معارض في البرلمان الاتحادي. وفي خريف 2018، تمكن الحزب من دخول آخر برلمانيين محليين في ولايتي بافاريا وهيس ليستطيع بذلك ليس فقط الجلوس في البرلمان الاتحادي (بوندستاغ) وإنما أيضا في جميع برلمانات الولايات الألمانية الـ16.

ومع خروج جيل المؤسسين لاسيما الناقدين لليورو تدريجيا من الحزب، أصبح (البديل) ابتداء من عام 2019 مستنقعا لليمينيين المتطرفين والنازيين الجدد وتطور في غضون أقل من عقد من حزب يميني شعبوي إلى حزب يميني متطرف تخضع فروعه رسميا لمراقبة المخابرات الألمانية في 11 ولاية ألمانية من 16 ولاية.

مستقبل الحزب

وفي وقت تتوجه فيه الأنظار إلى الانتخابات البرلمانية المقررة في عام 2025، تراقب الأحزاب الديمقراطية بقلق نتائج استطلاعات الرأي لانتخابات ولايتي ساكسونيا وتورنغن بعد قرابة 4 أشهر. فوفقا لآخر هذه الاستطلاعات، فإن نسبة تأييد الحزب ستتراوح في الولايتين بين 29% و31%، مما يعني حصوله على المركز الأول متفوقا على الحزبين الكبيرين الاشتراكي الديمقراطي والمسيحي الديمقراطي.

ورغم ذلك، يرى أستاذ القانون الدستوري أولريش باتيس أن ألمانيا قوة ديمقراطية ناضجة وقادرة على تهميش جميع التيارات اليمينية المتطرفة.

جرس إنذار

ورغم تفاؤل البروفيسور أولريش باتس وغيره من الأساتذة الجامعيين في ألمانيا ووصفه فكرة ترحيل ملايين البشر من ألمانيا بأنها "خيال مطلق"، فإن هذه الخطة كانت بمثابة جرس إنذار لم يقلق الأحزاب السياسية الخائفة على مواقعها في الانتخابات البرلمانية المقبلة في عام 2025، بل أيضا النخب الإعلامية والثقافية والفنية وقبل كل شيء الرأي العام، الذي لم ينتظر الضوء الأخضر من الأحزاب والنقابات للخروج إلى الشارع، بل بادر بتنظيم مظاهرات عفوية تحولت من أسبوع إلى أسبوع إلى مظاهرات مليونية خرجت في جميع شوارع المدن والبلدات الألمانية.

ولم تقتصر المشاركة في هذه المظاهرات على المواطنين العاديين الذين ذكرهم "الاجتماع السري" بماضي بلادهم الأسود، بل روفقت كذلك بحضور سياسي من أعلى هرم السلطة أي الرئيس الاتحادي فرانك فالتر شتاينماير إلى أصغر الأحزاب السياسية مرورا بالمستشار أولاف شولتس ومعظم وزرائه.

ورفع المتظاهرون في هذه الهبة الشعبية شعارات ولافتات تحمل رسائل سياسية لا تعد ولا تحصى وتجمع على شيء واحد وهو الدفاع عن إنجازات الدولة الألمانية الحديثة التي تأسست على أنقاض نظام نازي كلف ألمانيا وأوروبا حربا عالمية سقط فيها عشرات ملايين البشر. ووصل الحد بهذه المظاهرات إلى رفع يافطات تهكمية مثل "أتظاهر لأنني أحب الشاورما" أو "النازيون يأكلون فلافل ولكن في الخفاء" أو "بدوننا لن يبقى لكم سوى البطاطا" وغيرها من الشعارات.

هذه المظاهرات قوبلت بارتياح وتقدير كبيرين من قبل المسلمين الذين تقدر أعدادهم في ألمانيا بحوالي 5.5 ملايين شخص. ولم يكتف المسلمون بالترحيب بهذه المظاهرات، بل شاركوا فيها بالآلاف واعتبروها ردة فعل بحجم الحدث، بحسب الأمين العام لمجلس المسلمين الأعلى في ألمانيا عبد الصمد اليزيدي. ولفت اليزيدي في الوقت ذاته إلى ما سماها بـ"اللامبالاة" من بعض الأوساط السياسية والأمنية، قائلا إن الإعلام بات يرصد ظاهرة خطيرة وهي تغلغل اليمينيين المتطرفين في أوساط الشرطة وأجهزة المخابرات الألمانية.

فهل تعلمت ألمانيا هذه المرة؟

هذه المظاهرات الضخمة ذكّرت باحتجاجات مشابهة ووعود قدمتها الحكومة الألمانية قبل أربعة أعوام عندما قتل يميني متطرف في 19 فبراير من عام 2020 في مدينة هاناو بالقرب من فرانكفورت تسعة أشخاص من أصول مهاجرة بدوافع عنصرية، الأمر الذي أيقظ مخاوف السلطات والرأي العام من إرهاب اليمين المتطرف.

بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الجريمة، دعت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل 50 اتحادا وجمعية إسلامية إلى مقر المستشارية الاتحادية للمشاركة في أعمال ما يعرف ب "قمة الاندماج" وذلك بمشاركة وزير الخارجية الألماني السابق هورست زيهوفر المحسوب على يمين المحافظين الألمان والذي كان يرفض في العادة حضور هذه القمة الدورية المخصصة لمناقشة قضايا المسلمين في ألمانيا، واصفا إياها ب "قمة أم المشاكل".

ونظرا لبشاعة جريمة هانوا وافق زيهوفر على حضور القمة التي تمخض عنها تشكيل لجنة خبراء مستقلة لوضع اقتراحات من أجل محاربة ظاهرة العداء للإسلام والمسلمين (الإسلامافوبيا). وتكونت اللجنة في حينها من أكاديميين مستقلين عملوا على مدار عامين وقدموا في صيف العام الماضي دراسة شاملة عن علاقة ونظرة المجتمع الألماني بالجالية المسلمة.

وقدمت هذه الدراسة نتائج صادمة تشير إلى أن ملايين المسلمين في ألمانيا يتعرضون للعداء والعنصرية والتمييز والربط بالإرهاب وذلك في حياتهم اليومية وأماكن عملهم مؤكدة أن ظاهرة العداء للمسلمين ليست مشكلة هامشية بل ظاهرة منتشرة بشكل واسع في المجتمع وأن 50% من المواطنين الألمان يقرون بعدائهم للمسلمين.

ولم تكتف هذه اللجنة بتقديم النتائج، بل قدمت أيضا توصيات للحكومة الألمانية لمعالجة هذه المشكلة. فهل عملت الحكومة الألمانية وحكومات الولايات ال 16 بهذه التوصيات؟

الأمين العام لمجلس المسلمين الأعلى في ألمانيا عبد الصمد اليزيدي ينفي أن تكون الحكومة الألمانية والسلطات تعلمت من درس هانو أو عملت بتوصيات اللجنة المستقلة.

وأكد اليزيدي في حديث مع الجزيرة أن السلطات الألمانية لم تتجاهل العمل بتوصيات اللجنة فحسب، بل أنها تتقاعس عمدا عن أداء واجباتها تجاه حماية المسلمين وتبحث دائما عن تبريرات لأنها تتعامل مع المسلمين وكأنهم مواطنون من الدرجة الثالثة.

ولم يبدو اليزيدي متفاجئا بالكشف عن "خطة الهجرة العكسية" التي اعتبرها رأس جبل الجليد معتبرا الخطاب السياسي في البرلمان الاتحادي (بوندستاغ) وبرلمانات الولايات بمثابة تشجيع لليمينيين المتطرفين على تنظيم أنفسهم والتمهيد لإخلاء ألمانيا من الأجانب والمسلمين.

وحذر المسؤول من وصول ظاهرة العداء للمسلمين في ألمانيا إلى مستويات خطيرة جدا معربا عن خيبة أمله من أداء السلطات لأن الاعتداءات ضد المسلمين تواجه في العادة بالشعارات والخطابات دون صياغة سياسة ممنهجة لمحاربة هذا الخطر الذي لا يستهدف المسلمين فحسب بل بالدرجة الأولى القيم الديمقراطية التي تأسست عليها الدولة الألمانية.

المسلمون يدقون ناقوس الخطر

ويرى اليزيدي أن المجتمع والمؤسسات الإعلامية الدينية كالمساجد والكنائس وقبل كل شيء النخب السياسية مطالبة بدق ناقوس الخطر حيال هذه الخطة لأن "بعد الكلمة تأتي الرصاصة والحرق والتقتيل" بحسب اليزيدي.

وبحسب ما يرصده المجلس المختص في رعاية أحوال ملايين المسلمين في ألمانيا، فإن مشاعر الخوف باتت تسيطر على مشاعر مسلمين كثيرين ليس فقط انطلاقا من الخوف على أنفسهم وعوائلهم وإنما أيضا بسبب الخوف على مستقبل ألمانيا التي يعتبرونها وطنا لهم.

ولكن ناقوس الخطر لا يدقه المسلمون لوحدهم. فليس جميع التلاميذ في مدرسة "فيربيلينزي" وغيرها من المدارس الألمانية مسلمين، وليس جميع المهاجرين واللاجئين والألمان بالمواطنة البالغ عددهم 25 مليون شخص مسلمين. فألمانيا تحولت منذ بدء وصول "العمال الضيوف" إليها قبل سبعة عقود إلى بلاد هجرة، علما أن الدولة الألمانية تأخرت كثيرا قبل الاعتراف بهذه الحقيقة.

المصدر : الجزيرة