تدهور قوة الولايات المتحدة الأميركية والثورات القادمة

ميدان - الجيش الأمريكي في أفغانستان
الجيش الأميركي في أفغانستان (رويترز)

في كتابه "من يحكم العالم" يقول نعوم تشومسكي إن الولايات المتحدة باتت في حالة أفول وتراجع، وذلك ينذر باحتمال زوالها نهائيا في يوم من الأيام.

يضيف تشومسكي أن وتيرة هذا الأفول بدأت بالفعل منذ اللحظة التي بلغت فيها الولايات المتحدة أوج قوتها بعد الحرب العالمية الثانية، والخطابات الطنانة لزمن الانتصارات.

ولكن على الرغم من أفول أميركا وتراجعها فإنه لا يوجد في المستقبل المنظور أي منافس يتبوّأ مكانتها بوصفها قوة عالمية مهيمنة.

أصبحت أزمة الديون المزمنة في أميركا خطيرة، فقد تضاعف حجم الدين القومي، وأدّى ذلك إلى رفع منسوب المخاطر التي تهدد الاقتصاد الأميركي، ويعدّ تزايد نسبة البطالة من أهم تلك المخاطر.

زمن الحكايات المثيرة

يقول تشومسكي "لقد سادت فترة من البهجة بعد انهيار القوة العظمى المعادية (الاتحاد السوفياتي)، كانت حقبة زاخرة بالحكايات المثيرة عن نهاية التاريخ.. لكن رأت أصوات حكيمة في النخبة السياسية الأميركية أن الولايات المتحدة في طريقها لتصبح (القوة العظمى الآثمة الشريرة)".

فلقد تزايد الرأي العام المعادي لأميركا في العالم العربي على وجه الخصوص، حيث أظهرت الاستطلاعات أن الرأي العام العربي ينظر إلى الولايات المتحدة بوصفها خطرا رئيسيا، وأنه في حالة إقامة ديمقراطيات حقيقية سيتم طردها من المنطقة؛ إن هذا يفسر دعم الولايات المتحدة للأنظمة الاستبدادية الدكتاتورية في العالم العربي، وتأييدها للانقلاب العسكري في مصر لأن الشعب المصري عبّر عن إرادته بانتخاب الرئيس محمد مرسي الذي أراد أن يقود مصر إلى كسر التبعية لأميركا، وتحقيق الاستقلال الشامل، وتصنيع الدواء والسلاح والغذاء.

وهذا يوضح النفاق الأميركي والمعايير المزدوجة، وأن دعوتها لبناء نظم ديمقراطية كانت زائفة.. وبذلك لم تعد أميركا الدولة النموذج التي تقوم على مبادئ إنسانية، فانهارت الصورة الذهنية التي نجحت في بنائها.

لقد أوضحت ممارسات أميركا في العقد الماضي أنها دولة براغماتية ترفض أن تتمتع الشعوب بحقوقها في إقامة نظم حكمها الديمقراطية المستقلة، وأنها تساند الاستبداد الذي يحقق مصالحها، ويفرض التبعية على الشعوب.

تكاليف الحروب

من أهم العوامل التي تؤدي إلى أفول الولايات المتحدة تكلفة حروب بوش في العراق وأفغانستان التي يقدّرها نعوم تشومسكي بـ4.4 تريليونات دولار.

ويرى تشومسكي أن ذلك يشكل نصرا لأسامة بن لادن الذي تمثل هدفه المعلن بإفلاس أميركا عن طريق استدراجها نحو فخ نصبه لها، وأدى ذلك إلى زيادة الضرائب، وتعطيل البرامج الاجتماعية التي تعتمد عليها شريحة واسعة من الأميركيين.

ولقد أصبحت أزمة الديون المزمنة في أميركا خطيرة، حيث تضاعف حجم الدين القومي، وأدى ذلك إلى رفع منسوب المخاطر التي تهدّد الاقتصاد الأميركي، ويعدّ تزايد نسبة البطالة من أهم تلك المخاطر.

ولذلك تحاول الإدارة الأميركية رفع سقف الدين باعتباره البديل الوحيد للتخلف عن السداد، وهذا سيسبب مزيدا من الضرر لاقتصاد يتزايد ضعفه.

بناء على ذلك؛ يرى نعوم تشومسكي أن القوة الأميركية في العالم في حال تراجع مستمر، فقد باتت عاجزة عن فرض إرادتها، وفي الوقت نفسه فإن المجتمع الأميركي في حالة أفول وتراجع، فالغالبية العظمى من السكان تواجه مشكلات تتعلق بالبقاء.

الاعتراف بالهزائم

يقول تشومسكي "لقد بات من الصعب التغطية على نتائج هزيمة الولايات المتحدة في العراق.. لذلك حملت مجلة الشؤون الخارجية عنوانا رئيسيا: (هل انتهت أميركا؟) وأجابت بأن الحروب تستهلك ثروة البلاد".

لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك إذ يقول تشومسكي إن استطلاعات الرأي العام تظهر أن الولايات المتحدة تعدّ أكبر خطر يهدد السلم العالمي، ولكن تم إخفاء هذه المعلومات المهمة عن الأميركيين، فمن صاحب المصلحة في التعتيم على هذه الحقائق؟

وهناك تصريح مثير لسفيرة أميركا السابقة في الأمم المتحدة تقول فيه "عندما تشنّ الولايات المتحدة غزوا على بلد، فإنه يخلّف آلاف القتلى وملايين اللاجئين، إلى جانب عمليات التعذيب الوحشية والدمار الرهيب التي شبّهها العراقيون بالغزو المغولي الذي جعل العراق البلد الأكثر شقاء وتعاسة في العالم، في الوقت الذي تقوم فيه بإذكاء نار النزاعات الطائفية التي تمزق المنطقة إلى أشلاء".

وكل ذلك يؤكد وصف هنتنغتون للولايات المتحدة بأنها "الدولة الشريرة الأولى"، وأنها الخطر الأعظم الأوحد الذي يهدد العالم.

يضيف نعوم تشومسكي أن القيادة الأميركية تصرّ على احتفاظ أميركا بحق اللجوء إلى القوة من جانب واحد.

لقد وضع كلينتون عقيدة الاستخدام الأحادي الجانب للقوة العسكرية لضمان وصول ميسّر للأسواق الرئيسية ومصادر الطاقة والموارد الإستراتيجية، وقد تم تأكيد هذه العقيدة في التطبيق العملي.

أسياد العالم

يصف تشومسكي تكتلات الشركات المتعددة الجنسيات، والمؤسسات المالية الضخمة، وإمبراطوريات البيع بالتجزئة بأنها أسياد العالم، وأن سلوكها يقوم على مبدأ "كل شيء لنا، ولا شيء للآخرين".

يقول نعوم تشومسكي إن الحرب على الإرهاب تحولت بسرعة إلى حرب إجرامية مدمّرة تصيب أميركا الوسطى وأفريقيا والشرق الأوسط بعواقب وخيمة ما زالت أصداؤها تتردد في الوقت الحاضر. لقد كانت الولايات المتحدة مصممة على استعراض عضلاتها وتسجيل انتصار، وإخافة كل شخص في العالم.

وفي النظام العالمي المعاصر تمتلك هذه الشركات التي يصفها تشومسكي بـ"مؤسسات الأسياد" قوة ضخمة ونفوذا هائلا على صعيد الساحة الدولية، وضمن دولها الأم التي تعوّل عليها لحماية قوتها ونفوذها ولتقديم الدعم الاقتصادي لها من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل.

وقد فرضت هذه الشركات اتفاق التجارة الحرة بأسلوب يصفه تشومسكي بأنه ستاليني، حيث تم كبح جماح الحوار والنقاش حولها. أدى ذلك إلى تركيز الثروة والسلطة في أيدي حفنة ضئيلة من المنتفعين والمستفيدين مع تقويضها لأركان الديمقراطية الحقيقية.

تحت الضغط

هذه الشركات الكبرى جعلت الدول تحت ضغط شديد، حيث لم تعد هذه الدول هي الفاعل في الشؤون الدولية، فمصالح هذه الشركات تؤثر في القرار السياسي الأميركي، وفي علاقات أميركا بدول العالم.

هذه الشركات تدفع النظام الأميركي إلى استخدام القوة الصلبة لتحقيق مصالحها، وإخضاع دول العالم بحيث يتم إجبارها على فتح أسواقها أمام هذه الشركات، وخصخصة اقتصادها، ومنع إمكانات تحقيق تنمية في هذه البلاد يمكن أن تقوم باستغلال المواد الخام.

لذلك كانت الحرب العالمية على الإرهاب التي شنّتها أميركا وحلفاؤها تشكل ستارا يخفي الأهداف الحقيقية، ومن أهمها فرض السيطرة الرأسمالية على العالم، وتحقيق مصالح الشركات العابرة للقارات.

يقول نعوم تشومسكي إن الحرب على الإرهاب تحولت بسرعة إلى حرب إجرامية مدمّرة تصيب أميركا الوسطى وأفريقيا والشرق الأوسط بعواقب وخيمة ما زالت أصداؤها تتردد في الوقت الحاضر. لقد كانت الولايات المتحدة مصممة على استعراض عضلاتها وتسجيل انتصار، وإخافة كل شخص في العالم.

جريمة كبرى

كما يصف نعوم تشومسكي الغزو الأميركي للعراق بأنه جريمة كبرى من جرائم القرن الـ20، فقد أسفر هذا الغزو عن فناء مئات الآلاف في بلد كان مجتمعه المدني تم تدميره سلفا بالعقوبات الأميركية التي تعدّ "مذبحة جماعية".

لقد خلّف الغزو ملايين اللاجئين، ودمّر البلاد بالكامل، وأجّج نيران أحقاد طائفية تعمل الآن على تمزيق العراق والمنطقة كلها.

وقد أوضحت استطلاعات الرأي العام التي أجراها البنتاغون في العراق أن 80% من العراقيين يرفضون الوجود الأميركي في بلادهم، ويدعمون الهجوم على القوات الأميركية. ولذلك عانت الولايات المتحدة في العراق من هزيمة قاسية، حيث تخلّت عن أهدافها من الحرب، وتركت العراق تحت سلطة المنتصر الأوحد وهو إيران.

لقد كانت نتيجة الحرب الأميركية على الإرهاب -طبقا لإحصاء قامت به مجموعة من منظمات حقوق الإنسان- مقتل نحو 1.3مليون إنسان، ويمكن أن تبلغ الحصيلة مليونين، وبذلك أصبحت هذه الحرب المصدر الرئيس للعنف في العالم وهذا أدى إلى تزايد بغض سكان العالم للولايات المتحدة.

تلك هي بعض العوامل التي يرى نعوم تشومسكي أنها تؤدي إلى أفول الولايات المتحدة الأميركية، لكننا يمكن أن نضيف إليها عوامل جديدة من أهمها أن النظام الأميركي تخلى عن المبادئ التي صاغها الآباء المؤسسون، فانطلقت أميركا تدمر الدول، وتقتل الملايين باستخدام قوتها الغاشمة لفرض سيطرتها، وتحقيق مصالح شركاتها العابرة للقارات.

ونتيجة للسيطرة الأميركية تزايد الفقر في العالم، ومن المؤكد أن هؤلاء الفقراء سيتغلبون قريبا على خوفهم، وينفجرون في وجه أميركا ودول الاستعمار الغربية كلها.

وإذا كانت أميركا قد نجحت في إخماد ثورات الربيع العربي، باستخدام الانقلابات ودعم الاستبداد وإمداد حفتر بالأسلحة لتدمير ليبيا، فإن وعي الشعوب يتزايد بأن أميركا هي التي حطمت آمالهم ودمّرت تجاربهم الديمقراطية، وسفكت الدماء، ونهبت الثروات، وأفقرت الملايين الذين أصبحوا يبيتون على الطوى، ولم يعد أمامهم سوى أن يخرجوا بحجارتهم، أو بصدورهم العارية يدافعون عن حقهم في الحياة، ويرجمون الطغاة.

وهذا هو أهم العوامل التي ستؤدي إلى أفول الولايات المتحدة ودول الغرب الاستعمارية؛ فالثورات قادمة بلا ريب، لكن كيف يمكن أن نضمن سلميتها؟!

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.