آخر الحرس القديم في موسكو

Russia's President Vladimir Putin (L) meets with Rosneft CEO Igor Sechin at the Kremlin in Moscow, Russia December 7, 2016. Sputnik/Alexei Druzhinin/Kremlin via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY. EDITORIAL USE ONLY.

إن نظام الرئيس فلاديمير بوتين أحد الأنظمة التي تستعصي على الفهم مقارنة بالأنظمة السابقة التي حكمت روسيا، والآن هناك لغز جديد قادم؛ فهل إن إيغور سيتشن -الذي يعدّ أقوى شخصية من الحرس القديم في سانت بطرسبورغ، وساعد على تأسيس نظام بوتين قبل 18 سنة- على وشك السقوط؟

إن الحرس القديم -وهم الرجال الذين جاؤوا من الأجهزة الأمنية والعسكرية- كانوا يتمتعون بسيطرة كاملة في روسيا خلال الجيل الماضي، وسيتشن كان يتمتع بمكانة أفضل ضمن جهاز "كي جي بي" (مخابرات الاتحاد السوفياتي) مقارنة ببوتين نفسه.

كما أن سيتشن تقلد العديد من الوظائف المهمة في إدارة رئيسه بوتين، ومنذ 2012 يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة النفط العملاقة والتي تملكها الدولة "روسنفت"، وهي ثالث أضخم شركة في روسيا (بعد غازبروم ولوك أويل)، علما بأن رئيس مجلس الإدارة فيها منذ سبتمبر/أيلول هو المستشار الألماني السابق غيرهارد شرويدر.

روسيا تعمل من خلال الرشوة؛ وعليه فإن القرار بتحريك دعوى رشوة ضد لاعب قوي مثل سيتشن لا يتعلق على الإطلاق بحكم القانون، فالدافع الحقيقي لقرار سيتشن ملاحقة يوليكايف لا يزال غامضا وربما شعر بأنه بحاجة لتذكير الوزير بحجمه ضمن تراتبية الكرملين الجامدة، أو ربما طبقا للشائعات فإن يوليكايف كان يعمل مع مسؤولين آخرين لكبح جماح سيتشن، وذلك بمنع روسنفت من الاستحواذ على أغلبية أسهم "باشنيفت"

وتحت قيادة سيتشن؛ أصحبت روسنفت دولة داخل الدولة، وذلك بربع مليون موظف وإيرادات تصل إلى 65 مليار دولار أميركي و50 شركة فرعية تابعة لها في روسيا وخارجها، أي نفس عدد شركات غازبروم.

علما بأن روسنفت كانت -وبشكل أكبر من غازبروم- من رواد طريقة عمل نظام بوتين منذ 2004، وذلك عندما استولت على أصول شركة يوكوس بعد سجن رئيسها ميخائيل خودروكفسكي المعارض بوتين، بعد أن وُجّهت إليه تُهَم الاحتيال والاختلاس.

لقد كان لسيتشن على الدوام خط مباشر مع بوتين، والعديد من الروس كانوا يفترضون -لفترة طويلة- أنه أيضا عين وأذن الجهاز الذي حل مكان "كي جي بي" (وهو جهاز الأمن الفدرالي) ضمن قطاع الموارد الطبيعية، الذي يشكل جوهر الاقتصاد الروسي ومركز شبكات القوى الفاسدة في البلاد.

لكن سيتشن يجد نفسه اليوم في معركة قضائية علنية للغاية وذات أهمية رمزية، حيث استدعته المحكمة الجزائية في موسكو ثلاث مرات للشهادة في قضية أليكسي يوليكايف وزير التنمية الاقتصادية السابق، ولكن سيتشن لم يحضر الجلسات بل أخبر مكتبُه مؤخرا المحكمةَ أنه لن يحضر قبل العام القادم.

كانت أعذار سيتشن في عدم الحضور اعتيادية: ضياع الاستدعاء، وبرنامج عمله الذي يتضمن زيارات حكومية كبيرة لفيتنام وتركيا؛ ولكن الشيء غير الاعتيادي هو قيام محكمة روسية بإصدار أمر لشخصية من وزن ومكانة سيتشن بالشهادة بشكل علني. بل على العكس؛ فإن هذه الخطوة في عالم سياسة الكرملين تعتبر غريبة للغاية.

لقد بدأ كل ذلك قبل عام عندما اعتقل يوليكايف في المكتب الرئيسي لروسنفت في موسكو، حيث زُعم أنه كان يحاول الحصول على رشوة بقيمة مليونيْ دولار من سيتشن، في مقابل دعمه لخطط روسنفت للاستحواذ على غالبية أسهم الدولة في "باشنيفت" (شركة نفطية إقليمية). لقد قام سيتشن -بعد إجراء محادثة سابقة تتعلق بالموضوع- بالتبليغ عن يوليكايف إلى جهاز الأمن الفدرالي الذي كان ينتظر لاعتقال الوزير.

لكن روسيا تعمل من خلال الرشوة؛ وعليه فإن القرار بتحريك دعوى رشوة ضد لاعب قوي لا يتعلق على الإطلاق بحكم القانون، فالدافع الحقيقي لقرار سيتشن ملاحقة يوليكايف لا يزال غامضا وربما شعر بأنه بحاجة لتذكير الوزير بحجمه ضمن تراتبية الكرملين الجامدة، أو ربما طبقا للشائعات فإن يوليكايف كان يعمل مع مسؤولين آخرين لكبح جماح سيتشن، وذلك بمنع روسنفت من الاستحواذ على أغلبية أسهم "باشنيفت".

وعلى أي حال؛ فإن خطة سيتشن -التي يُحتمل أن بوتين لم يكن يعلم عنها شيئا- سرعان ما أتت بنتائج عكسية، بعد أن أصبحت الإجراءات القانونية علنية، وتم الكشف في سبتمبر/أيلول عن نصوص تسجيلات سيتشن السرية لمحادثته مع يوليكايف، والتي تنطوي على الإدانة.

لقد وصف سيتشن قرار المحكمة فتح القضية للعامة بأنه "قماءة مهنية"، وادّعى أن قضايا مثل تلك القضية يجب أن تقفل من جميع الجهات لأنها تحتوي على أسرار دولة، ولكن الحقيقة هي أن سيتشن كان متعجرفا وغبيا عندما افترض أنه لن يتم إقحامه في القضية.

استهداف سيتشن لواحد من وزراء بوتين يبدو محاولة منه لاستعراض عضلاته، وربما يكون اعتقد أن ذلك سيُظهر جاهزيته كلاعب سياسي مهم، ولكن عوضا عن ذلك أظهرت هذه القصة -مرة أخرى- أنه لا يوجد "رقم 2" حقيقي في روسيا؛ فهناك بوتين فقط وهو يتحكم في جهاز الأمن الفدرالي والمحاكم ومفاصل الاقتصاد، ورسالته دائما غاية في الوضوح، وهي: أنا.. فقط أنا هو المسؤول

بالطبع، ونظرا لدور سيتشن في الإيقاع بيوليكايف؛ فإن المنطق يقتضي أن يكون أول شاهد يتم استدعاؤه، ولكن في روسيا لا تصبح الشخصيات القوية أو المشهورة -مثل خودوروكفسكي- متورطة في قضايا قانونية بدون موافقة صريحة من الكرملين، فلا يمكن لقاضي محكمة أو لمدّعٍ على مستوى منخفض في موسكو أن يستدعي سيتشن من تلقاء نفسه.

وعليه؛ فعندما تم استدعاء سيتشن بوصفه آخر شاهد (رقم 13 غير المحظوظ) كان هناك استنتاج منطقي واحد، وهو أن بوتين -الذي قام فعلا بإقصاء قيادات من الحرس القديم ساهموا في توليه مقاليد السلطة- قرر توبيخ سيتشن؛ فهذا المستشار القوي الذي كان يعمل من خلف الأبواب المغلقة تجاوز حدودَه كثيرا.

وكما في قضية خودوروكفسكي؛ يبدو أن الكرملين يستخدم المحكمة منبرا لتوضيح مواقفه من النخبة في روسيا، وهذا مهم على وجه الخصوص لأننا على أعتاب الانتخابات الرئاسية سنة 2018، وأيضا لأسباب ليس أقلها أن هناك شائعات بأن بوتين يسعى لإيجاد شخص مطيع ومحل ثقة ليتولى منصبه على الأقل بشكل مؤقت.

وحتى لو قرر بوتين الترشح -وهي النتيجة الأكثر احتمالية نظرا لولعه بالسيطرة الكاملة- فإنه سيسعى لإيجاد رئيس وزراء تابع له، فرئيس الوزراء الحالي ديمتري مدفيدف فقد مصداقيته بسبب عدم فعاليته -حسب العامة الذين ينظرون إليه بوصفه قزما سياسيا- وتواضع مستواه بسبب فساده الشخصي الذي تم كشفه.

إن استهداف سيتشن لواحد من وزراء بوتين يبدو محاولة منه لاستعراض عضلاته، وربما يكون اعتقد أن ذلك سيُظهر جاهزيته كلاعب سياسي مهم، ولكن عوضا عن ذلك أظهرت هذه القصة -مرة أخرى- أنه لا يوجد "رقم 2" حقيقي في روسيا؛ فهناك بوتين فقط وهو يتحكم في جهاز الأمن الفدرالي والمحاكم ومفاصل الاقتصاد.

وسواء قرر بوتين البقاء في الرئاسة أو ملء هذا المنصب مؤقتا بدُمية كما فعل مع مدفيدف 2008؛ فإن رسالته غاية في الوضوح، وهي: أنا.. فقط أنا هو المسؤول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.